في الآونة الأخيرة، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي نشر مقطع فيديو أثار استياءً واسعاً بين السوريين حول تهريب أحد بيوت دمشق القديمة إلى قطر.
حسين علي الزعبي
لم تعد البيوت الدمشقية القديمة منازل لسكانها ومتاحف لزوارها، بل أصبحت سلعا بيد تُجار الآثار داخل سوريا وخارجها. هذه البيوت وهويتها المعمارية باتت مهدّدة بالضياع نتيجة تفكيكها وتهريبها خارج سور دمشق وأبوابها السبعة.
وفي الآونة الأخيرة، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي نشر مقطع فيديو أثار استياءً واسعاً بين السوريين حول تهريب أحد البيوت الدمشقية إلى قطر. ويُظهر الفيديو بيتاً دمشقياً عريقاً يعود تاريخ تشييده لأكثر من 240 عاماً، في متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني بدولة قطر. وبحسب ما جاء في الفيديو، فإنّ البيت كان لحقّي العظم، وهو أوّل رئيس وزراء لجمهورية سوريا التي تم تأسيسها في عهد الانتداب الفرنسي عام 1932.
ويتألف البيت من فناء خارجي ونافورة في بحرة، وديوان وغرف بكامل تفاصيلها ومفروشاتها الأصلية وزخارف رخامية. وأعيد بناء البيت في المتحف القطري بحرفية عالية، كما تُعرض بداخله “تذكرة هوية”، باسم حقي العظم.
وكشف الإعلامي نضال معلوف، في تسجيل مصور، تفاصيل عملية تهريب البيت الأثري. وبحسب معلوف، فإنّ البيت تمّ تفكيكه كاملا، بما فيه من مقتنيات ثمينة وزخرفية وجدران وأسقف وأرضيات. وأكّد معلوف أنّ عملية نقل البيت إلى دولة قطر جرت في عامي 2014 و2015 أمام أعين مؤسسات الدولة.
معلوف نقل عن مصادر خاصة الآلية التي نقل بموجبها البيت الدمشقي إلى قطر. وفي هذا الصدد، قال: “أنشطة نقل البيوت ليست جديدة بل تعود لعقود من الزمن. وجرت العادة على أن يتم فك القطع الأصلية وتهريبها وتركيب قطع أخرى مقلدة ومطابقة بدلاً منها”.
من جانبه، أكد حمزة سقباني، وهو باحثٌ مختص في التراث الدمشقي، ما جاء به “معلوف”. وأشار إلى أن اهتمام الجهات الداخلية والخارجية بالبيوت الدمشقية يعود إلى ما قبل عام 2000. وبدأ هذا الاهتمام مع انتشار ظاهرة تحويل هذه البيوت إلى مطاعم ومقاهي وفنادق. ومع تغول المستثمرين في هذه المناطق، انتشرت ظواهر أخرى كالتنقيب عن الذهب والآثار واستبدال القطع الأصلية لتلك البيوت بأخرى مزيفة.
ويقول سقباني: “يقوم النظام السوري بتسهيل عملية تهريب تلك القطع. وتشرف على هذا النوع من الجرائم مجموعاتٌ لها ارتباطات بشبكاتٍ دولية متخصصة في التنقيب عن الآثار وتفكيكها وتهريبها”.
وأعلن فرع الأمن الجنائي في دمشق أكثر من مرة عن ضبط مجموعات تحفر في البيوت القديمة في العاصمة للتنقيب عن الذهب والآثار. واعتبر رئيس غرفة الجنايات بمحكمة النقض أحمد البكري أن ظاهرة التنقيب عن الذهب والآثار ليست غريبة عن المجتمع السوري.
ووفقا لمديرية آثار دمشق، يُقدر عدد بيوت دمشق القديمة بـ 6000 عقار، منها 3300 منزل سكني، و1560 موزعة ملكيتها بين عامة وخاصة، و1140 عقار مُستملك مع وقف التنفيذ. ولا يتم ترميم هذه الفئة من البيت، كما لا يُلغى استملاكها. وتعتبر أغلب هذه البيوت أثرية أو تدخل في نطاق الشريحة الأثرية. وتتداخل ملكيتها بين الخاص ومديرية الآثار ومحافظة دمشق ووزارة الأوقاف، ما سبب صعوبة كبيرة في تحصيل أوراق الترخيص والرخصة.
