أكثر من 600 مهندس و8000 من كبار الكوادر يغادرون المغرب كل عام، حسب وزارة التعليم والاتحاد المغربي لتكنولوجيا المعلومات. وعلى الرغم من أن فرنسا كانت الوجهة المفضلة تقليدياً بسبب الروابط التاريخية بين البلدين، إلا أن الطلاب والمهنيين الشباب باتوا يختارون على نحوٍ متزايد وجهاتٍ جديدة في الخارج.
ففي عام 2018 وحده، ذهب حوالي 40 ألف شاب مغربي للدراسة في فرنسا، وهي أكبر مجموعة وطنية للطلاب الأجانب هناك. رداً على ذلك، قامت العديد من المدارس الفرنسية المرموقة بإنشاء مراكز لها في المغرب نفسه، بما في ذلك ESSEC وEMLYON وCentrale وEIGSI وINSA.
قامت الحكومة المغربية بدورها من خلال إنشاء المنتدى الدولي للكفاءات المغربية في الخارج (FINCOME) لتشجيع المهنيين الشباب والأكاديميين المغاربة العاملين في الخارج على العودة إلى المغرب والانضمام إلى قطاعات التعليم العالي والبحث العلمي وقطاع الأعمال. كما يهدف المنتدى إلى توفير الخبرة في تحقيق الأهداف والاستراتيجيات الإنمائية في مختلف القطاعات، وتقييم المشاريع البحثية وجذب الاستثمارات والشراكات.
ومع ذلك، فإن هذه الجهود لم تعكس دفة الهجرة، كما أشار الملك محمد السادس في أغسطس 2018: “الكثير من الشباب في المغرب، وخاصة خريجي جامعات العلوم والتكنولوجيا، يفكرون في الهجرة، ليس فقط بسبب الحوافز المادية المغرية في الخارج، ولكن أيضاً بسبب إنهم لا يجدون في بلدهم الظروف المناسبة للتوظيف والتقدم الوظيفي، والابتكار، والبحث العلمي… وللأسباب ذاتها، لا يعود عدد من الطلاب المغاربة في الخارج للعمل في بلدهم بعد الانتهاء من دراستهم.”
فقد كشفت الأبحاث التي أجريت بين ديسمبر 2014 وفبراير 2015 في بلدان اتحاد المغرب العربي (الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب وتونس)، زيادةً كبيرة في أعداد الخريجين الجامعيين الذين يهاجرون إلى الخارج. ويقدر عددهم حاليا بنحو 853 ألف شخص مقارنة بـ585 ألف شخص في عام 2000، بزيادة قدرها 31%. كما وجد أن المغاربة يشكلون ما يقرب من نصف (46%) مواطني اتحاد المغرب العربي الذين يعيشون في الخارج. ويعزى ذلك جزئياً إلى ارتفاع معدل بطالة الشباب في المغرب، الذي بلغ في المتوسط 19,3% بين عامي 1999 و2019، حيث وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق وهو 29,3% في الربع الثالث من عام 2017 وأدنى مستوى قياسي بلغ 13,1% في الربع الثاني من عام 2006 ، بلغت 24,1% في الربع الأول من عام 2019.
يُطلق على مغادرة الأشخاص المدربين تدريباً عالياً أو المؤهلين من بلدٍ أو قطاع معين بهجرة الأدمغة، على الرغم من أن عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ميشال بيرالدي لا يعتقد أن المصطلح ينطبق في هذه الحالة، إذ قال لفَنَك: “أعتقد أن الأمر يشبه تنقّل الأدمغة.” وأضاف، “كان هناك دائماً تدريبٌ للمديرين التنفيذيين والنخب من المغرب في فرنسا، وبعض” التبخر”. البعض يظل هناك، والبعض الآخر يعود، والبعض الآخر يعود ثم يغادر للأبد. إنه أشبه باعتبار النخب مشروعاتٍ خارج حدود الدولة أكثر من هجرة الأدمغة.”
