دانا حوراني
لقد تمَّ انتشال 94 جثة بعد انقلاب قارب يوم الجمعة كان قد أبحر من لبنان قبالة مدينة طرطوس السورية الساحلية. بحيث تم الإبلاغ عن وجود 170 مهاجرًا من جنسيات مختلفة لبنانية، سورية وفلسطينية على متن السّفينة ومعظمهم من الأطفال.
وقد وصف شهود عيان الجثث بأنّها مشوهة بشكلٍ كامل لدرجة يصعبُ معها التعرّف على هويّة أصحابها، بسبب احتباس الماء الشديد من الغرق ويبقى العدد الأكبر غير مؤكد بحيث لا يزال المزيد من المهاجرين في عداد المفقودين.
وقد وقع حادث مماثل في أبريل نيسان الماضي، عندما انقلب قارب مهاجرين قبالة مدينة طرابلس اللّبنانية مما أسفر عن مقتل عشرات المهاجرين الذين ما زالت جثثهم محاصرة في قاع البحر الأبيض المتوسطوبالرغم من هذه السابقة يقال إن حادثة طرطوس هي الأكثر دموية بين الموجة المتزايدة للهجرة البحرية من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الى أوروبا.
وقبل أسابيع قليلة، سمير أبو ستيتة طفل له من العمر ثلاث سنوات فقط، ركب البحر مع مجموعة مهاجرين أوائل شهر سبتمبر الجاري هربًا من ضنك العيش في لبنان، فأصابه الجفاف وغيّبه الموت على متن قارب قبالة سواحل جزيرة مالطا.
ولسوء حظ أسرة الطفل و60 من رفاقهم من سوريا و لبنان و فلسطين ، أن تقطعت بهم السبل لأيّام على متن قارب صيد متسرب دون زاد أو أمل في الوصول إلى شواطئ إيطاليا. وينظّم المهربون مثل هذه الرحلات غير الشرعية منذ سنوات طمعًا في مكاسبها المالية التي تدر آلاف الدولارات الأميريكية، ونادرًا ما يُلقى القبض عليهم.
واستطاعت سفينة شحن مصرية إنقاذ المهاجرين وإمدادهم بالغذاء والماء والدواء، ولكن قضى ثلاثة أطفال نحبهم قبل وصول السّفينة.
وكانت أول مرة سُجلت فيها نسب عالية من الهجرة بالقوارب بين عامي 2014 و2015 حين بلغ النزاع في سوريا ذروته. فقد كان بوسع ملايين من السوريين الوصول إلى أوروبا عبر البحر بحثًا عن ملاذ. وبحسب مجموعات الإنقاذ الأجنبية، تُقارب الأعداد الحالية الأعداد التي سُجلت في عام 2015. غير أن الوضع قد تغير وأصبحت السياسات أشد صرامة مع اللاجئين.
ولذلك، تحذر مجموعات الإنقاذ من تزايد محنة المهاجرين في البحر إذا لم يلتزم الاتحاد الأوروبي بمسؤولياته الإنسانية، ولم يعالج موضوع الهجرة مباشرة من خلال توطين اللاجئين في الدول الأوروبية القادرة على استضافتهم، والضغط على السلطات للحد من العنف ضد المهاجرين.
وقال فاسيل شاوزايل، منسق التواصل في المنظمة غير الحكومية ” إس أو إس هيومانتي”، وهي منظمة ألمانية للبحث والإنقاذ، في حديثه إلى فنك: “دأبت الدول الأوروبية لسنوات على تشديد سياسات مراقبة على الحدود لاحتواء ما تصفه بالهجرة غير الشرعية. لكن تلك الإجراءات لم تضع حدًا للهجرة عبر البحر المتوسط أو الصحراء الكبرى، وإنما عرّضت الناس إلى مزيدٍ من العنف ودفعتهم إلى اتخاذ سُبل مُهلكة”.
ماذا يحدث في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
تواجه كثير من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ظروفًا اقتصادية واجتماعية وبيئية صعبة. وتخرج معظم قوارب المهاجرين من سوريا، وفلسطين، ومصر، وتركيا، وقد انضمت تونس إليها مؤخرًا، بالإضافة إلى لبنان أيضًا، وذلك بحسب مجموعة الإنقاذ الموحد للإغاثة الإنسانية.
كما انضم العراقيون، واليمنيون، والأكراد، والأفارقة من دول جنوب الصحراء الكبرى إلى صفوف المهاجرين عبر البحر.
وتواجه بلاد الشام اضطرابات اقتصادية مماثلة رغم اختلاف الظروف والسياقات السياسية لكل بلد. فقد فقدت عملة لبنان المحلية 90% من قيمتها مقابل الدولار، وتواصل معدلات البطالة والفقر الارتفاع في ظل حرمان الناس حرية التصّرف في ودائعهم المصّرفية.
