علي نور الدين
في نهاية الأسبوع الماضي، كانت الليرة التركيّة قد خسرت ما يقارب نصف قيمتها، مقارنةً ببداية العام الحالي. وخلال تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي وحده، كانت الخسائر التي ضربت هذه العملة قد قاربت حدود ال27% من قيمتها، خلال شهر واحد فقط، لتصل في مطلع هذا الشهر إلى أدنى مستوياتها التاريخيّة على الإطلاق. وكنتيجة بديهيّة لتدهور سعر صرف العملة المحليّة، وارتفاع أسعار السلع والمواد الأوليّة المستوردة، ارتفعت معدّلات التضخّم السنويّة إلى 21.31% ، وهو أعلى معدّل زيادة في الأسعار تشهده تركيا خلال السنوات الثلاث الماضية. باختصار، ما تمرّ به تركيا منذ أسابيع لم يعد مجرّد تراجع محدود قيمة العملة المحليّة، بل تحوّل إلى تهاوي متسارع في قيمتها، وارتفاع غير قابل للاستيعاب في معدلات التضخّم.
كل هذه التطوّرات كانت كفيلة بإشعال السجال التقليدي الذي لا ينتهي حول سياسات أردوغان الماليّة، وتدخّله الفج في السياسات النقديّة من منطلقات إيديولوجيّة غير براغمانيّة. فما يجري اليوم على مستوى سعر صرف الليرة التركيّة، يرتبط من الناحية العمليّة بثلاث قرارات متتابعة اتخذها المصرف المركزي التركي منذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، حيث قضت هذه القرارات بخفض معدلات الفوائد على دفعات من 19% إلى 15%. وجميع هذه القرارات جاءت بدفع من أردوغان نفسه، الذي حرص على إقالة العديد من المسؤولين كبار في المصرف خلال شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، للتمكّن من فرض رؤيته النقديّة القاضية بتخفيض معدلات الفوائد بشكل سريع وصارم على هذا النحو. مع الإشارة إلى أن أردوغان كان قد أقال ، لسبب نفسه وللتمهيد للقرارات نفسها، محافظ البنك المركزي السابق في شهر آذار/مارس من هذا العام، من أجل تعيين محافظ جديد يتناسب مع تطلعاته بخصوص معدلات الفوائد.
اليوم، تربط معظم التحليلات الاقتصاديّة العلميّة تهاوي سعر صرف الليرة التركيّة ومعدلات التضخّم بقرارات خفض الفوائد السريعة، وربما المتسرّعة، وهو ما يفرض إعادة نظر ما من قبل أردوغان في النقطة بالتحديد. بل وثمّة من يربط زعزعة ثقة الأسواق بالليرة التركيّة بطريقة تدخّل أردوغان في شؤون المصرف المركزي التركي وقراراته النقديّة، وتحديدًا في ما يتصل بالإطاحة بكبار مسؤولي السلطة النقديّة من أجل فرض رؤيته للسياسة النقديّة التركيّة. وتجدر الإشارة إلى أن أردوغان بدّل خلال عامين ونصف ثلاث محافظين للبنك المركزي على التوالي، نتيجة تباين توجّهاته في موضوع الفائدة تحديدًا مع بديهيّات السياسة النقديّة التي يتبعها أي محافظ للمصرف مركزي في العادة. وحتّى وزير الماليّة لطفي ألوان، العضو العريق في حزب أردوغان نفسه –حزب العدالة والتنمية – اضطرّ إلى الاستقالة في مطلع هذا الشهر، نتيجة تعنّت أردوغان في هذه التوجهات النقديّة.
في مقابل كل ذلك، يصرّ أردوغان على قرارات خفض الفوائد والإقالات التي شملت كبار المسؤولين عن السياسة النقديّة، بالرغم من جميع التداعيات التي حصلت بعدها، ولا يبدي الرجل أي مرونة في إعادة النظر بالضغوط التي مارسها لاتخاذ تلك القرارات. أدروغان، الذي لطالما صنّف نفسه كعدو تاريخي لمعدلات الفوائد المرتفعة، وضع كل ما جرى في إطار الحرب الاقتصاديّة الخارجيّة، لإبقاءها رهينة “للوبي الفائدة المرتفعة والدول الكبرى”، فيما المعالجة المطلوبة ليس برأيه سوى إطلاق حملة للتحقيق بعمليات المضاربة التي تجري في السوق السوداء على الليرة التركيّة.
