علي نور الدين
في الخامس من شهر أيّار/مايو الحالي، قرّر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي زيادة معدّل الفوائد المستهدفة بنحو ربع نقطة مئويّة، لتصبح عند نطاق يتراوح ما بين 0.75% و1%، وهو ما شكّل أعلى زيادة في معدلات الفوائد الأميركيّة منذ نحو 22 عامًا. ومن الناحية العمليّة، مثّل هذا القرار ثاني زيادة في معدّل الفوائد الأميركيّة المستهدفة خلال هذا العام، بعد أن قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي برفع هذا المعدّل بمقدار ربع نقطة مئويّة في شهر آذار/ مارس الماضي، في أوّل زيادة للفوائد يقوم بها المجلس منذ العام 2018.
أمّا وكالة فيتش، فعدّلت مؤخّرًا توقّعاتها لنسب الفائدة الأميركيّة، لترجّح بلوغها حدود ال2% في نهاية العام الحالي، وهو ما يمثّل ضعفي الحد الأقصى للفوائد المستهدفة حاليًّا. بمعنى آخر، تتوقّع الوكالة أن تكون الزيادتان الأخيرتان في معدلات الفوائد مجرّد بداية لمسار سيستمر خلال الأشهر المقبلة، على شكل زيادات متتالية وسريعة في معدلات الفوائد الأميركيّة.
وبما أن هذه القرارات الأميركيّة ستتوازى مع رفع للفوائد في جميع الدول المتقدمة، فالسؤال الأهم اليوم بات يرتبط بالأثر الكارثي لهذه الخطوات، على الاقتصادات الناشئة والدول النامية، وفي طليعتها دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
علاقة الفوائد بالتضخم
عمليًّا، يمثّل الاحتياطي الفيدرالي الكيان الذي يقوم بدور المصرف المركزي في الولايات المتحدة الأميركيّة، والذي يملك صلاحيّة رفع أو خفض معدلات الفوائد التي يستهدف الوصول إليه في السوق، وفقًا لأهداف اقتصاديّة محددة. وما نشهده اليوم من زيادات متتالية وسريعة في معدلات الفوائد لا يمثّل سوى جزء من دور الاحتياطي الفيدرالي في إدارة سياسته النقديّة، بهدف التعامل مع معدلات التضخّم المرتفعة. فخلال العام الحالي، ارتفعت معدلات التضخّم في الولايات المتحدة الأميركيّة إلى حدود ال8.5%، وهو ما عنى تسجيل أعلى زيادة في أسعار السوق منذ أكثر من 40 سنة. وكحال جميع المصارف المركزيّة، يسعى الاحتياطي الفيدرالي اليوم إلى الحد من معدلات التضخّم المرتفعة عبر زيادة معدلات الفوائد.
من المهم هنا، ولتوضيح المشهد أكثر، الوقوف قليلًا عند العلاقة التي تربط معدلات الفوائد بمعدلات التضخّم، والتي تجعل رفع معدلات الفوائد إحدى الأدوات المفضّلة للمصارف المركزيّة حول العالم لمكافحة التضخّم، والحد من ارتفاع أسعار السوق. فرفع معدلات الفوائد يؤدّي تلقائيًّا إلى امتصاص قدر من السيولة المتداولة في الأسواق، عبر الحد من الاقتراض نتيجة ارتفاع فوائد الديون، وعبر زيادة الأموال التي يمتصها النظام المصرفي على شكل ودائع نتيجة ارتفاع فوائد الودائع. وهكذا، يمكن لامتصاص السيولة بفعل رفع معدلات الفوائد، أن يؤدّي إلى لجم الطلب على السلع والخدمات في الأسواق، وبالتالي الحد من التضخّم وارتفاع الأسعار، وهذا ما يحاول فعله الاحتياطي الفيدرالي اليوم.
