وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عاداتٌ رمضانية قيد الاندثار في البلاد العربية

تتلاشى العادات والتقاليد الرمضانية الفريدة من نوعها في مختلف البلدان العربية ببطء بسبب التدهور الاقتصادي والحرب والتقدم التكنولوجي.

عاداتٌ رمضانية
صورة تم التقاطها يوم 25 مارس 2023 لمسحر رمضان وهو يجوب شوارع خانيونس بقطاع غزة مع الأطفال لإيقاظ الناس للسحور. المصدر: Ali Jadallah/ Anadolu Agency via AFP.

علي العجيل

في كلّ دولة من بلادنا العربية نكهةٌ رمضانية مميزة ومختلفة عن بقية الدول الأخرى. ولكلّ مدينةٍ طقسها الخاص وتقاليدها وعاداتها التي تتوارثها عن الأجداد وتورّثها للأبناء. كلّ بلدٍ حسب ما يملك من ثقافة وتنوع ومعرفة.

وقبل بضعة عقود، كانت كثيرٌ من هذه التقاليد ما تزال موجودة، خصوصاً تلك التي تجتمع فيها العائلة على مائدةٍ واحدة وفي مكان واحد.

اليوم، وبعد ما تعرضت له المنطقة بشكل عام من حروبٍ وضغوطٍ اقتصادية ومعيشية ونفسية، يحلّ شهر رمضان ثقيلاً بعض الشيء. فقدرات معظم العرب لن تمكّنهم من الاحتفال بشهر رمضان المبارك مثلما اعتادوا من قبل. والعادات الأصيلة لم تعد جميعها موجودة كما سبق.

عاداتٌ قديمة

مع تنوع الثقافات والموروثات الشعبية، تختلف عادات وتقاليد استقبال رمضان في البلاد العربية في أماكن، وتتشابه في أماكن أخرى. كما أنّ بعض هذه العادات والتقاليد قد يزدهر في مكان ويضمحل أو يندثر في أماكن أخرى. وعلى سبيل المثال، لا يزال فانوس رمضان والمسحراتي وتبادل الأطباق جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه في كلّ البلاد، على الرغم من غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الصعبة.

وعلى امتداد عقودٍ طويلة، كان الفانوس وسيلة الإضاءة الأساسية في المدن الإسلامية وغيرها من مدن العالم. إلا أنّه تحول تدريجياً إلى رمز من رموز شهر رمضان المبارك. وكانت بداية التحوّل، حسبما يُروى، عندما دخل المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر.

ومع أنّ المصابيح الكهربائية جرَّدت الفوانيس من وظيفتها تدريجياً، خاصة بعدما عمّت الإضاءة الكهربائية كل الأماكن، ما زال الفانوس جزءاً أساسياً من رمضان، وإن كان مجرد زينة.

أما المسحراتي، فهو شخصيةٌ فلكلورية مشهورة يطلق عليها في بعض الدول “المسحرجي”، كما يسمى في العراق. وهو رجلٌ يتم اختياره من أهل المدينة، يتجوّل قبل الفجر في الشوارع وفي يده “طبلٌ” ليذكّر سكانها بتناول وجبة السحور قبل أن يُرفع أذان الفجر.

وكان الأهالي يعتمدون بشكل تام على المسحّر لإيقاظهم ويعتبرونه من أساسيات شهر الصيام. لكن مع التطور وظهور الساعات الحديثة، ضعف دور هذه الشخصية، وكاد يختفي وخصوصاً في سنوات الاضطراب الأمني.

من العادات الجميلة أيضاً تبادل الأطباق أو “السكبة”. ولسكبة رمضان نكهةٌ خاصة، خصوصاً عند السوريين. وتعمد العائلات السورية خلال شهر رمضان على الإكثار من الطعام، حتى وإن كانت العائلة صغيرة، لإرسال “سكبة” إلى الجيران قبل موعد الإفطار.

وتتألّف “السكبة” في أغلب الأحيان من طبقٍ أو طبقين من الطعام المطهو، ما يُغني المائدة أكثر على عكس الأيام العادية.