كما عانت سوريا التي مزقتها الحرب من ويلات النزوح، والصّراع، وتعطل الأنشطة الاقتصادية والذي أدى إلى انخفاض مستوى معيشة الأسرة، وصعّبت على الناس التماس سُبل العيش. أمّا فلسطين فقد شهدت نموًا اقتصاديًا عام 2021 ، لكنه تركز في الضفة الغربية وبقيت غزة تعاني ضربات اقتصادية موجعة بالتزامن مع ارتفاع معدلات البطالة، فضلًا عن غارات القوات الإسرائيلية الوحشية.
وفي شمال إفريقيا، يقترب الجنيه المصري من أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ انخفض الاحتياطي النقدي الأجنبي بواقع 230 مليون دولار في شهر يوليو ليصل إلى 33.1 مليار دولار، بعد أن وصل 33.3 مليار دولار في نهاية شهر يونيو من هذا العام، وذلك بحسب ما ذكره موقع جريدة الأهرام المصرية. كما تواجه تونس نقصًا خطيرًا في الغذاء، و توترًا سياسيًا متصاعدًا وسط مخاوف من التهديدات الاستبدادية للحرّيات في البلاد.
وفي العراق وليبيا الغنيتين بالنفط، تعاني الأخيرة ارتفاعًا في معدلات البطالة، وعجز القطاع الخاص عن خلق فرص عمل جديدة، بالإضافة إلى نقص البضائع في أعقاب الحرب الأهلية. كما يواجه العراق مأزقًا سياسيًا حادًا نتيجة فشل الفرقاء السياسيين الشّيعة في تشكيل حكومة لإجراء إصلاحات اقتصادية تُعد البلاد في أمس الحاجة إليها.
كما زاد تأزم الأوضاع في المنطقة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم عالميًا، ونقص صادرات الغاز والقمح. أمّا تركيا التي كانت ملاذ اللاجئين، ومأوى أكثر من خمسة مليون عربي ، فهي تعاني ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار،بالإضافة الى تفاقم العنصرية ضد اللاجئين السوريين، وهو ما يدفع النازحين إلى اختيار طريق الهجرة الصّعب مرة أخرى.
أموال الاتحاد الأوروبي في غير محلها
لم تُعلن بعد الإحصاءات الرّسمية للهجرة عبر البحر لهذا العام، إذ تصعّب الهجرة غير الموثّقة وفقدان القوارب مهمة التوثيق الدقيق.
لكن وفقًا لآخر إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين ، فقد عُثر على 33,231 مهاجرًا بين ميت ومفقود في البحر خلال العام الماضي، مما يشير إلى ارتفاعٍ واضحٍ عن إحصاءات عام 2020.
كما ذكرت “إس أو إس” في بيانها الصّحفي الصادر هذا الشهر أن “عدد الناجين على متن سفينة الإنقاذ (هيومانتي 1) قد ارتفع بعد أربع عمليات إنقاذ في سبعة أيّام ليصل إلى 415 ناجيًا، ونصفهم تقريبًا من القصّر وحالتهم الصّحية في تدهورٍ”.
ورغم المطالبات المستمرة بتخصيص مكان آمن للمهاجرين، ترفض السلطات الاستجابة لها. ولا يجد المهاجرون مرسى لهم، لا سيما مع بداية نفاد مؤنهم.
وأشار شاوزايل إلى أن خفر السواحل اللّيبي الممول من الاتحاد الأوروبي، والذي أغدقت عليه المفوضية الأوروبية ملايين اليوروهات، قد اعترض 32,425 مهاجرًا في 2021، و14,157 مهاجرًا على الأقل في النصف الأول من هذا العام، وربما تكون الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك.
وفي منتصف سبتمبر الجاري وافقت المفوضية الأوروبية على تقديم 80 مليون يورو إلى خفر السواحل المصري لدعم “عمليات البحث والإنقاذ ومراقبة الحدود البرية والبحرية”.
وسبق أن دعمت المفوضية الأوروبية ميثاق تضامن من شأنه توفير آلية لإعادة توطين اللاجئين فور وصولهم إلى الاتحاد الأوروبي. لكن شاوزايل قال إن “هذه الآلية ليست كافية. فقد وافقت ألمانيا في أول تعهد لها على إعادة توطين 3,500 لاجئًا، وهو عدد أقل مما استقبلته إيطاليا في أسبوع واحد خلال الشهر الجاري”.
وأضاف: “إن دول جنوب أوروبا التي تُعد المحطة الأولى للاجئين في هجرتهم، قد دأبت على طلب الدعم والمساعدة من دول شمال أوروبا ووسطها حتى تستطيع توطين اللاجئين وتوفير ملاذات آمنة لهم. لكن لم تلقَ مطالبهم استجابة تُذكر”.
و تستقبل ألمانيا والسويد أكبر عدد من اللاجئين السوريين في أوروبا. أمّا حكومة هولندا “، فقد بدأت في بناء منازل جديدة لتوفير أماكن للاجئين الجدد.
