وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

من الضاحية الجنوبية لبيروت: أصوات تقاوم محو الذاكرة

يترافق قتل الذاكرة مع الإبادة الجماعية، فيمسح الاحتلال المعالم الثقافية والدينية والتاريخية، والمدن والأحياء التي تشكّل جزءًا رئيسًا من هوية الشعب المستهدف.

من الضاحية الجنوبية لبيروت
تصاعد الدخان فوق الضاحية الجنوبية لبيروت بعد غارة جوية إسرائيلية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. فاضل عيتاني/ا ف ب

نور سليمان

مشاعر غضب وحزن وحنين تنتاب محمد، الشّاب الثلاثيني، وهو يتجول في شوارع حفظها عن ظهر قلب في الضاحية الجنوبية لبيروت. في تلك الزاوية، مقهى كون فيه صداقات العمر وفي ذلك الحيّ يقع المركز الطبي حيث أنجبته والدته. كلها أماكن كانت قبل أشهر تضج بالحياة، استحالت اليوم ركامًا شاهدًا على إمعان آلة الحرب الإسرائيلية التدميرية في السّعي لتغيير معالم المنطقة وتشويهها في وجدان أهلها.

خلال الأسابيع الماضية من العدوان الإسرائيلي المستمرعلى لبنان، تكثفت الغارات على الضاحية الجنوبية. فبعد أن كان القصف مَحصورًا في ساعات اللّيل والفجر، باتت الضاحية تُقصف على مدار الساعة تقريبًا. يستيقظ اللّبنانيون ليشاهدوا مبانٍ وتجمعات سكنية فيها تتهاوى بنيران الصواريخ، فتلفظ أحشاءها ويتناثر ما بداخلها من أثاثٍ ومقتنيات شخصيّة وجنى أعمار ساكنيها في الأرجاء، حتى بلغ عدد المباني المدمرة أو التي تعرضت لأضرارٍ جسيمةٍ من جراء الغارات على بيروت وضاحيتها أكثر من 320 مبنى.

تقع الضاحية الجنوبية بين ساحل بيروت الجنوبي وبداية جبل لبنان شرقي بيروت، ويبلغ عدد سكانها نحو مليون نسمة يتوزعون بين لبنانيين أغلبهم وفدوا إليها من الجنوب والبقاع، وبين سوريين وفلسطينيين وحملة جنسيات أخرى، ومن أشهر أحيائها الشّياح، الغبيري، حارة حريك، برج البراجنة، بئر العبد وحي السلم.

غالبًا ما يشار في الإعلام إلى الضاحية على أنّها “معقل حزب الله” باعتبار أنها تضم مقرات ومؤسسات مرتبطة بالحزب وبيئة مناصرة له، ولكن في التسمية اختزال وتهميش لنسيجها الاجتماعي والاقتصادي وثقلها السكاني وتنوع المؤسسات فيها بين مدارس وجامعات ومستشفيات وأسواق تجارية ومرافق حيوية، الأمر الذي يساهم في نزع الصفة المدنية عنها بما يخدم سردية الجيش الإسرائيلي وتبريره لاستهدافها.

يقول محمد لـ”فنك” إنَّ الضاحية التي ترعرع فيها شكلت جزءًا رئيسًا من شخصيته وهويته. لطالما أدهشته قدرة أهلها على جمع كل التناقضات. لين وألفة وشهامة أهالي القرى التي يتحدرون منها، والشدة والطباع الحادة التي فرضتها عليهم ظروف اقتصادية قاهرة وحوادث أمنية وويلات الحروب.

حنين أهل الضاحية لقراهم دفعهم إلى تحويل أزقتها الضيقة ومبانيها المتلاصقة إلى قرى صغيرة. “الكل يعرف الكل هنا، والكل مستعد لمساعدة الكل. على الرغم من تركي للضاحية، أتصرف وفق عادات اكتسبتها من أهلها، كأن أهب لمساعدة غريب في الشارع دون أن أعرفه”.

يعيش محمد خارج الضاحية منذ 4 سنوات، لكنّها بقيت نقطة ارتكاز يعود إليها في كلّ مرة يحتاج إلى شراء أبسط احتياجاته أو حتى تصليح سيارته. “أعرف أصحاب المحال منذ زمن وأثق بهم، فهم موجودون في المنطقة منذ عقود وبعضهم ورث مهنته عن آبائه وأجداده، وأصبح إسمه معروفًا يقصدهم الناس من خارج الضاحية”.

