وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المشاريع الأثيوبيّة تثير هواجس الجوار العربي

أثارت المشاريع الأثيوبيّة عاصفة من الردود العربيّة الغاضبة، وتختلف الأسباب باختلافطبيعة مصالح كل دولة في منطقة البحر الأحمر.

المشاريع الأثيوبيّة
رجل يلوح بالعلم الإثيوبي. أمانويل سيليشي / أ ف ب

علي نور الدين

خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2024، أشعلت أثيوبيا تجاذبًا إقليميًا حادًا يختصُ بمشروعها الجديد الطموح، المتمثّل باستئجار ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال الانفصالي، على شواطئ البحر الأحمر. مع الإشارة إلى أنّ المشروع يتضمّن إمكانيّة إنشاء منطقة تجاريّة في محيط المرفأ، وقاعدة عسكريّة، بالإضافة إلى ممر برّي يتصل بالداخل الأثيوبي.

وبهذا الشكل، تكون أثيوبيا قد تجاوزت المشكلة التي عانت منها منذ انفصال إريتريا عنها، أي منذ أن تحوّلت إلى دولة حبيسة لا تملك شواطئ أو منافذ بحريّة. وفي مقابل تمرير هذا المشروع، ستعلن أثيوبيا الاعتراف بإقليم أرض الصومال كجمهوريّة مستقلّة، وهو ما سيمثّل أوّل اعتراف رسميّ بهذه الجمهوريّة في العالم.

ومن المفترض أن يعطي هذا الاعتراف الدولة الانفصاليّة مشروعيّة إقليميّة بالغة الأهميّة، بالنظر إلى الدور المؤثّر الذي تلعبه أثيوبيا في منطقة القرن الأفريقي.

مظاهر الاستنفار العربي

وكما كان متوقّعًا، فقد أثارت الخطوة الأثيوبيّة عاصفة من الردود العربيّة الغاضبة، التي أخذت تتصاعد منذ بداية العام 2024 وحتّى شهر شباط/فبراير، لتلامس حد التلويح بالتصعيد الميداني.

والمعني الأوّل بهذه الخطوة كان بطبيعة الحال الصومال نفسها، التي تعتبر إقليم أرض الصومال الانفصالي جزءًا من أراضيها، والتي اعتبرت المشروع الأثيوبي “انتهاكًا لسيادتها”. وهكذا، كانت النتيجة الفوريّة للإعلان عن مشروع سحب السفير الصومالي من أثيوبيا، وتعهّد رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بار بالدفاع عن بلده ومنع انتهاك حدوده.

غير أنّ الدول العربيّة المجاورة الأخرى امتلكت بدورها مخاوفها من الخطوة الأثيوبيّة. فنظام عبد الفتّاح السيسي في مصر سرعان ما اعتبر المشروع الأثيوبي “خطوة أحاديّة ستزيد من حدّة التوتّر”، مستنكرًا تقويض عوامل الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي. وفي نبرة محذّرة من تداعيات المشروع، اعتبرت مصر أن المشروع الأثيوبي يهدد مصالح دول المنطقة، ويعرّض أمنها القومي للمخاطر والتهديدات.

لم يكن السودان بعيدًا عن المشهد هذا، على الرغم من انشغاله بالحرب الداخليّة الراهنة. ففور الإعلان عن المشروع، طالبت وزارة الخارجيّة السودانيّة (الّتي يسيطر عليها الجيش النظامي) أثيوبيا باتباع الوسائل الصحيحة، القائمة على “التعامل مع الحكومات الشرعيّة المعترف بها دوليًا، دون غيرها من الكيانات”، وذلك في إشارة واضحة إلى تعاقد أثيوبيا مع إقليم انفصالي غير شرعي. ومنذ ذلك الوقت، لم يبتعد الموقف السوداني عن التشديد على أهميّة احترام سيادة الصومال ووحدة أراضيها، بعيدًا عن أطر التعاون التي لا تحترم القواعد القانونيّة الصحيحة.