كل هذه التطورات تفتح ملف البحث في ما جرى، للسؤال عن سر العلاقة ما بين معدلات الفوائد وسعر صرف العملات المحليّة ومعدلات التضخّم، وطبيعة التطورات الاقتصاديّة في تركيا خلال الأعوام الماضية التي مهدت للضغط على سعر صرف عملة البلاد المحليّة اليوم. كما يفتح الملف باب السؤال عن سر إصرار أردوغان على محاربة معدلات الفوائد المرتفعة بهذا الشكل المتعنّت، والخلفيّات الايديوليّة التي ينطلق منها في إصراره هذا، ناهيك عن نوعيّة المصالح المحليّة التي يخدمها بمجرّد الحفاظ على معدلات الفوائد المنخفضة بهذا الشكل.
تكوّن فقاعة الديون التركيّة
تعود أزمة تركيا التاريخيّة مع الديون والفوائد وسعر الصرف، كالكثير من الدول النامية، إلى جملة من التطوّرات المرتبطة بأسواق المال العالميّة التي حصلت منذ العام 2009، وعلى مراحل متعددة. فكنتيجة للأزمة الماليّة العالميّة التي حصلت سنة 2008، لجأت المصارف المركزيّة في الدول الغربيّة إلى تخفيض معدلات الفوائد إلى مستويات لامست الصفر، في محاولة لتشجيع الأسواق على الاقتراض وتحريك العجلة الاقتصاديّة. ولهذا السبب بالتحديد، تدفّقت على الدول النامية كتركيا كتلة ضخمة من السيولة بالعملة الصعبة من الخارج، من قبل المستثمرين الباحثين عن معدّلات الفائدة الأعلى نسبيًّا مقارنةً بالفوائد شديدة التدنّي في الدول الغربيّة. كما مثّل تعثّر كبرى المصارف الغربيّة نتيجة تبعات الأزمة الماليّة سببًا إضافيًّا لبحث المتموّلين عن فرص استثماريّة في الدول النامية كتركيا. ولهذه الأسباب بالتحديد، يشير البنك الدولي إلى أن الدول النامية استفادت من تدفقات ماليّة بقيمة إجماليّة ناهزت ال675 مليار دولار سنة 2009، و1,130 مليار دولار سنة 2010.
تدفّق العملة الصعبة على تركيا كان مغريًا، وهو ما دفع الحكومة التركيّة إلى تشجيع الاقتراض بالعملات الأجنبيّة لاستخدام السيولة المتدفقة على المصارف التركيّة، سواء من قبل الأسر والأفراد على شكل قروض استهلاكيّة (قروض سيّارات أو سكنيّة أو شخصيّة…إلخ)، أو من قبل الشركات التجاريّة على شكل سندات دين. ومع تدفّق الأموال بالعملة الأجنبيّة بسهولة من الخارج، لم تكن المصارف التركيّة بحاجة إلى رفع فوائدها كثيرًا لاستقطاب الودائع الأجنبيّة من الغرب، طالما أن المصارف المنافسة الغربيّة تعرض فوائد تقارب الصفر، أو حتّى فوائد سلبيّة في بعض الحالات. وهكذا، بإمكان المصارف التركيّة الحصول على السيولة من الخارج بفوائد غير مرتفعة، وهو ما سمح لها بإقراض هذه الأموال أيضًا بفوائد معقولة داخل تركيا.
تدريجيًا تكوّنت فقاعة كبيرة من القروض داخل تركيا، نتيجة كل هذه التطورات، وخصوصًا بعد أن ارتفعت تدريجيًّا كتلة القروض داخل تركيا بأكثر من الضعف، بين عامي 2009 و2018. مع الإشارة إلى أن أكثر من 80% من هذه القروض منحتها المصارف التركيّة، التي استفادت من تدفع الودائع من الخارج، فيما منحت ال20% المتبقية مصارف أجنبيّة لصالح أفراد وشركات تركيّة.