لكن المخاطر تتزايد مع استمرار مغامرة اليائسين بركوب القوارب بحثًا عن حياة أفضل.
تزايد المهاجرين وتصاعد العنف
وبمجرد إخطار قارب فيمحنةٍ أو خطر، تُضطر مجموعات الإنقاذ إلى إبلاغ السلطات المعنية أنّها ستتولى مهمة الإنقاذ على الوجه الأمثل. ولكن المهربين يحذّرون المهاجرين من التواصل والإتصال بفرق الإنقاذ، مدّعين أنه سيسلمونهم إلى السلطات. وذلك بحسب ما أوضحه تيم، وهو عضو في مجموعة الإنقاذ الموحد للإغاثة الإنسانية، وقد فضلنا التحفظ على اسم عائلته لأسباب تتعلق بالخصوصية.
وقال تيم: “قبل 2019، كان المهربون يطلعوننا على أخبار القوارب القادمة، لكنهم توقفوا بالقيام عن ذلك في السّنوات الأخيرة لأسباب لا نعلمها”.
وبحسب تيم، فإن المهربين يصادرون هواتف المهاجرين ويلقونها في البحر. وتتمكن قلة صغيرة من إخفاء هواتفهم للاتصال بأقاربهم، وهم بدورهم يخبرون فرق الإنقاذ إذا ما تعرض القارب للخطر.
وأخبرنا تيم بأن أحد المهرّبين كذب على أقارب 60 مهاجرًا من لبنان وادعى أنهم وصلوا إلى البر، بينما هم عالقون في البحر.
وأضاف تيم: “مع ازدياد أعداد المهاجرين، يتصاعد العنف. إذ ينتشر هذه الأيّام خفر السواحل اليوناني في البحر المتوسط، ولا يترددون في إعادة المهاجرين إلى بلادهم، أو دفعهم إلى اتجاه مختلف”.
وبحسب شاوزايل، فإن سفينة الإنقاذ الجديدة “هيومانيتي 1” قد أنقذت في أول مهامها 414 مهاجرًا، وظهرت على بعضهم آثار عنف يبدو أنهم تعرضوا له خلال رحلتهم الخطيرة. كما يقول تيم إن بعض السلطات الأوروبية تقمع اللاجئين و تحتجزهم تعسفيًا، وتستخدم العنف الجسدي معهم في ظل حرمانهم من الرعاية الصّحية، ناهيك عن التعرض للسرقة والترحيل، لكن ما من شيء أسوأ من تركهم للغرق بسبب إهمال السلطات التي اختارت التقاعس، أو بسبب السياسات الحدودية التي تتبعها لإبعاد المهاجرين.
المجبر على الرحيل لا ينظر إلى الوراء أبدًا
أظهر مقطع مصّور نشره حساب تلفزيون سوريا على تويتر مجموعة مهاجرين يلقون بأقاربهم الموتى إلى مياه المتوسط بعد بقائهم أكثر من عشرة أيّام دون ماء أو غذاء، وقد كانت طائرات الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) تحلق فوقهم آنذاك.
وقال مهاجر سوري منهم وهو يرثي حاله: “كنا نخلط معجون الأسنان بمياه البحر حتى نستطيع شربه”.
وقال تيم إن عملية تقديم طلب اللّجوء أصبحت أصعب بسبب البيروقراطية التي تستغرق بضع سنوات للبت في الطلبات، كما أن بعض الدول تحتجز المهاجرين لأكثر من شهر دون اتصال بعائلاتهم، “لكن بعض الناس يرون أنهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة بمجرد وصولهم إلى الأراضي الأوروبية”.
وأضاف تيم أن المملكة المتحدة تشهد حاليًا تدفق موجة من المهاجرين عن طريق ساحل كاليه الفرنسي. وجدير بالذكر أن المهربين على خبرة ودراية بكل دولة أوروبية لها بوابة بحرية، ويتقاضون ما يصل إلى 8000 دولار. ولكن في ذروة الصّراع السوري عام 2015، كانوا يتقاضون ما بين 500 إلى 1000 دولار.
وقال تيم: “أمنيتنا الوحيدة أن يتمكن الناس من التواصل معنا، لا لأننا نستطيع أن ندلهم على الطرق، ولكن لأننا سنقدم لهم نصائح أساسية للنجاة، كأن يستعملوا إطارات الإنقاذ بدلًا من سترات النجاة لقدرتها على إبقائهم عائمين أطول فترة ممكنة، كما نستطيع أن نساعدهم في الوصول إذا أبلغونا بمواقعهم”.
وعلى الرغم من أنّها رحلة خطيرة، تبقى هي الخيار الوحيد لكثير من الناس. وعلى حد تعبير الشاعرة الصومالية البريطانية ورسان شاير : “عليك أن تفهمي، لا أحد يضع أطفاله في قارب، إلا إذا كان الماء أكثر أمانًا من اليابسة”، فعند كثير من الناس، الموت مرة واحدة خير من موتٍ كلّ يوم.