كل اقتصادات العالم ستتأثر
باختصار، تسعى الولايات المتحدة من خلال رفع الفوائد إلى معالجة أزمات اقتصاديّة داخليّة، مرتبطة بأسواقها وأسعار السلع والخدمات فيها. لكنّ في الوقت نفسه، وكون السيولة المتوفّرة بالدولار هي المتأثّر الأوّل بقرارات رفع الفوائد الأميركيّة، وبما أن الدولار هو العملة الأكثر تداولًا على المستوى العالمي، فمن الطبيعي أن تتأثّر أسواق العالم بأسره عند رفع الفوائد الأميركيّة. و عملاً بمقولة “عندما يعطس الاقتصاد الأميركي يُصاب العالم بالزكام”، من المؤكّد أن اقتصادات العالم بأسرها ستشهد تقلّبات قاسية ومفاجئة، وبأشكال مختلفة، نتيجة السياسة النقديّة الذي يذهب إليها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي اليوم. وفي طليعة الاقتصادات المتأثّرة سلبًا بهذه القرارات، ستكون اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تمثّل اقتصادات نامية وأسواق ناشئة، بما يضعها في موقع هش أمام هذا النوع من التغيّرات الخارجيّة.
قبل الدخول في أثر رفع معدلات الفوائد الأميركيّة على الاقتصادات النامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المهم الإشارة إلى أن مسار رفع الفوائد في الدول المتقدمة اقتصاديًّا لن يقتصر على الولايات المتحدة. فرفع الفوائد في الولايات المتحدة، سيدفع جميع الدول ذات الاقتصادات المتقدمة إلى رفع الفوائد أيضًا، للحؤول دون هجرة رساميلها وودائعها باتجاه الولايات المتحدة. وهكذا، ستعاني الاقتصادات الناشئة والدول النامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من رفع الفوائد في جميع الدول الغربيّة والاقتصادات المتقدمة، بدل أن تعاني من رفع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركيّة فقط. مع الإشارة إلى الدول الغربيّة الأخرى تعاني من معدلات التضخّم المرتفعة، التي باتت تضرب العالم بأسره، وهو ما يدفعها أيضًا إلى رفع معدلات فوائدها شأنها شأن الاحتياطي الفيدرالي.
على سبيل المثال، وفي بدايات هذا الشهر، رفع بنك إنجلترا المركزي معدّل الفائدة لأعلى مستوى منذ 13 عامًا، ليصبح عند حدود ال1%، بعد أن صوّت ستّة أعضاء داخل لجنة السياسة النقديّة في المصرف لصالح هذا التوجّه، مقابل ثلاثة أعضاء فضّلوا زيادة أكثر تواضعًا. وعلى خطى بنك إنجلترا، بدأ البنك المركزي الأوروبي يُعد العدّة لزيادات متتالية في الفوائد الأوروبيّة، لمواكبة الزيادات في الفوائد الأميركيّة أولًا، وللتعامل مع معدلات التضخّم المرتفعة في السوق الأوروبي ثانيًا. وعلى هذا النحو أيضًا، بدأ المصرف المركزي الأوسترالي باتخاذ قرارات شبيهة في ما يخص رفع معدلات الفوائد الرائجة في أوستراليا، مع توقعات بأن تقدم سائر المصارف المركزيّة في الدول المتقدمة على خطوات مماثلة.
الأثر المتوقّع على اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
للوقوف عند أثر ارتفاع الفوائد الأميركيّة وفوائد أسواق الدول المتقدمة، على الدول النامية والاقتصادات الناشئة، وتحديدًا أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المفيد العودة إلى تجربة العام 2015، الذي شهد نفس السيناريو الذي يحصل اليوم. فالعودة إلى تجربة تلك المرحلة، يمكن أن تسمح لنا بتلمّس الآثار المرتقبة للقرارات الأميركيّة خلال الفترة المقبلة، بالنظر إلى تشابه ظروف المرحلتين. ففي آواخر ذلك العام، وبعد أن خرج الاقتصاد الأميركي من آثار الأزمة الماليّة العالميّة، بدأ الاحتياطي الفيدرالي بتطبيق زيادات تدريجيّة متتالية وسريعة في معدلات الفوائد المستهدفة، وهو ما تلاه موجة من زيادات الفوائد في جميع الأسواق المتقدمة، لمواكبة الارتفاع الحاصل في الفوائد الأميركيّة.
في ذلك الوقت، وكنتيجة لرفع الفوائد في الدول المتقدمة، بدأت الدول النامية والاقتصادات الناشئة تعاني من أزمة نزوح الرساميل والسيولة بالعملة الصعبة باتجاه الغرب والأسواق الأميركيّة والاوروبيّة. ولهذا السبب بالتحديد، لم يكن من قبيل المصادفة أن تبدأ كل من الليرة التركية والجينيه المصري مسار الهبوط القاسي منذ بدايات العام 2016، نتيجة هذا العامل بالتحديد. مع الإشارة إلى أنّ الليرة التركيّة عانت من انخفاض بنسبة 18% خلال العام 2016، فيما واجه الجينيه المصري انخفاض بنسبة 59% في العام نفسه.