أزمة ما بعد الفقاعة: سعر الصرف والفوائد
لكنّ هذا الحال لم يدم طويلًا، فمنذ العام 2015 عادت المصارف في الخارج إلى رفع معدلات الفوائد تدريجيًّا، بعد استعادت الأسواق العالميّة عافيتها وخرجت من تداعيات الأزمة العالميّة. وعلى سبيل المثال، ارتفع معدّل الفوائد المعتمدة في تعاملات البنوك في الولايات المتحدة في تلك المرحلة من مستويات تقارب الصفر في نهاية ال2014، إلى نحو 2.42% في شهر نيسان/أبريل 2019.
ومع عودة الفوائد للارتفاع في الدول الغربيّة، عادت الأموال لتتدفّق بشكل معاكس من الدول النامية، ومنها تركيا، إلى دول الغرب، وهو ما يفسّر بدء تدهور سعر صرف الليرة التركية بشكل متدرّج منذ العام 2018. فتدفّق السيولة بالعملة الصعبة من تركيا إلى الخارج، كان يعني من الناحية العمليّة شح العملات الأجنبيّة في سوق القطع مقابل الليرة التركيّة، وبالتالي انخفاض قيمة الليرة التركيّة مقابل الدولار واليورو.
وبوجود فقاعة الديون، كان تدهور سعر صرف الليرة التركيّة يعني أزمة كارثيّة على المقترضين بالعملة الأجنبيّة في تركيا، من أفراد وشركات. فقيمة ديون هؤلاء المقوّمة بالعملات الأجنبيّة الأجنبيّة كانت ترتفع، مقابل قيمة مداخيلهم بالليرة التركيّة، وهو ما أدخل تركيا منذ ذلك الوقت في دوامة من الإفلاسات المتتالية، ناهيك عن ارتفاع المخاطر التي تعرّض لها القطاع المصرفي التركي نتيجة ارتفاع نسبة القروض المتعثّرة. ومع هذه الخضّات، بدأ المستثمرون الأجانب بالنفور من السوق التركيّة، وهو ما فاقم من أزمة نزوح الرساميل الأجنبيّة باتجاه الخارج، ما أدّى إلى المزيد من الضغط على سعر صرف الليرة التركيّة منذ العام 2018.
إشكاليّة معدلات الفائدة تبرز
لكل هذه الأسباب، بدأت إشكاليّة معدلات الفائدة تبرز بقوة في تركيا منذ العام 2018 وحتّى اليوم، وباتت هذه الإشكاليّة جزء أساسي من جميع النقاشات الاقتصاديّة في البلاد. فالحفاظ على الرساميل الأجنبيّة، واستقطاب العملة الصعبة إلى البلاد للحد من تدهور سعر صرف الليرة التركيّة ، كان يستلزم رفع معدلات الفائدة في تركيا، لتتمكّن تركيا من مواكبة الارتفاع العالمي في معدلات الفوائد والمنافسة على الرساميل الأجنبيّة. في المقابل، مثّلت سياسات أردوغان عدو شرس لمعدلات الفوائد المرتفعة في جميع المراحل دون استثناء، وهي حقيقة حرص أردوغان نفسه على الإعلان عنها في كل مناسبة. ولهذا السبب تحديدًا، كان تعنّت أردوغان التاريخيّة في وجه زيادة معدلات الفوائد سبب أساسي من أسباب تعقّد أزمة سعر صرف الليرة التركيّة.
لدى أردوغان أسبابه لتبنّي هذا الموقف ضد زيادة معدلات الفوائد، وهي أسباب تبدأ من خلفيّة حركته الاسلاميّة المناهضة للربا بشكل عام، والتي ترغب بتحييد أثر الفوائد عن الاقتصاد المحلّي قدر الإمكان. وفي الوقت نفسه، يعتبر أردوغان أن رفع الفوائد يضر بالقواعد الإنتاجيّة للاقتصاد التركي، من خلال لجم الاقتراض المستخدم لتمويل المشاريع الإنتاجيّة، ناهيك عن دفع المستثمرين إلى إيداع أموالهم في المصارف للاستفادة من الفوائد بدل استثمارها في المشاريع المنتجة. وحتّى في ما يتعلّق بانخفاض سعر صرف العملة المحليّة، الذي يمكن أن ينتج عن عدم رفع معدلات الفوائد، فهذا التطوّر قد يخدم بدوره القطاعات المنتجة التركيّة، من خلال زيادة تنافسيّتها في الأسواق الأجنبيّة عند التصدير، لكون انخفاض سعر صرف العملة المحليّة سيعني انخفاض أسعار السلع المصدّرة عند احتساب قيمتها بالدولار أو اليورو.