أما في منطقة الخليج، فتوافقت قطر والسعوديّة والكويت على أولويّة دعم وحدة الأراضي الصوماليّة، وهو ما أثمر عن عقد اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربيّة في شهر كانون الثاني/يناير 2024، لمواجهة اعتداء أثيوبيا على سيادة الصومال. وكان من الواضح أنّ دول الخليج العربيّة –باستثناء الإمارات العربيّة المتحدة– وجدت نفسها معنيّة بشكلٍ مباشرٍ بهذا التطوّر، تمامًا كحال مصر والسودان، وهو ما يطرح السؤال عن خلفيّة هذا الاتفاق الإقليمي النادر على مواجهة المشروع الأثيوبي.

تنوّع الحسابات الجيوسياسيّة العربيّة

من المهم أن نلتفت أولًا إلى أنّ حسابات الدول العربيّة التي تحرّكت سياسيًا ضد أثيوبيا تتجاوز مسألة التضامن مع الصومال كبلد عربي.

إذ أن هذه الدول ترى في المشروع الأثيوبي تهديدًا لمصالحها الأمنيّة والاقتصاديّة الإقليميّة، بمعزل عن تداعيات المشروع على وحدة الصومال وسيادته. ومن المهم الإشارة أيضًا إلى أنّ خلفيّة حذر الدول العربيّة من المشروع الأثيوبي تختلف بين هذه الدول، بحسب طبيعة مصالح كل دولة في منطقة البحر الأحمر.

بالنسبة لمصر، يمثّل البحر الأحمر المدخل الطبيعي لقناة السويس، أبرز مصادر القوّة الجيوسياسيّة والاقتصاديّة التي تمتلكها القاهرة في الوقت الراهن. وبفعل هجمات الحوثيين والردود الأميركيّة، اختبرت مصر مؤخرًا خطورة التوتّرات العسكريّة في البحر الأحمر على سلامة الملاحة البحريّة أولًا، وعلى الدور الذي تؤدّيه قناة السويس ثانيًا، كما على حجم العائدات التي تؤمّنها القناة لمصر.

لكلّ هذه الأسباب، تتوجّس مصر من منح أثيوبيا هذا المنفذ في منطقة البحر الأحمر، خصوصًا إذا شمل قاعدة عسكريّة بحريّة، بالإضافة إلى الميناء التجاري. فمشروع كهذا، سيعني دخول أثيوبيا كلاعب أساسي مؤثّر على أمن الملاحة في البحر الأحمر، الذي يرتبط بشكلٍ وثيقٍ باعتبارات الأمن القومي والاقتصادي المصري.

وعلى أي حال، أصبح من المعلوم أن مصر تملك أساسًا ما يكفي من تجاذبات ونزاعات مع أثيوبيا، في العديد من الملفّات الإقليميّة، كمسألة سد النهضة، والدور الذي تضطلع به أثيوبيا في إطار الحرب الأهليّة السودانيّة. وبهذا المعنى، سيؤدّي الحضور العسكري الأثيوبي في منطقة البحر الأحمر إلى منح أثيوبيا أوراق ضغط إضافيّة، في مواجهة مصر، وفي سياق النزاعات القائمة بين الدولتين أصلًا.

ويُضاف إلى كلّ هذا، خشية مصر الدائمة من مراهنة الدول الغربيّة على الحضور الأثيوبي في منطقة القرن الأفريقي، كقوّة موازِنة في وجه القوّة الإقليميّة التي تمثّلها مصر. وبهذا المعنى، يصبح عامل التأثير الأثيوبي أداة تسمح بالضغط على مصر في العديد من الملفّات الإقليميّة الأخرى، ومنها مثلًا ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ولذلك، وبمعزل عن علاقة نظام السيسي الإيجابيّة بمعظم الدول الغربيّة، إلا أن مصر تخشى من تقلّص قوّتها التفاوضيّة في المنطقة، بقدر ما تتنامى القوّة الإقليميّة التي تمثّلها أثيوبيا.

في المقابل، وبالنسبة لدول الخليج العربيّة، وخصوصًا السعوديّة وقطر والكويت، فالبحر الأحمر يمثّل المسار الأساس الذي يسمح بتصدير النفط والغاز العربيَّين إلى أوروبا وأميركا الشماليّة. وأيّ مس بأمن الملاحة في المنطقة، سيزيد من تكاليف شحن النفط والغاز، من خلال عبور مسارات بديلة أطول، تمامًا كما حصل عند اندلاع المواجهات البحريّة قرب سواحل اليمن مؤخرًا. وذلك سيؤدّي حكمًا إلى تقلّص تنافسيّة النفط والغاز العربيَّين في الأسواق الدوليّة، كما سيؤدّي إلى تقلّص سعة الشحن المتاحة، بسبب زيادة المدّة التي سيحتاجها نقل كل شحنة من النفط والغاز.