ويؤكد مازن فرزلي، مدير مديرية مدينة دمشق القديمة، أنّ ما يزيد عن 56 من هذه البيوت تحولت إلى فنادق تراثية، لافتاً إلى محافظتها على مواصفات البيت العربي بعد أعمال الترميم. وبحسب فرزلي، فإن هناك من يحصل على رخصة ترميم، ولكنه لا يلتزم بشروط الترميم المرتبطة باستخدام مواد البناء التقليدية كاللبن والخشب والحجر. ويقوم هؤلاء باستخدام البلوك والاسمنت وهذا مخالف لشروط الترميم.
أبعاد سياسية
يرى الباحث سقباني أن الاهتمام بالأحياء الدمشقية القديمة لم يكن بغاية الاستثمار فحسب، وإنما بهدف امتلاك هذا التراث وتغيير ملامحه. ويلفت سقباني إلى الضغوط التي تُمارَس على أصحاب البيوت الدمشقية القديمة لبيع منازلهم. ويقول سقباني إن إيران “تحاول عبر سماسرة ودلالين الاستيلاء على دمشق، لا سيما المناطق القديمة فيها عبر الترغيب والترهيب. وقامت جهاتٌ إيرانية بشراء عقارات كثيرة في عدد من الأحياء الدمشقية، كالشاغور وباب توما.
وفي ديسمبر 2018، نقلت صحيفة “المدن” اللبنانية عن مصادر خاصة نقل ملكية ما يزيد عن ثمانية آلاف عقار لإيرانيين وعراقيين شيعة منذ انطلاق الثورة السورية. كما أشارت الصحيفة في تقريرها إلى دور السفارة الإيرانية في إتمام عمليات البيع وتسهيل الموافقات الأمنية اللازمة للبائع والشاري، وتقديم التسهيلات اللازمة للحصول على رخص الترميم.
محاولات امتلاك البيوت الدمشقية القديمة لم تقتصر على الإيرانيين، حسبما يقول أستاذ التاريخ مرهف اللحام. ويؤكد اللحام وجود “محاولات إسرائيلية وحملات للمطالبة بتعويضات عن ممتلكات يهود سوريا، نيابة عنهم أو عن ورثتهم”.
وكان أثرياء اليهود قد شيّدوا قصوراً عدّة في دمشق. ومن هذه القصور لزبونا وفارحي وشمعايا والخواجة إسلامبولي. وبلغ عدد معابد اليهود في دمشق وحدها عشرة كنس، أشهرها كنيس سوق الجمعة وكنيس جوبر الذي تعرض للتدمير وتعرضت محتوياته للنهب والسرقة.
ولتركيا اهتمامٌ بدمشق القديمة، في ظل تواجد الكثير من الآثار التركية العثمانية فيها. ومن هذه الآثار سوق مدحت باشا وساحة المرجة وجامع لالا باشا وجامع تنكز والتكية السليمانية. كما يتواجد في المدينة القديمة ثلاثة أضرحة تعود إلى “أوائل شهداء” سلاح الجو العثماني. وكانت السفارة التركية بدمشق قد قامت بأعمال الترميم في دمشق القديمة في عام 2009.
جشع الاستثمار
شكلت البيوت الدمشقية هدفا للمستثمرين الذين حولوا نسبة كبيرة منها لمطاعم وفنادق. واشتغل هؤلاء المستثمرون اللمسات المعمارية والفنية المميزة لهذه البيوت، سيّما وأنها تتميز بمساحتها الواسعة. ومن المواصفات التي تتمتع بها هذه البيوت وجود مساحة واسعة وباحة كبيرة تتوسطها نافورة ماء تحيط بها غرف كبيرة ومتعددة.
تعاني معظم بيوت دمشق القديمة من تصدعات وتسرب المياه من أسقفها خلال فصل الشتاء. ويعود السبب في ذلك إلى عجز أصحاب هذه البيوت عن إصلاحها أو ترميمها لسوء أوضاعهم المادية وصعوبة الحصول على رخص الترميم من المحافظة. وأدى ذلك إلى جعل هذه البيوت هدفاً للمستثمرين.
ويرى اللحام، وهو أحد سكان حي القيميرية، أن تحول دمشق القديمة كلّها إلى مطاعم وفنادق وتفريغها من قاطنيها يتعارض مع قيمتها التاريخية، خاصة أنها مسجلة على لائحة التراث العالمي. وفي هذا الصدد، يقول اللحام: “إن فتح الأبواب على مصراعيها للمستثمرين سيسيء إلى سمعة المدينة، خاصة أن نسبة كبيرة من هؤلاء المستثمرين لا يعرفون تقاليد السياحة في تلك المناطق”.