في المقابل، يركّز خصوم أردوغان على الأثر الكارثي الذي يتركه تركيزه المفرط على متغيّر اقتصادي وحيد، أي أثر ارتفاع معدلات الفوائد، في مقابل تجاهل جميع المتغيّرات الأخرى: كأثر تدهور سعر الصرف على قيمة أجور الأتراك ومدخراتهم، وقدرتهم على الاستهلاك، بالإضافة إلى تقلّص حجم الاقتصاد التركي ككل نتيجة تدنّي قيمة العملة المستخدمة في جميع التبادلات التجاريّة الداخليّة. كما يركّز خصومه أيضًا على أسلوب أردوغان في التعامل مع المسائل النقديّة والماليّة، القائم على التدخّل الشرس في طريقة عمل المصرف المركزي وتجاهل الاستقلاليّة التي يفترض أن يتمتّع بها المصرف في إدارته للشأن النقدي، وعدم منحه الهامش المطلوب لإدارة هذا الشأن بمعزل عن الحسابات الشعبويّة والسياسيّة.
وتجدر الإشارة إلى أن علاقة معدلات الفوائد بالتضخم وسعر الصرف تتشعّب بأشكال أخرى. فخفض معدلات الفائدة يسهّل الاقتراض وزيادة الكتلة النقديّة المتداولة في الأسواق بالعملة المحليّة، وهو ما يسهم في زيادة المعروض من العملة المحليّة في سوق القطع مقابل العملات الأجنبيّة، ما يعني أيضًا الضغط على سعر صرف الليرة التركيّة. أما رفع معدلات الفوائد، فيسهم في الحد من تدهور سعر الصرف، عبر زيادة حجم الودائع الموجودة وامتصاص الكتلة النقديّة المتداولة في السوق من قبل المصرف المركزي.
أي مصالح يخدم أردوغان؟
هكذا إذًا ظلّت مسألة معدلات الفوائد الإشكاليّة الأساسيّة التي عنونت النقاشات المتعلّقة بأزمة سعر الصرف في تركيا طوال السنوات الثلاث الماضية. لكن هذا العام بالتحديد، تفاعلت المسألة على نحو متسارع، مع قيام أردوغان بالإقالات الجماعيّة داخل المصرف المركزي أولًا، تمهيدًا لقرارات تخفيض معدلات الفائدة على ثلاث دفعات منذ شهر أيلول الماضي، وهو ما أدّى إلى تسارع التدهور في سعر صرف الليرة التركيّة مؤخرًا.
وفي واقع الأمر، ثمّة من يشير اليوم إلى أن سياسات أردوغان تنسجم بشكل وثيق مع شبكة المصالح التي يمثّلها في الحكم، التي نسجها من داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، والقائمة على نخبة البرجوازيّة التركيّة الصاعدة، المستفيدة من انخفاض معدلات الفوائد للحصول على التمويل المصرفي لمشاريعها. كما يخدم انخفاض سعر الصرف مصالح الصناعيين من ضمن هذه النخبة، الذي سيستفيدون من زيادة تنافسيّة إنتاجهم في الأسواق الخارجيّة.
أمّا في ما يخص مستقبل الأزمة الراهنة، فيبدو أن أردوغان قد حوّل المسألة إلى تحدّي سياسي شخصي، وهو ما يفاقم من جميع التعقيدات الماليّة والنقديّة القائمة. فالتعامل مع أزمات من هذا النوع بخلفيات سياسيّة شخصيّة بحت، لا يخدم التعامل مع مشكلة تتشابك العوامل الاقتصاديّة المؤثّرة فيها، وتتشابك نوعيّة المعالجات المطلوبة للتعامل معها.