بهذه الصورة، تخشى الدول الخليجيّة الثلاث من دخول أثيوبيا كطرفٍ جديدٍ مُحدد لمعادلات الأمن في منطقة البحر الأحمر، وخصوصًا بعدما تصاعد تأثير إيران وحلفائها الحوثيين في منطقة مضيق باب المندب. فامتلاك أثيوبيا هذا التأثير المباشر على أمن الملاحة في الإقليم، سيعطيها قوّة سياسيّة في مواجهة الدول الخليجيّة المصدّرة للنفط والغاز المُسال. وتدرك الدول الخليجيّة جيدًا أن أثيوبيا تملك طموحاتها السياسيّة الخاصّة، في وجه دول الجوار العربي.

أخيرًا، تتشارك السودان مع سائر الدول العربيّة الخشية من منح جمهوريّة أرض الصومال المشروعيّة الإقليميّة، بمجرّد اعتراف أثيوبيا بها كدولة مستقلّة ذات سيادة. فتشريع هذه الحالة الانفصاليّة، سيغذّي طموحات الانفصاليين الآخرين في المنطقة، ومنهم انفصاليي دارفور وجنوب اليمن.

أدوار إسرائيل والإمارات

كما أشرنا سابقًا، فقد مثلت الإمارات استثناءً نافرًا بين جميع دول الخليج العربي، إذ لم تتخذْ أي موقف صارم في مواجهة المشروع الأثيوبي، كما أنها لم تستشعر خطرًا على مصالحها الإقليميّة جرّاء المشروع.

ولفهم خلفيّة الموقف الإماراتي، تكفي الإشارة إلى أنّ شركة موانئ دبي العالميّة التابعة للإمارات أعلنت رسميًا في أواخر كانون الثاني/يناير 2024 عن رغبتها بمشاركة أثيوبيا في تطوير ميناء بربرة، ما سيجعلها طرفًا مساهمًا في المشروع. وستتكامل هذه الشراكة مع العلاقة الجيّدة التي تربط الإمارات أصلًا بإقليم أرض الصومال، وبتطلّع الإمارات ودورها الإستثماري في الإقليم.

بهذا الشكل، كانت الإمارات تراهن على إقليم أرض الصومال الانفصالي، وعلى مشروع أثيوبيا الجديد هناك، لتعزيز حضورها الإستراتيجي في منطقة البحر الأحمر. وهذا ما ينسجم مع تجربة السياسة الخارجيّة الإماراتيّة في منطقة البحر الأحمر بشكل عام، بعدما دعمت الإمارات منذ سنوات المجلس الانتقالي في جنوب اليمن، الذي يملك توجهات انفصاليّة مشابهة لتوجهات أرض الصومال.

أمّا الدور الآخر الملتبس في هذه القضيّة، فيرتبط بإسرائيل وعلاقاتها الأمنيّة والعسكريّة القويّة مع النظام الحاكم في أثيوبيا. إذ يبدو أن هذه العلاقة ستعزّز مع دخول أثيوبيا في هذه المواجهة القاسية مع دول الجوار العربي. مع الإشارة إلى أنّ إسرائيل تعوّل أصلًا على حضور أثيوبيا ونفوذها في منطقة البحر الأحمر، في مواجهة حضور الحوثيين المدعومين من إيران.

أخيرًا، تبقى الإشكاليّة الأهم استفادة رئيس الحكومة الأثيوبيّة آبي أحمد من هذه التطوّرات، لتعزيز قبضة نظامه الأمنيّة، بحجّة مواجهة التحديات الإستراتيجيّة على المستوى الإقليمي. وهذا ما بدأه أحمد في الأسبوع الأوّل من شهر شباط/فبراير 2024، عندما أقدم على تعيين رئيس استخباراته تيميسغن تيرونه كنائب لرئيس الحكومة، في دلالة على توجّه الحكومة لتغليب الاعتبارات الأمنيّة على ما سواها. وهذا ما يثير المخاوف من تفاقم أعمال العنف العرقي، التي تتورّط بها حكومة أحمد منطقة أوروميا.