تقول سعاد سالم، وهي سوريّة عمرها 37 عاماً وتقيم في دمشق، لفنك: “لديّ جارةٌ أرملة وضعها المادي متردٍّ للغاية ولا تستطيع أن تطعم نفسها وعائلتها في الأيام العادية. ومع ذلك، فإنها لا تنسى أن تمرّر أطباق الطعام لي ولعائلتي في شهر رمضان”. وتضيف: “لقد ورثنا هذه العادة عن أمهاتنا، وتعوّدنا منذ الصغر على العمل بها. ومهما كانت الظروف قاسية، لا أستطيع إلا القيام بذلك”.

أمّا الأردن، فتنتشر فيه عادة “الخيم الرمضانية”. وجرت العادة على أن تقوم مؤسسة أو منظمة أو مجموعةٌ من الأفراد بإعداد مائدةٍ كبيرة للناس ضمن خيمة في الشوارع، لتناول وجبة الإفطار اليومية. ويستمر حضور هذه الخيم في الشوارع على مدار الشهر كله. وقد يترافق حضور الناس لهذه الخيم مع الاستماع إلى القرآن الكريم، أو التواشيح الدينية التي ينشدها المنشدون. وفي بعض الأحيان، يستمع الناس في الخيم للحكواتي أو لمحاضرةٍ دينية يلقيها عليهم أحد كبار العلماء.

مدفع الإفطار

يعتبر مدفع الإفطار من أبرز التقاليد المرافقة لشهر رمضان في العالم العربي. ويُقال إنّ والي مصر محمد علي باشا كان قد اشترى عدداً كبيراً من المدافع الحربية الحديثة في إطار خطته لبناء جيشٍ مصري قوي. وفي يوم من الأيام الرمضانية، وأثناء الاستعدادات التي كانت تجري لإطلاق أحد هذه المدافع كنوعٍ من التجربة فيه، انطلق صوت المدفع مدوياً في نفس لحظة غروب الشمس وأذان المغرب، فتصور الصائمون أنه تقليد جديد، واعتادوا عليه. ووفقاً لهذه الرواية، فقد طالب الناس محمد علي أن يستمر بهذا التقليد خلال شهر رمضان في وقت الإفطار والسحور، فوافق. وتحوّل إطلاق المدفع بالذخيرة الحية مرتين يومياً إلى ظاهرةٍ رمضانية مستمرة.

وللمفارقة، فقد انقطع العمل بهذا التقليد الرمضاني في العراق بعد عام 2003 بسبب الوضع الأمني في البلاد وتواجد القوات الأمريكية فيه. ومع بداية الأزمة السورية، توقف العمل بمدفع رمضان في سوريا. في المقابل، ما زال مدفع رمضان يصدع بصوته عالياً في الأردن وبعض الدول العربية الأخرى.

رمضان زمان

أصبحت الظروف الاقتصادية والمعيشية والأمنية التي تعيشها المنطقة اليوم سيّئة، مما جعل الكثير من العادات الرمضانية المتوارثة منذ سنوات طويلة، مهددة بالزوال. وعلى أقلّ تقدير، فقد باتت ممارسة بعض هذه العادات على نطاق ضيق، وتنحصر ببعض العائلات.

ومن التقاليد القديمة في العراق، تقليد “الماجينة“. وقد كان الأطفال قديماً، وبعد الفطور، ينزلون بأعدادٍ كبيرة خاصة في المناطق الشعبية والتراثية، مرتدين أزياء ملونة. ويغنّي الأطفال حينها: “ماجينة يا ماجينة، حلّي (افتحي) الكيس واعطينا”. ويدقّ الأطفال الأبواب أثناء الغناء، ليجيبهم الناس بإعطائهم التمر أو حلويات متنوعة أو مبالغ مالية صغيرة.

لكن هذا التقليد بدأ يخبو في الكثير من مناطق العراق، ويكاد يختفي تماماً، عدا بعض مناطق البصرة القديمة. ويطلق على هذا التقليد في البصرة اسم “القرقيعان”، ويشترك فيه الكبار أيضاً.

على الطرف المجاور، كانت تكريزة رمضان من العادات الدمشقية المميزة، وقد ذُكرت في كتب التاريخ وأهمها كتاب المؤرخ منير الكيال، في كتابه “يا شام”. وتسبق هذه العادة شهر رمضان بأيامٍ قليلة لا تتجاوز الأسبوع. وتعدّ نوعاً من التحضير لشهر رمضان. وفيها تجتمع العائلات وتتوجّه من دمشق إلى المنتزهات والبساتين والمناطق الطبيعية في أرياف دمشق، لتحضير وجبات كبيرة.