يرى محمد في ذلك امتدادًا لمراهقة ونضوج عاشهما هناك. “كمراهق، كانت تبدو لي الحياة سهلة في الضاحية، تمامًا كسهولة أن أشارك بتلقائية في حديث مع غرباء يجلسون على مقربة مني في أحد المقاهي الشّعبية، فينتهي بنا الأمر ونحن ننادي بعضنا يا صاحبي أو يا خيي”.

محو الذاكرة

حين وقف محمد أمام ركام المبنى المدمر حيث يقع مقهاه المفضل “مونتانا” في الشياح استعاد شريط ذكرياته في المكان. مرات لا تُحصى قصده فيها بحثًا عن فسحة راحة بعد تعب، أو فنجان قهوة كفيل بتخفيف وطأة خيبة ما، أو للقاء أصدقاء اعتادوا على مألوف نادر الوجود في أي مكان آخر.

بدا وكأنّه يعيد ترميم المبنى في مخيلته، ويرفع اللافتة التي تحمل اسم المقهى إلى مكانها بعد سقوطها فهي تحولت مع السنوات إلى إشارة للاستدلال على المنطقة. أمل محمد بذلك أن يحبط محاولة الاحتلال اغتيال ذاكرته.

«إبادة الذاكرة»، أو «قتل الذاكرة» هو ما يحاول الاحتلال ارتكابه في الضاحية الجنوبية كاستكمال لما ارتكبه في جنوب لبنان والبقاع، وكتكرار لما فعله في غزة. وهي تقوم على التدمير المتعمد والممنهج لتاريخ شعب معيّن وهويته، ولا يقتصر قتل الذاكرة على المواقع المادية، بل يشمل أيضًا العناصر الاجتماعية والثقافية والرمزية التي تشكّل الذاكرة الجمعية.

يترافق قتل الذاكرة مع الإبادة الجماعية، فيمسح الاحتلال المعالم الثقافية والدينية والتاريخية، والمدن والأحياء التي تشكّل جزءًا رئيسًا من هوية الشعب المستهدف.

في هذه الحرب اختبر محمد الفقدان على مستويين. عدد من أحبائه وأصدقائه ومعارفه ارتقوا شهداء. يروي محمد لـ”فنك” كيف أنه تعرف إلى واحد منهم في لعبة كرة قدم في أحد ملاعب الضاحية لتجمعهما فيما بعد صداقة وطيدة. آخر تعرف إليه في أحد مقاهي الإنترنت التي كانت منتشرة بشكلٍ كبيرٍ مطلع الألفينات.

اليوم لا يرثي محمد أصدقاءه فحسب، بل الأماكن التي جمعته بهم. لن يستطيع زيارتها مستقبلًا ليجد بعضًا من العزاء فيها، فكلها دُمرت ليتعمق بذلك مصابه وتجمع خسارته بين العمقين الإنساني والمادي.

بحسب محمد، تتجاوز الأماكن في الضاحية حدود وظيفتها لتشكل جزءًا من الذاكرة الشّعبية، كمطعم “حرقوص” مثلًا الذي دمرته الغارات الإسرائيلية بعد أن أصبح معلمًا حتى سُمي الدوار الذي يقع بقربه باسمه. “حرقوص مطعم القَطعة”، كما يقول محمد، فهو كان يقصده باستمرار وأصدقائه لأن أسعاره كانت مقبولة وأرخص بالمقارنة مع غيره من المطاعم.

بابتسامة يشارك محمد كيف أنه اتصل مرة بصديقه ليطمئن إلى كون مطعم الشاورما الشهير الذي يرتاده في الضاحية لم يتضرر جراء القصف. يقول إن “للأطعمة أيضًا حصة من ذاكرتنا مع المكان”. فزيارته المطعم بعد الحرب لتناول سندويتش شاورما ستشكل انتصارًا صغيرًا له.

“لم أستطع التعرف إلى شوارع قضيتُ فيها طفولتي”

بقلب مثقل تحاول إيمان، الشابة العشرينية، توصيف هول خساراتها. تقول لـ”فنك” إنها لا تزال تحاول فهم وتقبل ما تعنيه “إبادة الذاكرة”، فكيف لذاكرة صنعتها هي في مكانين أن تُباد؟ وكيف لجهة في هذا العالم أن تملك كل تلك القوة القادرة على ارتكاب هكذا جريمة؟

من قريتها الجنوبية الحدودية بليدا إلى منزلها في برج البراجنة لاحق المحو الإسرائيلي إيمان.

