التطريز حرفة قديمة أتقنتها الفلسطينيات، وتُعدّ وسيلة للحفاظ على التراث الثقافي وإبراز التاريخ، فضلًا عن تعزيز الروابط المجتمعية.
دانا حوراني
في مخيم عين الحلوة المزدحم باللاجئين، جنوب شرق صيدا في لبنان، اعتادت بثينة قضاء ساعات طوال في ممارسة هواية فن التطريز الفلسطيني التي تحبها.
تعلّمت بثينة تلك الحرفة القديمة منذ ثلاثة عقود في مدرسة تابعة للأونروا، ونجحت في تحويل هوايتها إلى عمل مربح. وفي سبتمبر الماضي، أدت المواجهات العنيفة بين عدد من الفصائل الفلسطينية في المخيم إلى وقف نشاطها.
وقالت بثينة في حديثها إلى فنك: “اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد ذلك بوقت قصير، ولم يعد الناس يهتمون بشراء الملابس المطرزة”.
ورغم حبها لفن التطريز، فقد تحوّل ذلك الشغف من مصدر للسعادة إلى عبء مالي، إذ ما تزال أزمة لبنان الاقتصادية مستمرة إلى جانب الحرب الحالية على غزة، وهذا ما أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الخام.
وأضافت بثينة: “كلما ذهبت لشراء المواد الخام، أُضطّر إلى دفع ثمن أكبر حتى تجاوزت الأسعار قدرتي المالية”.
والتطريز حرفة قديمة أتقنتها الفلسطينيات، وتُعدّ وسيلة للحفاظ على التراث الثقافي وإبراز التاريخ، فضلًا عن تعزيز الروابط المجتمعية وتوفير مصدر دخل لنساء المخيمات وأسرهنّ في الشتات. وقد حافظت الفلسطينيات على تلك الحرفة منذ نزوحهنّ إلى لبنان بعد نكبة 1948، ونقلن خبرتهن عبر الأجيال. ولكن هذه الحرفة المستمرة عبر الزمن تواجه الكثير من التحديات التي تجبرها على اتخاذ أشكال مختلفة كي لا تندثر.
حَبْك التاريخ
ظهر التطريز في فلسطين قبل 3000 عام، وهو تطريز فريد يجمع الخيوط الملونة لصناعة زخارف تقليدية، يعبّر عن خصوصية المنطقة ويحمل دلالة رمزية في المناسبات الاجتماعية مثل حفلات الزفاف أو خلال الحمل.
وتُستخدم الألوان أيضًا للدلالة على مراحل عمرية مختلفة. ففي الخليل مثلًا، ترتدي الشابات اللون الأخضر، بينما ترتدي الأرجواني النساء الأكبر سنًا. وتختلف الألوان أيضًا حسب مناطق فلسطين، فالأحمر القاني يشيع في رام الله، بينما يشيع الأحمر القاتم في الخليل.
تبدأ الفتيات الفلسطينيات في التدرّب على ذلك الفن النسائي في سنّ السادسة تقريبًا، فالتطريز ليس مجرد حرفة، بل وسيلة للتعبير عن الذات والأنوثة. كما تمثّل حصص التطريز فرصة للفتيات للتعرف إلى حكايات الزمن والمهارات الحياتية وحكمة الأمهات والجدات.
يتضمن التطريز تقنيات مختلفة، منها مثلًا طريقة الغرز المتقاطعة المعروفة باسم القطبة الفلاحية، وهي أكثر الطرق استخدامًا ورمزيةً في التراث الفلسطيني. ويكشف تنوع التصاميم عن القرية التي تنتمي إليها صاحبته، فالتصاميم عادةً ما تكون مستوحاة من الطبيعة الفلسطينية.
وعادةً ما يصوّر التطريز النباتات المحلية مثل أشجار السرو والنخيل والعلّيق. أما الفاكهة والخضروات الخاصة بقرية الصانعة فترمز إلى محل نشأتها، فضلًا عن الرموز الأخرى مثل القمر والعينين، والتي ترمز إلى الصحة والثروة والحماية.