وكانت التكريزة فرصةً للقاء أفراد العائلة ببعضهم البعض. بيد أن هذه العادة باتت على شفا الاندثار. وفي هذا الصدد، يقول ياسر العلي، وهو سائق تكسي من دمشق ويبلغ من العمر 34 عاماً، لفنك: “التكريزة اختفت تقريباً خلال السنوات الماضية، سواء بسبب ظروف الحرب، أو حتى بسبب انشغال الكثير من السوريين بالحياة وهمومها”.

من جانبه، عبّر عبدالله صالح من الأردن وعمره 62 عاماً لفنك عن شعوره بالاختلاف في الآونة الأخيرة عن رمضان في سابق عهده، فقد كان رمضان قديماً أجمل على حسب قوله. ويضيف صالح: “كان رمضان أكثر ألفة ومحبة وتقارباً بين الأرحام والجيران والأقارب. كنّا نتبادل أطباق الطعام والسلطات والحلوى قبل أذان المغرب. وفي كثيرٍ من الأحيان، كنّا نفطر سويّة. وبعد الإفطار، تتوجه العائلة للمسجد لصلاة التراويح، ثم نقوم بعدها بزيارة الأحباب أو الاجتماع في أحد المنازل أو الحدائق العامة. لكنّ لا شيء بقي من كلّ هذا اليوم”.

التكنولوجيا الهدّامة

ألغت الثورة التكنولوجية العديد من العادات والتقاليد والموروثات الرمضانية التي كانت موجودة قديماً.

وتأتي التهاني من هذه الناحية في المرتبة الأولى. فمع ظهور الهواتف الذكية، قلّ التواصل وتقديم التهاني بمناسبة شهر الصيام بين الأهل والجيران. واسُتبدِلت الزيارات في الأيام الأولى بالرسائل النصية عبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة أو عبر الرسائل النصية القصيرة.

وتأتي السهرات الرمضانية في المرتبة الثانية. فبعد أن كان الناس يتبادلون السهرات عقب الإفطار، حلّت البرامج والمسلسلات الرمضانية مكان الزيارات والسهرات، لتمنع الشخص من مغادرة منزله.

تقول سناء عيسى، وهي سوريّة من حلب وعمرها 39 عاماً، لفنك: “الزيارات أقل، والسهرات – وإن حدثت – كأنها لم تحدث. الكلّ مشغولٌ بهاتفه المحمول”.

أخيراً، ثمة عادة أخرى اندثرت وكانت خاصة بالأطفال، وهي عادة جمع الحلوى. وكان الأطفال قديماً يطوفون في الشوارع خلال هذا الشهر، حاملين أكياساً ويطرقون الأبواب من أجل جمع الحلوى، خصوصاً في العراق. أما اليوم، فالطفل يقضي معظم وقته على الهاتف المحمول، ولا يبالي لمثل هذه الأمور، التي أصبح القيام بها أمراً معيباً بالنسبة لبعض الأهالي أيضاً.

ظروفٌ قاسية

يستقبل السوريون والعراقيون شهر رمضان هذا العام وسط ظروف معيشية واقتصادية سيئة، لا سيما مع انهيار قيمة الليرة السورية وارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل كبير. ويأتي هذا الأمر وسط ضعفٍ كبير في القدرة الشرائية للمواطنين، ما حرم كثيراً من الأسر من التزود بالبضائع الضرورية وتلبية احتياجات الموسم حسبما اعتادوا كلّ عام.

وجرت العادة على أن تقوم الأسر قبل أيام من حلول رمضان بتبضّع المواد الغذائية وغيرها من المواد استعداداً للشهر الفضيل. لكن ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ أجبر الكثير من الأسر على تغيير عاداتها، والاكتفاء بالحد الأدنى.

وفي هذا السياق، يقول مصطفى حسن، وهو سوريٌّ من الحسكة يبلغ من العمر 42 عاماً، لفنك: “نحن ننتظر شهر رمضان سنة كاملة، ونعوّل عليه في إنعاش حياتنا. التجار يعوّلون أيضاً على شهر رمضان من أجل إنعاش تجارتهم الراكدة وتعويض خسائرهم. لكنّ هذا العام الأشد قسوة. الأسعار في ارتفاعٍ جنوني، والغلاء يعم البلاد”.