في العام 2016، وأيضًا نتيجة ارتفاع الفوائد في الغرب ونزوح العملات الصعبة إليه خلال العام السابق، عانت النيرة النيجيريّة من تهاوي سريع، بلغت نسبه 37% في نهاية ذلك العام. أما البيزو الأرجنتيني، فعانى من الأزمة نفسها ولنفس الأسباب، ليسجّل في نهاية السنة انخفاض بنسبة 17%. مع العلم أن البيزو المكسيكي شهد أيضًا سنة 2016 انخفاض بنسبة 17%، ليحل في قائمة عملات الدول الناشئة المتأثرة بقرارات رفع الفوائد.
باختصار، بين عامي 2015 و2016، ساهم رفع الفوائد في الدول الغربيّة بضرب العملات المحليّة للاقتصادات الناشئة، ومنها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كتركيا ومصر، نتيجة تسارع هجرة الرساميل باتجاه الدول المتقدمة. أما لبنان بالتحديد، فتسارعت خطواته نحو الانهيار المالي الذي حصل لاحقًا، نتيجة هذه العوامل بالتحديد. إذ اضطر المصرف المركزي اللبناني يومها إلى رفع الفوائد المحليّة للحد من هروب الرساميل باتجاه الخارج، خصوصًا أن لبنان كان يعاني أساسًا منذ العام 2011 أزمة قاسية في ما يخص ميزان مدفوعاته، الذي يلخّص صافي تبادلات البلد الماليّة مع الخارج.
لكل هذه الأسباب، من المتوقّع أن تضغط اليوم مجددًا قرارات رفع الفوائد الأخيرة في الأسواق الأوروبيّة والأميركيّة على اقتصادات الدول النامية، ومنها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبأشكال عديدة. الضغط الأوّل سيكون على عملات الاقتصادات الناشئة المحليّة، نتيجة شح العملات الصعبة المتوقّع في هذه الأسواق، بعد نزوح الرساميل إلى الغرب، تمامًا كما جرى خلال الأعوام التي تلت رفع الفوائد الأميركيّة عام 2015.
أما العامل الضاغط الثاني، فسيكون كلفة اقتراض حكومات الدول النامية، وقدرة هذه الدول على تمويل سداد قروضها القائمة عبر الاقتراض من جديد. مع العلم أن الغالبيّة الساحقة من هذه الدول تعاني أساسًا من ارتفاع قيمة ديونها السياديّة، وإدمانها على الاقتراض المتكرر لسداد الديون القائمة. وفي المحصّلة، ستسهم هذه التطورات في زيادة عجز ميزانيّات هذه الدول العامّة، وبالتالي تقليص قدرتها على الانفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة، أو الانفاق على مشاريعها الاستثماريّة. وهكذا، سيكون لارتفاع الفوائد أثر على المستوى المعيشي المباشر للمقيمين في الدول النامية، ومنها الدول العربيّة، وعلى مستوى الخدمات العامّة المتوفّرة في هذه الدول. وأخيرًا، ستدفع القطاعات الخاصّة في الدول النامية الثمن أيضًا، نتيجة ارتفاع كلفة الاقتراض، سواء للأسر والأفراد، أو للشركات والمؤسسات التجاريّة والمشاريع الصناعيّة والزراعيّة.
الآثار التي بدأنا بتلمّسها اليوم
من المهم القول أن العديد من الدول النامية والأسواق الناشئة، ومنها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بدأت أساسًا اليوم بتلمّس آثار رفع الفوائد الأميركيّة. من هذه الدول مثلًا، تركيا التي تعاني منذ سنوات من أسوأ الأزمات النقديّة والماليّة والاقتصاديّة، المرتبطة أساسًا بقيمة عملتها المحليّة وبعجوزات ميزان المدفوعات (صافي التداولات المالية مع الخارج) وارتفاع قيمة وكلفة فوائد ديون الدولة والقطاع الخاص.