في بليدا، طالت نيران الجيش الإسرائيلي أكثر من 70٪ من المباني ضمن عمليات نسف وتجريف وهدم وتدمير ممنهج طالت البيوت والأحياء التاريخية فيها. ادعى الاحتلال أن ذلك يأتي في سياق عملياته ضد حزب الله ونشاطه العسكري، إلا أن تحقيقات صحفية لبنانية أظهرت أن النسق التدميري الواسع في البلدة يتعدى الحرب العسكرية التقليدية ليستهدف المجتمعات والأفراد ووجودهم الماديّ والمعنويّ.

أبعدت الحرب إيمان عن قريتها لسنة ونصف، واقتصرت معرفتها بما يجري فيها ببعض الفيديوهات التي توثق حجم الدمار الهائل الذي لحق بها. “لا أعرف حتى الآن إذا ما كان بيتنا في بليدا لا يزال موجودًا، ولكن ما آلمني أكثر أنني لم أستطع التعرف إلى أحيائها وشوارعها في الفيديوهات التي شاهدتها. كنت أحفظها زاوية زاوية، وأجدني اليوم لا أستطيع تحديد ملامحها”.

كانت تجد مواساة في بيتها في الضاحية “حيث تنتمي” كما تقول. قبل أن يجبرها الاحتلال على النزوح، عاشت إيمان لـ 10 سنوات في نفس المبنى حيث كان بيت جدها، مرتع طفولتها، في برج البراجنة.

ولأن الاحتلال والأمان لا يجتمعان على أرض واحدة، دُمر المبنى الذي يضم منزل إيمان بالكامل بغارة استهدفته، واستهدفت معه وجود إيمان وعائلتها في المنطقة، وذاكرتهم وهويتهم واستمراريتهم فيها.

اليوم تشعر إيمان وكأنّها تعيش غربة في وطنها. تبحث دون جدوى في شوارع تقصدها بحكم نزوحها عن الدفء الذي عرفته في برج البراجنة. في الفرن الذي كانت تقصده وجدتها في حي المنشية، في السوق حيث تجد كل ما تبحث عنه، لدى الخياطين وباعة الخضار وأصحاب المتاجر والجيران.

“هذه ليست شوارعي، شوارعي التي أعرفها مُسحت. بيتي الذي أرجع إليه فيزيل عني عناء يوم عمل طويل، مُسح”. تُدرك إيمان ألا شفاء من إحساس الغربة ذلك سوى بالعودة التي لا تزال غير ممكنة حتى الآن.

“لا ذكرى سيئة” لها في برج البراجنة، كما تقول، لكنّها على الرغم من ذلك تتجنب استرجاع ذكرياتها هناك أو أن تتمعن في صور الدمار التي تصلها حتى لا تتعمق صدمتها النفسية، فهي ليست جاهزة للرثاء بعد. “لم أقو بعد على زيارة منزلي المدمر. أشعر أن ذلك سيجعل من الجريمة حقيقة مؤكدة سأُضطر لمواجهتها، بعد أن كانت عالقة فقط خلف شاشة هاتفي”.

متحديةً محاولاتها تلك، تسللت ذكرى واحدة وداهمتها في مرة. كانت متواجدة في مكان تفوح فيه رائحة من شجرة. فعادت بها الرائحة إلى بيت جدها في بليدا حيث غُرست شجرة تحمل الرائحة نفسها. تتأمل إيمان في قدرة أشياء بسيطة على أن توقظ داخلها هذا الكم من الحنين، وتتساءل كيف وصل بها الأمر إلى أن يسكنها كل هذا الاشتياق إلى تلك الأماكن ولا تستطيع زيارتها، وكيف تحولت فجأة إلى شاهدة توثق بروايتها دمار البيت والضيعة والذاكرة.

“أشعر أن الاحتلال نكّل بطفولتي وماضيّ وحاضري، ويمكن له أن ينكّل بمستقبلي أيضًا”، تقول.

هو عقاب جماعي ينزله الاحتلال على أهل الضاحية، فله معها تاريخ طويل من الانتقام والبطش الذي وصل إلى حد تسميته استراتيجية عسكرية قاتلة باسمها.