ونجد مثلًا أن تصاميم زهرة البرتقال تدل على قرية بيت دجن في يافا. وتشير تصاميم الزهور وأوراق الشجر إلى ارتباط القرية أو الأسرة بالزراعة أو البستنة.
وبعدما أُجبر الفلسطينيون على ترك أرضهم عام 1948 ثم 1967، حافظت النساء على رابط مادي يجمعهنّ ببلدانهنّ من خلال ارتداء الثوب التقليدي المطرز. ولكن خلال تلك الفترة، تغيّر التطريز نتيجةً القيود الاقتصادية والسياسية، بخاصة في مخيمات اللاجئين. لكن النساء تكيفن مع تلك الظروف من خلال استخدام قطن أرخص والاستفادة من ماكينات التطريز.
وبين عامي 1987 و1993 عقب الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي، صنعت النساء الفلسطينيات ثوب الانتفاضة الذي تزينه الغرز البارزة التي ترمز إلى المقاومة مثل علم فلسطين والخرائط والزخارف الطبيعية مثل أغصان الزيتون وأشجار البرتقال. ونسجت النساء عبارات مثل “سنعود” أو “عودتنا” بالألوان الفلسطينية التقليدية، وهذا ما يُعد أحد أشكال المقاومة الصامتة، لكن الجليّة.
من فلسطين إلى لبنان
حملت الفلسطينيات فن التطريز معهنّ في رحلتهنّ الشاقة المضنية إلى لبنان وحافظن عليه. ومع أن ذلك الفن قد توارثته الأجيال جيلًا بعد جيل، ترى بثينة أنه يتراجع في الوقت الحالي.
قالت بثينة: “أشعر بأن الشابات لم يعدن قادرات على الصبر ساعات طوال لتطريز ثوب واحد. وكذلك يُوجد نقص في معلّمات التطريز بعدما تقدّمت غالبيتهن في العمر”.
وأضافت بثينة أن المصانع حلّت محل النساء، وأنتجت كميات ضخمة من الملابس تُباع في الأسواق اللبنانية. وبسبب هذا التحول، اتجهت بثينة إلى البيع في الخارج ظنًا منها أن الفلسطينيين خارج لبنان لديهم القدرة المالية على شراء منتجاتها، وأنهم يسعون إلى الحفاظ على تراثهم.
وأكملت: “الناس في لبنان يخافون من اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل، وسكان المخيمات قلقون لوجود عدة فصائل سياسية هنا. ولذلك أخشى أن اخاطر بقبول طلبات أكبر ثم تندلع الحرب”.
تواجه مخيمات اللاجئين في لبنان تحديات كثيرة كارتفاع البطالة والفقر وضعف الخدمات التعليمية والصحية، وهذا سيؤدّي بهم إلى وضع أسوأ إذا ما تصاعدت وتيرة العنف.
وقالت بثينة إن مدارس عديدة قد استُهدفت خلال الاشتباكات التي وقعت في مخيم عين الحلوة. وصار الطلاب الآن يتزاحمون في مدارس الأونروا خارج المخيم، ويُوزَّعون على فترتي دراسة صباحية ومسائية، ما يؤثر سلبًا في جودة التعليم ونفسية الطلاب.
وبسبب انعدام الأمن وهيمنة الحزن والغضب بعد الحرب على غزة، تفاقمت معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ومع ذلك، أثارت الحرب أيضًا الشعور بالوطنية والاهتمام بالثقافة والتراث الفلسطيني، على حد وصف مي خشان منسقة النادي الثقافي الفلسطيني.
وأضافت خشان: “الطلب على منتجات التطريز فاق التوقعات، لأن الناس بدؤوا ينظرون أكثر إلى الوجه المنتصر للنضال الفلسطيني، بدلًا من الاكتفاء بجانب الضعف والقهر فقط”.