بالنسبة للأستاذ المغربي عبد الحميد نشاد، فإن عوامل الطرد للطلاب والمهنيين داخلية بالدرجة الأولى. ففي مقالٍ نُشر في مجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مارس 2018، ذكر ما يلي: “اقتصادية: وجود فجوة اقتصادية بين الشمال [الشامل] والجنوب؛ وسياسية: عدم وجود آليات ديمقراطية لضمان تكافؤ الفرص للجميع (الجدارة)؛ والمهنية: عدم قدرة الاقتصاد الوطني على تلبية تطلعات أولئك الذين حصلوا على مؤهلات عالية المستوى؛ والبطالة الكلية أو الجزئية، والتي تُعزى في كثيرٍ من الأحيان إلى عدم كفاية تنفيذ سياسات التعليم والتوظيف والعلوم والتكنولوجيا؛ وفشل نظام ريادة الأعمال الذي تتمثل سماته الرئيسية في الأهمية الضئيلة الممنوحة للبحث والتطوير وضعف توجيه الشركات المغربية؛ والميزانية المحدودة المخصصة للبحث: يمثل إجمالي الإنفاق في المغرب أقل من 0,3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل بكثير من المعدلات المسجلة في البلدان المتقدمة (2% في بلدان الاتحاد الأوروبي)؛ وضعف وسائل ٍالتحفيز الفكري (المختبرات، والمكتبات، والجمعيات المهنية) إلى جانب القصور البيروقراطي.”
ولكن برز اتجاهٌ جديد قد يتسبب في هجرة عقولٍ حقيقية، حسب بيرالدي، إذ قال “يريد المزيد والمزيد من الطلاب تجنب نظام التصفية الذي تم إنشاؤه في فرنسا ويفضلون الذهاب إلى إنجلترا والولايات المتحدة أو كندا حيث سيتم توظيفهم من قبل الشركات القطرية أو السعودية الكبيرة للعمل في هذه البلدان، وخاصة في البيئة المصرفية. يذهب آخرون إلى الصين للاستمتاع بإمكانية وجود وظائف دولية.”
إن معايير الاختيار في فرنسا تجعل من الصعب الالتحاق بأفضل المدارس، ومن المقرر أن تزداد الرسوم الدراسية للطلاب الأجانب زيادةً كبيرة في سبتمبر 2019، حيث سترتفع من حوالي 200 يورو سنوياً إلى ما بين 2,770 و3,770 يورو سنوياً.
وقال بيرالدي: “في فرنسا، يوجد نظام تصفية عنيف ومتطرف للغاية، وبشكلٍ خاص بالنسبة للطبقات الوسطى، إلى الحد الذي أصبح فيه دراسة خياراتٍ أخرى أكثر تطبيقاً من الناحية الاقتصادية.” وأضاف، “هذا غير قابل للقياس بعد لأنه اتجاهٌ جديد، إلا أنه ضخم. ما أعرفه الآن هو أن الدولة الثانية التي اختارها الطلاب المغاربة بعد فرنسا هي ألمانيا، وأن أول جنسية مغاربية في إنجلترا والولايات المتحدة هي مغربية، وأن العديد من طلاب الطب يختارون الدراسة في السنغال حيث لا يوجد تحديد لأعداد المقبولين مما يجعل الدراسة صعبة للغاية في فرنسا.”
تحديد أعداد المقبولين يحدّ من أعداد الطلاب المقبولين في التخصصات الطبية المختلفة، مما يجعل من الصعب للغاية بالنسبة لطالب السنة الأولى الوصول إلى التدريب الذي يختاره.
يبدو أن هجرة العقول المغربية أصبحت حقيقةً مع تحول سوق العمل إلى سوقٍ مدوّل على نحوٍ متزايد، إلى جانب فرص العمل المهنية المحدودة في الداخل. إذا كانت البلاد غير قادرة على الاحتفاظ بشبابها المهرة، فإن اقتصادها المتعثر بالفعل سيواجه مستقبلاً قاتماً.