علي نور الدين
كان من المفترض أن تكون ليبيا في طليعة الدول المستفيدة من ارتفاع أسعار النفط هذا العام، لكونها من البلاد المصدّرة للبترول، التي ترتفع في العادة إيراداتها بالتوازي مع ارتفاع أسعار النفط. فبحسب المؤسسة الوطنيّة الليبيّة للنفط، ارتفع إنتاج ليبيا من النفط الخام إلى حدود ال 1.211 مليون برميل يوميًّا، ما يضع ليبيا في المرتبة الخامسة عالميًّا في إنتاج النفط. مع الإشارة إلى أنّ إنتاج ليبيا النفطي عاد للارتفاع مؤخّرًا، بعدما أعادت المؤسسة الوطنيّة للنفط العمل في عدّة حقول نفطيّة كانت مقفلة سابقًا نتيجة الأحداث الأمنيّة. وبحسب وحدة أبحاث الطاقة، تحل ليبيا في المرتبة العاشرة عالميًّا من ناحية احتياطات النفط المؤكّدة، باحتياطات إجماليّة يناهز حجمها ال48.4 مليار برميل.
مميزات تنافسيّة لم تستفد منها ليبيا
في واقع الأمر، كان بإمكان اقتصاد ليبيا أن يستفيد من مميّزات تنافسيّة أخرى غير احتياطات البلاد وإنتاجها من النفط، الذي ارتفع سعره مؤخّرًا. فكما هو معروف، تمتلك ليبيا ثروات طبيعيّة أخرى تتزايد أهميّتها اليوم، في ظل ارتفاع أسعار صادرات المواد الأوليّة.
ومن هذه الثروات مثلًا، احتياطات الحديد واليورانيوم والذهب الوازنة، والتي تحتاج إلى استثمارات للتوسّع في أنشطة استكشافها واستخراجها. كما تمتلك ليبيا شريطا ساحليا طويلا، يمتد لنحو 1770 كلم على الساحل الشمالي لأفريقيا، ما يمكن أن يوفّر للبلاد ثروة سمكيّة مهمّة لم يتم استغلالها بشكل جيّد بعد. أما أهم ما في الموضوع، فهو تعداد السكّان القليل الذي لا يتجاوز ال6.96 مليون نسمة بحسب إحصاءات البنك الدولي، ما يدل على ضآلة الكثافة السكّانيّة قياسًا بحجم ثروات البلاد ومساحتها الضخمة التي تتجاوز حدود ال1.75 مليون كليومتر مربّع.
ومع كل هذه الظروف المؤاتية لليبيا، مازالت البلاد تعاني من ظروف اقتصاديّة ضاغطة، إلى الحد الذي ينبئ بكارثة معيشيّة مقبلة. فبحسب تقارير الأمم المتحدة، تجاوزت معدلات الفقر في هذا البلد حدود ال40%، في حين أن مركز الدراسات الاجتماعيّة بوزارة الشؤون الاجتماعيّة يقدّر أن تتجاوز هذه المعدلات اليوم مستوى ال45%، وهو ما يشير بوضوح إلى عدم استفادة الأسر الليبيّة من عوائد بيع النفط السخيّة.
ولهذا السبب بالتحديد، تقدّر الأمم المتحدة عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدات الإنسانيّة بشكل ملح عند حدود ال1.3 مليون شخص، أي ما يقارب 23% من إجمالي سكّان البلاد. مع الإشارة إلى أنّ تخفيض قيمة الدينار الليبي مقابل الدولار، وارتفاع معدلات التضخّم، يساهمان اليوم في زيادة الضغوط المعيشيّة التي تعاني منها الفئات الأكثر هشاشة في البلاد، من خلال ضرب قدرتها الشرائيّة وتقليص قيمة أجورها الفعليّة.
أزمات معيشيّة مؤلمة
أبرز الأزمات المعيشيّة التي تطرح نفسها بشكل داهم أمام الليبيين، تتمثّل اليوم في معدلات البطالة الآخذة بالارتفاع، والتي لامست مستوى ال19% مؤخّرًا. ولعلّ أزمة سوق العمل الليبي تظهر اليوم في احتواء القطاع العام الليبي لأكثر من 85% من القوّة العاملة في البلاد بحسب أرقام البنك الدولي، وهي نسبة ضخمة تعكس ضعف نشاط القطاع الخاص، وعدم قدرته على النمو وخلق فرص العمل للشباب الليبي. كما يعكس ارتفاع نسبة الموظفين في القطاع العام وجود شكل من أشكال البطالة المقنّعة في مؤسسات الدولة، والتي تتمثّل في التوسّع في توظيف شرائح واسعة من العمّال بغياب الحاجة الفعليّة لهم.
أمّا السبب الأساسي وراء تراجع قدرة القطاع الخاص على خلق فرص العمل، فيتمثّل في أثر الأحداث الأمنيّة والحرب الأهليّة التي تشهدها ليبيا منذ سقوط نظام معمّر القذافي، والتي أدّت إلى خروج نسبة كبيرة من مصانع البلاد من الخدمة، بالإضافة إلى تدمير القطاع السياحي الذي يمكن أن تعتمد عليه البلاد في نموها الاقتصادي.