مقاومة مطرزة
يمرّ فن التطريز بتحديات كبيرة على صعيد التصميم والتقنيات، بحسب خشان. وهناك طلب متزايد على منتجات التطريز في الإكسسوارات مثل الأساور والأقراط والحقائب وقبعات التخرج والقمصان، مقابل الأثواب التقليدية التي أصبحت مقصورة على المناسبات الخاصة.
وأضافت خشان: الفلسطينيات كنّ في الماضي يرتدين الثوب التقليدي كل يوم. كذلك يريد الشباب أن يحملوا هذا التراث في تنقلاتهم اليومية،وهذا ما يفسر الطلب المرتفع”.
ويوفّر النادي الثقافي الفلسطيني هذه الإكسسوارات للجمهور بأسعار مناسبة، فالملابس المطرزة قد تكون باهظة على كثير من الناس. وينظم النادي أيضًا ورش عمل للحفاظ على هذا التقليد ضمن جهوده الرامية إلى حماية التراث والثقافة الفلسطينية.
قالت خشان: ” نعلم الفتيات والأطفال الرابط بين التطريز والهوية الفلسطينية في سن صغيرة حتى يستمر ذلك الشغف معهم لسنوات”.
وأضافت خشان أننا نرى ذلك في محاولات المرأة الفلسطينية إحياء ليلة الحناء التي تسبق الأعراس، إذ تزيّن العروس وصديقاتها وعائلتها الأثواب التقليدية أو يدمجن التطريز التقليدي في الهدايا التذكارية وزينة الزفاف.
وأوضحت خشان أيضًا أن النساء المشتغلات بالتطريز لا يستطعن الاعتماد عليه فقط من أجل كسب العيش من دون دعم إحدى المؤسسات.
وقالت: “النساء لا يمكنهن الاعتماد على التطريز وحده مصدرًا للدخل، فالمواد الخام باهظة الثمن. وحتى لو تدخلت إحدى المنظمات لمساعدتهن، فهناك عوامل أخرى تقف عائقًا”.
وأشارت خشان إلى أن بعض المنظمات قد تستغل النساء وتدفع لهنّ الحد الأدنى ثم تبيع المنتجات بأسعار باهظة.
وأكدت: “ينبغي توعية الناس بأن التطريز لا يقتصر على المعارض فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية”.
تقليد مستمر
تُعد مؤسسة “إنعاش” من أقدم المؤسسات المعنية بالحفاظ على فن التطريز الفلسطيني في لبنان، وقد أسستها الفنانة أوغيت الخوري كالان عام 1969، وهي ابنة بشارة الخوري أول رئيس لبناني. وقد أسست أوغيت تلك المنظمة مع فلسطينيات أخريات بغرض حماية التراث الفلسطيني وتوفير فرص عمل للّاجئات.
توظف إنعاش حاليًا أكثر من 350 امرأة وتعرض مجموعة واسعة من المنتجات، منها العباءات والمعاطف والسترات والشالات والفساتين والوسائد وأدوات المائدة والإكسسوارات المنزلية المختلفة.
وفي حديثه إلى فنك، قال علي جعفر مدير المؤسسة: “يُعد توظيف النساء اللاجئات وحماية تراثهن أحد أشكال المقاومة التي، إن زالت، فستكون بمثابة هدية للإسرائيليين”.
وأوضح جعفر أن المؤسسة واجهت تحديات عديدة عام 2019 حين فقدت أموالها المودعة في البنوك اللبنانية، وهو ما أعاق قدرتها على توظيف أكبر عدد من اللاجئات كما هو معتاد. وتركز المؤسسة حاليًا على زيادة جهودها لجمع التمويل من أجل توظيف المزيد من الفلسطينيات.
وأضاف: “تحسنت الأوضاع تدريجيًا رغم انخفاض القدرة الشرائية في لبنان نتيجة الأزمة الاقتصادية، لا سيما مع إطلاق موقع المؤسسة على الإنترنت، ما يمكننا من التعامل مع العملاء في الخارج”.