بعد الارتفاع الأخير في الفوائد في الولايات المتحدة، من المتوقّع أن يعقد البنك المركزي التركي اجتماعًا في 26 أيار/مايو المقبل، للبحث في إمكانيّة رفع الفوائد التركية بالتوازي مع ارتفاع الفوائد الحاصل في الغرب، للحد من هجرة الرساميل باتجاه الأسواق المتقدمة. وهذا الاحتمال، سيعني حكمًا التأثير على القطاع الصناعي التركي وقدرته على مواصلة النمو، بالنظر إلى ارتباط كلفة الإنتاج بكلفة الإقتراض، المطلوب لتمويل المشاريع الصناعيّة. مع الإشارة إلى تركيا بالتحديد مرشّحة لمواجهة أزمات على مستوى قيمة عملتها المحليّة، في حال عودة ظاهرة نزوح الرساميل باتجاه الغرب، بالنظر إلى الأزمات النقديّة التي واجهتها هذه الدولة طوال الأعوام الماضية. باختصار، تركيا باتت تواجه احتمال تفاقم جميع الأزمات التي تواجهها منذ سنوات، من جهة سعر الصرف وعجز ميزان المدفوعات وكلفة فوائد ديون الدولة والقطاع الخاص.
في حالة دول الخليج، قررت العديد من المصارف المركزيّة في هذه الدول رفع الفوائد بنسب مختلفة، كحال البحرين وقطر الكويت مثلّا، وهو ما سيعني زيادة كلفة الاقتراض على الأسر والحكومات، وزيادة استنزاف الميزانيّات العامّة لتمويل ديون هذه الدول السياديّة. أما ما يجعل اقتصادات هذه الدول تحديدًا أكثر عرضة للتأثّر بقرارات رفع الفوائد الأميركيّة، فهو ارتباط اقتصادات هذه الدول بالدولار بشكل كبير، ما يجعلها مكشوفة تمامًا أمام أي تحوّل في حركة السيولة بالدولار في الأسواق العالميّة. وعلى أي حال، من المرتقب أن يؤدّي رفع الفوائد في الولايات المتحدة إلى أثر كبير على بورصات هذه الدول، نتيجة انتقال جزء من السيولة المتداولة في البورصات إلى الأسواق المتطورة. أمّا بالنسبة إلى المشاريع الاقتصاديّة الكبرى التي تقوم بها هذه الدول، فسيطالها التأثير من ناحية كلفة تمويل هذه المشاريع عند الاقتراض من الأسواق الماليّة، وتوفّر العملة الصعبة في الأسواق لتمويل المشاريع.
في حالة مصر، ترك قرار رفع الفوائد الأميركيّة أثر مباشر على قيمة الجينيه المصري، بعد أن اضطر المصرف المركزي المصري لإجراء تخفيض إضافي هذه السنة في قيمة الجينيه بمجرّد بدء الاحتياطي الأميركي برفع الفوائد. ومن المتوقّع أن تؤدّي هذه التطورات إلى مفاقمة جميع المشاكل الاقتصاديّة التي تعاني منها مصر أساسًا منذ سنوات، وفي طليعتها مشكلة الضغط على ميزان مدفوعاتها، والأثر الذي سيتركه هذه الضغط على قيمة الجينيه المصري. كما ستؤدّي هذه التطورات إلى زيادة كلفة الدين السيادي المصري، الذي تستنزف فوائده قدر كبير من ميزانيّة الدولة العامّة.
في خلاصة الأمر، من المتوقّع أن ينتقل العالم خلال الأشهر المقبلة إلى مرحلة التعامل مع تداعيات ارتفاع الفوائد الأميركيّة، وفوائد الدول المتقدمة بشكل عام. وإذا كانت العولمة وانفتاح الأسواق الماليّة على بعضها قد أدّت إلى تسهيل التبادلات الماليّة بين هذه الأسواق، فمن المرتقب أن يؤدّي هذا العامل بالتحديد إلى تسريع تأثر الأسواق النامية والاقتصادات الناشئة بارتفاع الفوائد في الغرب، وخصوصًا في ما يتعلّق بالتداعيات السلبية المرتبطة بتحويل الرساميل إلى الدول المتقدمة. أما ما سيضاعف من تداعيات الأزمة، فهو معدلات التضخم العالميّة التي رفعت من أسعار المواد الأساسيّة، والتي ستلعب دورها في الضغط أيضًا على ميزانيّات الدول النامية، التي تعاني من عجوزات ميزان المدفوعات. وهكذا، ستكون دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام هذه التحديات المقبلة، التي ستُترجم بأزمات معيشيّة واجتماعيّة قادمة.