ولا يخفي اللحام مخاوفه من تغوُّل الاستثمارات في كامل الأحياء التراثية القديمة، خاصة أنَّ عمليات الترميم اللازمة لهذه البيوت “المتهالكة” تتسارع عندما يوضع أحدها بالاستثمار. وبعيداً عن كل ما يحكى عن الحماية والضوابط، فإن عمليات الترميم تجري بما يتناسب مع المشروع الاستثماري فقط. كما أنّ جميع الاشتراطات والقيود السياحية والآثارية المفروضة على المالكين والقاطنين والشاغلين تذوب أمام تغوُّل أصحاب الاستثمارات السياحية، وخاصة المطاعم والفنادق التي غزت المنطقة.
وتشكّل أحياء دمشق القديمة 5% من مساحة العاصمة السورية. ومنذ عام 1979، تتواجد دمشق القديمة على لائحة التراث العالمي لمنظمة “اليونيسكو”.
القانون والاسترداد
بحسب القانون السوري، فإن الآثار هي “الممتلكات الثابتة والمنقولة التي بناها أو صنعها أو أنتجها أو كتبها أو رسمها الإنسان قبل مئتي سنة ميلادية أو مئتين وست سنوات هجرية”. وسمح قانون الآثار بأن تبقى ملكيّة المباني التاريخية التي لا تملكها الدولة وحيازتها بأيدي مالكيها والمتصرفين فيها. ولا يجوز لهؤلاء استخدام هذه المباني في غير الغاية التي أنشئت من أجلها. وللسلطات الأثرية أن تسمح باستعمال المباني لغايات إنسانية أو ثقافية.
ويعاقب القانون من يهرّب الآثار أو يشرع بتهريبها بالاعتقال من خمس عشرة سنةً إلى خمس وعشرين سنةً. كما تفرض عليه غرامة تتراوح بين خمسمئة ألف ليرة ومليون ليرة. وفي حال لم يكن المبنى مسجلاً على أنه أثري لدى مديرية الآثار والسجل العقاري، فإن الأمر يخرج عن إطار قانون الآثار إلى قانون العقوبات العام.
من جانبه، يؤكد عبد الناصر حوشان، عضو مجلس نقابة المحامين السوريين الأحرار، أنه يُحظر على ملّاك الآثار المسجلة هدمها ونقلها وترميمها أو تغييرها على أي وجه بغير ترخيص سابق من السلطات الأثرية. ويضيف حوشان: “إذا كان منزل حقّي العظم تتوّفر فيه هذه الشروط ومسجّلاً في السجلّ العقاري كبناء أثري حين التفكيك والنقل والتهريب، فهذا الفعل يُعدّ جريمة تهريب آثار، وهي جريمة جنائيّة الوصف منصوص عليها بالمادة 56 من قانون الآثار”.
أما فيما يتعلق بإمكانية استعادة منزل حقّي العظم، يرى حوشان أن ذلك مرهون بقرار مديرية المتاحف، لأنها صاحبة الصلاحية في تصنيفه وتسجيله كبناء أثري. ويضيف: “إذا كانت المديرية متورطةً في تهريب المنزل، فمن المرجّح أنها أعدّت الأمور القانونيّة لذلك قبل الفك والتهريب. ويكون ذلك عبر ما تمتلكه المديرية من صلاحيات واسعة في تصنيف البيوت الأثرية وتسجيلها وترقيمها”.
ووضعت منظمة اليونسكو مجموعةً شاملةً من الوثائق الدولية لحماية التراث الثقافي. كما تشتمل “اتفاقية لاهاي” بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح 1954 وبروتوكولاتها على معايير دولية إضافية تتيح معالجة المخاطر المحددة التي تواجهها الممتلكات التراثية في فترات النزاع.
وبحسب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن التدمير المتعمد للمباني التاريخية “جريمة حرب”، وهو ما قد يشكل دعامة أساسية لحماية المباني التاريخية في دمشق القديمة. يأتي ذلك في الوقت الذي دعا فيه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2139 إلى حماية التراث والتنوع الثقافي في سوريا.
وتحتل دمشق القديمة الرقم “20” ضمن مدن التراث العالمي بحسب موقع “يونسكو”. وتعد دمشق من أقدم المدن المأهولة في العالم وأقدم عاصمة في التاريخ. وتضم العديد من الأحياء العريقة والأسواق والخانات والمساجد والكنائس والمدارس والشوارع المرصوفة والقلعة والسور الروماني.