وذكر جعفر أن إنعاش تقدّم حاليًا ورش عمل للجمهور وتخطط للمزيد في المستقبل. ويُبرر مدير المؤسسة أسعار المنتجات المرتفعة بارتفاع تكلفة المواد الخام بالإضافة إلى الوقت الطويل والإتقان الكبير الذي يتطلبه كل منتج.
وأكّد جعفر أن الناس أقبلوا على شراء سلع مطرزة خلال عيد الميلاد المجيد، في بادرة تكشف اهتمامهم بدعم فلسطين والتضامن معها في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة.
ولكن ذلك التعاطف والاهتمام بالقضية الفلسطينية لا ينفي قلق سكان لبنان من احتمال اندلاع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل. فقد انخرط الجانبان في اشتباكات على طول الحدود اللبنانية، ولكن الأمر لم يصل إلى المستوى الذي شهده لبنان في حرب 2006.
حرب وغموض
في 11 يناير الماضي، زار آموس هوكستين، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي لشؤون أمن الطاقة، العاصمة بيروت للمشاركة في محادثات تطرقت إلى الوضع على طول الحدود الجنوبية اللبنانية أملًا في إيجاد حل. ولكن حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، أكد أن التوترات على الحدود الجنوبية لن تهدأ إلا إذا انتهت الحرب على غزة.
وفي الوقت عينه، بدأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في شنّ هجمات على اليمن استهدفت جماعة الحوثي التي تستهدف السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئ في الأراضي المحتلة.
وقال المحلل السياسي اللبناني عماد سلامي لفنك إن الشرق الأوسط يشهد حاليًا حربًا إقليمية فريدة تختلف عما شهدناه من قبل، إذ تشمل هذه الحرب ساحات مختلفة وتظل في نطاقات محدودة بدلًا من المعارك المباشرة بين جيشين.
ويرى سلامي أن تلك الحرب تشارك فيها أطراف متعددة وليس لها حدود واضحة، ولا يُعرف لها مدى زمني أيضًا.
ولكن الأسلحة المتطورة واستهداف المصالح الاقتصادية، مثل استهداف جماعة الحوثي للسفن التجارية، تعتبر من عوامل هذا الصراع الرئيسة.
أما عن الوضع في لبنان، فيرى سلامي أن الحلول لن تكون قريبة خاصة في ظل تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأن الحرب قد تستمر لعدة أشهر. كما أكد أن شخصيات مثل هوكستين وغيره من الدبلوماسيين لا يملكون تقديم حل مباشر، ولكن ربما يمكنهم المساعدة في خفض التصعيد وحدّة التوترات على الحدود اللبنانية.
وأضاف: “في حالة التصعيد الحقيقي، قد تمتد الحرب إلى سوريا والعراق واليمن وإيران. وأعتقد أن حزب الله لا يرغب في دخول حرب شاملة ضد إسرائيل التي تبادله الرغبة عينها، وذلك بسبب التكاليف الباهظة والخسائر الضخمة التي قد تنجم عن ذلك على مستوى البنى التحتية العسكرية”.
وأشار سلامي إلى أن الحرب ضد حزب الله لن تجدي نفعًا لإسرائيل، إذ لن تتمكن من تحقيق أي أهداف سياسية مهمة مثل القضاء على الحزب، كما ستكون أمام احتمالية للانزلاق في صراع إقليمي يشمل عددًا من الدول الإقليمية.
ولكن الوضع يبقى غير قابل للتنبؤ ويحيط به الغموض من كل اتجاه. والأكيد هنا أن تقدير التراث الفلسطيني والاهتمام به في ازدياد، وبخاصة فن التطريز. فليس الفلسطينيون وحدهم هم الذين يسعون إلى الحفاظ على تلك الثقافة، بل الناس في شتى أنحاء العالم الذين يرون أن حماية هذه الثقافة مسؤولية مشتركة مهما كان الثمن.