عقيدة الضاحية استخدمها الاحتلال لأول مرة في حربه على لبنان عام ،2006 وهي عقيدة عسكرية تدعو إلى استخدام قوة هائلة وغير متناسبة واستهداف للمدنيين والبنية التحتية المدنية والمرافق العامة بشكلٍ متعمد للضغط على الجماعات المعادية بهدف قلب موازين المعركة لصالحه، ويسعى الاحتلال من خلال انتهاجها إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الأضرار بالمدنيين، واتباع سياسة الأرض المحروقة بغية جعلها غير صالحة للسكن.

لتحقيق ذلك، يستخدم الاحتلال قوة مفرطة أكبر بكثير من تلك التي استخدمها الطرف الآخر ليضمن أن التكلفة البشرية والمادية لأي هجوم مضاد ستكون باهظة، مما يجعل الرد على الهجوم أمرا مكلفًا وصعبًا، ويضاعف حجم الخسائر لدى البيئة الحاضنة للطرف الآخر، ويساهم بالتمهيد لتأليبها عليه على المدى الطويل.

وتنتهك هذه الاستراتيجية القانون الدولي الذي يحظر استهداف المدنيين (المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف)، والمادة 8 من نظام روما الرئيس التي تحظر استهداف المواقع المدنية كالمدن، والقرى، والمساكن، والمباني العزلاء التي لا تشكّل أهدافًا عسكرية بأيّ وسيلة كانت. وتخالف أيضًا مبدأي التناسب والوقاية في شنّ الهجمات. وتُعد كلّ تلك المخالفات جرائم حرب، بالإضافة إلى العقاب الجماعي بحسب القانون الدولي.

“هو ليس بيتًا، بل جزء من روحي”

تواسي نبيلة (60 سنة) نفسها بالتنقل بين صور التقطتها بهاتفها لورودها المزروعة على شرفة منزلها في حارة حريك قبل أن تنزح عنه. تحتفظ نبيلة بصور ورودها فهي تذكرها بزمن ما قبل الحرب، فيما سارعت إلى مسح فيديو وصلها يظهر دمارًا جزئيًا لحق بمنزلها بفعل غارة إسرائيلية استهدفت مبنى محاذيًا للمبنى الذي تسكن فيه. “لم أشأ أن أتمعن في تفاصيل الدمار. كنت سأشعر أن أجزاء من روحي قد تهشمت. اكتفيت بأن أتأكد أن المنزل لا يزال موجودًا، والباقي هيّن”.

كانت تعيش نبيلة وحدها في منزلها. قضت عمرها كله فيه. فيه اعتنت بوالدها ووالدتها قبل وفاتهما، وفيه تعلمت كيفية تحضير الأكلات التي يحبها أشقاؤها وأولادهم الذين كانوا يزورونها لتناول الغداء أسبوعيًا.

“روتيني مرتبط بشكلٍ كبيرٍ بالحيّ الذي أسكنه. الصبحية مع جارتي على شرفتي. مشواري إلى محل أبو علي لشراء الخضار، والتحايا التي ألقيها على الذين أصادفهم في الشارع، كلها جزء لا يتجزأ من يومي”.

تقول نبيلة إن بيتها لا يُختصر بسقفه وجدرانه، “ففيه صنعتُ عالمي الخاص”.

الأسواق والمحال التي تعرفها نبيلة جيدًا تعرض محيطها لأعنف الغارات. المنطقة التي تكاد لا تهدأ فيها زحمة الناس تحولت شيئًا فشيئًا إلى مدينة أشباح تجول في سمائها طائرات حربية يُنذر هديرها بمزيد من التدمير والمحو.

يريد الاحتلال أن ينعدم الأمان في المنطقة بشكلٍ كليّ، وأن يبتر علاقة أهلها وسكانها بها لتصبح علاقة يحكمها الرعب، وبذلك يضرب انتمائهم إليها ويهجرهم منها ويجعلها غير قابلة للحياة، وبالتالي يعدم فرص عودتهم إليها، والبناء فيها من جديد طالما أنه قادر على تدمير كل ما بنوه في ثوان وبدعم غربي مطلق، وفي ظل عجز المجتمع الدولي عن محاسبته.

الدمار طال المقابر أيضاً

في مدافن روضة الشهيدين في الضاحية الجنوبية، يرقد شقيق محمد الأكبر وعدد من رفاقه. اعتقد محمد أن المكان بمأمن من القصف الإسرائيلي إلى أن وصله فيديو يوثق دمارًا لحق بها.