وفي مقابل معدلات البطالة المرتفعة، ارتفعت معدلات التضخّم بشكل غير مسبوق هذه السنة في ليبيا، نتيجة تقاطع عدّة عوامل جمعت ما بين تداعيات الحرب الأوكرانيّة ومعدلات التضخّم العالميّة، والضغط على سعر صرف الدينار الييبي في سوق القطع، بالإضافة إلى شح السلع الناتج عن الحرب الأهليّة. أما أسوأ ما في الموضوع، فكان انقسام المصرف المركزي الليبي بالتوازي مع انقسام المؤسسات السياسيّة الليبيّة، وهو ما منعه عن التعامل مع هذه الخضّات النقديّة والاقتصاديّة بكفاءة.
مع الإشارة إلى أنّ المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم تتعامل مع هذه الظروف الضاغطة في العادة عبر مزيج من أدوات السياسة النقديّة، التي تشمل تعديل الفوائد وضبط الكتلة النقديّة والتحكم باحتياطات النقد الأجنبيّة وغيرها من الإجراءات. إلا أن انقسام المصرف المركزي الليبي حال دون وضع سياسة نقديّة متناسقة وموحّدة من هذا النوع.
الأثر على النساء والفئات الأكثر هشاشة
كما هو معلوم، كثيرًا ما تنعكس الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة الضاغطة، وما ينتج عنها من هشاشة في مؤسسات الدولة، على شكل تداعيات أمنيّة واجتماعيّة خطيرة. وغالبًا ما تكون الفئات الأكثر تعرّضًا لهذه التداعيات الشرائح الاجتماعيّة الأكثر هشاشة، والنساء والأطفال.
فخلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، شهدت ليبيا 137 حالة قتل، نتيجة حالة تفشّي العَوز الاقتصادي وانتشار الفلتان الأمني وضعف المؤسسات الأمنيّة، واعتياد الليبيين على ثقافة امتلاك السلاح الفردي واستعماله. أمّا الملفت للنظر، فهو حالات الجرائم المتتالية التي استهدفت النساء الليبيّات بشكل خاص، إمّا لأسباب اجتماعيّة أو لأغراض السطو المسلّح. مع الإشارة إلى أن منصّة “شريكة ولكن” تمكنت في بعض الحالات من رصد سبع جرائم استهدفت النساء الليبيّات خلال أسبوع واحد فقط، وهو ما مثّل رقما قياسيا مقارنة بالدول العربيّة الأخرى.
وتشير المصادر الحقوقيّة في العادة إلى أنّ الظروف المعيشيّة والأمنيّة الصعبة تتقاطع في ليبيا مع ظروف محليّة تسهّل استهداف هذه الفئات الهشّة، وخصوصًا من خلال مساهمة القبليّة في تأمين بعض التخفيفات والتسهيلات للمجرمين، من خلال المصالحات والمساومات التي تحصل في العادة بعد جريمة القتل. وبحسب القوانين الجنائيّة الليبيّة، يحق لأهل الضحيّة الاكتفاء عقد مصالحة مع الجناة مقابل تلقي “ديّة” (أي غرامة ماليّة)، وهو ما يسقط الحق الشخصي في الجريمة. وفي هذه الحالة، لا تتحرّك دعوى الحق العام ضد الجاني، إلّا إذا اختارت النيابة العامّة تحريكها، وهو ما لا يحصل في كثير من الأوقات.
كارثة تلوح في الأفق
في الوقت الراهن، يبدو من الواضح أن ثمة كارثة إنسانيّة تلوح في الأفق في ليبيا. فالأسواق تعاني من انقطاع في العديد من أصناف المواد التموينيّة، نتيجة تخبّط سلاسل التوريد وأزمات النقد والأحداث الأمنيّة التي تهدد عمل المرافئ. وفي ظل اعتماد السوق الليبيّة بنسبة 85% على الاستيراد، باتت السوق أكثر هشاشة اتجاه أي تطوّرات سياسيّة أو نقديّة أو أمنيّة تهدد سلاسل التوريد.
أمّا الاشتباكات المسلّحة بين أطراف النزاع، فباتت تهدد خلال أي معركة بتعليق عمل حقول النفط الليبيّة، وهو ما ينذر بحرمان الدولة الليبيّة من آخر مصادر النقد الذي تستعمله لدفع الأجور وتأمين الخدمات العامّة. وفي الوقت نفسه، تستمر الحرب الأوكرانيّة، ما يدفعنا لتوقّع استمرار تداعياتها الضاغطة على أسواق الدول النامية كليبيا، وخصوصًا من جهة ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ ليبيا اعتادت تاريخيًّا على استيراد نصف حاجتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، ما يشير إلى تأثّرها المباشر بتداعيات هذه الحرب.
في المقابل، يستمر نزاع السلطة في ليبيا، على شكل انقسام بين حكومتين تتنازعان الشرعيّة، وبوجود ميليشيات تملك سطوتها القويّة على مجريات هذا النزاع السياسي. وفي الوقت نفسه، تغذّي التدخلات الخارجيّة كل هذه الانقسامات، وتقود النزاع المحلّي لخدمة مصالحها الخاصّة، في البلد الذي ينعم بإنتاج نفطي مُغرٍ لكثيرين.
وهكذا، تصبح الأزمة السياسيّة بحد ذاتها سبب أساسي من أسباب شلّ الدولة، ومنعها عن القيام بدورها في قيادة البلاد نحو النهوض الاقتصادي. وفي النتيجة، تصبح إحدى أكبر الدول المنتجة للنفط دولة بائسة تعاني من أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة خانقة، في دلالة إضافيّة على التداعيات الخطيرة لفشل الإدارة العامّة والقيادة السياسيّة.