“في ظل الاحتلال حتى الأموات لا يرتاحون” يقول محمد، ويضيف: “لم أتفقد قبر شقيقي بعد. أخشى أن يلحق به دمار أكبر بعد أن شاهدت الدمار في مقبرة أخرى في الضاحية، وهي مقبرة الرادوف. أشعر وكأنّهم ينبشون القبور ولا أستطيع أن أحدد طبيعة شعوري فيما لو شاهدت قبر أخي على تلك الحال. ولكنني أعرف أن إحساسي العارم بالقهر سيطغى”. حين يفكر محمد بأنهم لاحقوا أخاه إلى قبره، يشعر وكأنّ الأمر أصبح بمثابة “ثأر شخصي” بينه وبين الاحتلال.

على غرار المشهد في الضاحية، عمد الاحتلال إلى نسف وتجريف عدد من المقابر في قرى جنوبية حدودية مستهدفًا الارتباط الروحي لأهل الأرض بأرضهم التي تحتضن أحبتهم، ومحاولًا اقتلاع تجذرهم بها، خصوصًا وأن الناس مهما تغربوا عن أرضهم سيبقى لهم فيها أضرحة أهل وأقارب وأصدقاء سيعودون لزيارتها لإحياء ذكراهم.

وتُعدّ المقابر جزءًا رئيسًا من التراث الثقافي والروحي للمجتمعات، ويعتبر التعدي عليها جريمة حرب وانتهاكًا للقانون الدولي وقانون الحرب، فهي محمية وفقًا للمادة 53 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والمادة 4 من اتفاقية لاهاي لعام 1954.

الحياة غير ممكنة خارج الضاحية

في مواجهة محاولات المحو الإسرائيلية، يتمسك محمد بذاكرة صورية يحملها عن الضاحية. “كنت أتجول فيها كثيرًا حتى صارت زواياها مطبوعة في ذاكرتي، ولا يمكن للحرب أن تزعزع ذلك”.

يعتبر محمد أن واجبه اليوم، كما أهل الضاحية، أن يوثقوا حكاياهم فيها، والحديث عنها. “الحكي عن الضاحية والأبعاد الإنسانية والاجتماعية التي لا يعرفها الناس عنها سيحفظ تاريخها وما تمثله لنا”، فالذاكرة قادرة على المقاومة.

يتذكر محمد كيف دُمرت ساحة الشورى خلال حرب عام 2006. “كنت أمر في المنطقة كل يوم في طريقي إلى المدرسة. بعد الحرب، زرت المكان وانتبهت إلى أن الشجرة الموجودة فيه لا تزال واقفة. كان ذلك كفيلًا بأن يمسح على قلبي. بعض تفاصيل الأمكنة كفيلة بإبقائها حية”، يقول محمد، ويؤكد أنّه “لا يمكن لشيء أن يغير علاقته بالضاحية، وارتباطه بها”.

أما إيمان فتتأرجح مشاعرها بين يقين وحسرة، فهي تدرك جيدًا أنّها لن تقضي عمرًا كاملًا ترثي ذاكرتها.

“سنعود. وسنعيد إحياء ذاكرتنا وسنصنع ذكريات جديدة، ولكن هناك ما لا يمكن استرجاعه. الأحياء التاريخية في بلدتي والأبنية العتيقة لا يمكن استرجاعها. نعم، قد نعيد بناء المبنى الذي دُمر في برج البراجنة، ولكننا لن نسترجع بيت جدي الذي كان فيه، ولا التفاصيل التي نسجت ذاكرتي وذاكرة أهلي مع المكان”، تقول.

بالنسبة لنبيلة، العودة مسألة وقت. تعرف جيدًا ما ستفعله فور عودتها إلى المنزل. ستُسارع إلى رفع الزجاج المتناثر، وإعادة كل شيء إلى مكانه كما كان. ستتفقد ورودها أو ما تبقى منها، وستمسح الغبار عن كل ورقة من أوراقها.
ستحضّر القهوة وتدعو جارتها لتشاركها إياها. “سأشرب القهوة في منزلي. سأضحك لأول مرة منذ أشهر. ولكنني سأبكي كثيرًا أيضًا”.

بانتظار ذلك ستبقى حياتها معلقة. فهي لا يمكنها “تخيل الحياة خارج الضاحية”.

ملاحظة

دخل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، كما أعلنه أطراف الصراع.