وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المصارف الإسلاميّة: التوسّع السريع وإشكاليّات التطبيق

في حين أنّ نموذج المصارف الإسلاميّة توسّع بسرعة فائقة في المنطقة العربيّة، لا يزال من المتوقع وجود المزيد من التشريعات لتنويع أدواتها وتحسين الثقة بها.

المصارف الإسلاميّة
امرأة تمر أمام فرع لبنك دبي الإسلامي في الإمارة الخليجية. صورة لوكالة فرانس برس / كريم صاحب

علي نور الدين

خلال عقد واحد من الزمن، ارتفعت قيمة أصول المصارف الإسلاميّة الإجماليّة حول العالم من 1.2 ترليون دولار أميركي عام 2012، إلى 4 ترليونات دولار في نهاية العام 2022، لتتضاعف بذلك بنحو 3.33 مرّة بين الفترتين.

وبحسب أرقام صندوق النقد العربي، تركّز الجزء الأكبر من هذه الأصول المتنامية في المنطقة العربيّة، التي استحوذت مجتمعة على 55% من نشاط التمويل الإسلامي في العالم. مع الإشارة إلى أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تستحوذ وحدها اليوم على نصف الأصول المصرفيّة الإسلاميّة العالميّة، كما تضم 11 من أصل أكبر 20 مصرفًا إسلاميًّا في العالم.

وتشير الأرقام أيضًا إلى أنّ موجودات المصارف الإسلاميّة في الدول العربيّة باتت تتجاوز ال18% من إجمالي الأصول المصرفيّة العربيّة، ما يعني أن نشاط التمويل الإسلامي بات منافسًا جديًا للمصارف التقليديّة في العديد من الدول العربيّة، وبخاصّة الخليجيّة.

وبصورة أدق، ارتفعت حصّة أصول المصارف الإسلاميّة، من إجمالي أصول المصارف، إلى 45% في الكويت، ما جعلها الدولة العربيّة الأكثر اعتمادًا على نشاط التمويل الإسلامي. فيما حلّت كل من السعوديّة وقطر في المرتبتين الثانية والثالثة، إذ شكّلت أصول المصارف الإسلاميّة نحو 26% من إجمالي هذه الأصول في كلّ من الدولتين.

في المقابل، قاربت هذه النسبة حدود ال20% في الإمارات العربيّة المتحدة، وال17% في البحرين، وال16% في جيبوتي والأردن، وال15% في تونس. وهذه المقارنات، تستثني بطبيعة الحال السودان، التي اعتمدت أساسًا على الصيرفة الإسلاميّة لتدير قطاعها المصرفي بشكل كامل.

باختصار، شهد نشاط التمويل الإسلامي نموًّا لافتًا خلال الفترة الماضية، سواء من حيث الحجم، أو من حيث ثقله مقارنة بنشاط المصارف التقليديّة في الدول العربيّة. كما شهدت المصارف الإسلاميّة تطوّرًا كبيرًا في نوعيّة المنتجات التي تقدّمها، ومستوى التشريعات والتنظيمات الإداريّة التي ترعى عملها. وهذا ما ساهم في زيادة الثقة بعمل واستقرار هذه المصارف.

ورغم كل هذا النمو والتطوّر، مازالت مسألة المصارف الإسلاميّة محل سجال في كثير من الدول العربيّة، إذ يعتبرها البعض مجرّد إلتفاف أو تحايل لمحاكاة عمل المصارف التقليديّة بشكل بسيط، من دون تقديم أي نموذج مالي أو مصرفي مختلف فعليًا. كما أشار العديد من المؤسسات الدوليّة، ومنها صندوق النقد الدولي مثلًا، إلى بعض الهواجس المرتبطة بآليّات عمل المصارف الإسلاميّة ومخاطرها، ومدى انسجامها مع النظم المصرفيّة العصريّة.

في المقابل، تعتبر بعض الآراء الأخرى أنّ المصارف الإسلاميّة تقدّم بالفعل حلولًا ماليّة خلّاقة وجديدة، لمن يرغب بالالتزام بأحكام الشريعة الإسلاميّة. بل يذهب آخرون إلى اعتبار خدمات الصيرفة نموذجًا ماليًّا جديدًا، يسمح بتفادي الكثير من المخاطر التي تحيط بعمل المصارف التقليديّة.

تاريخ المصارف الإسلاميّة

كما هو معلوم، تطوّرت نماذج عمل وتمويل المصارف التقليديّة في الدول الغربيّة على مدى قرون طويلة، كما تطوّرت معها القوانين والتنظيمات الإداريّة على مراحل. إلا أنّ المجتمعات الإسلاميّة لم تحاول إنشاء أي مصرف متوافق مع أحكام الشريعة، قبل العام 1963.

فقبل هذه السنة، لحظ علماء الفقه تناقضات كبيرة بين مبادئ الشريعة الإسلاميّة التي تحرّم الربا، أي التعامل بالفائدة، ونموذج عمل المصارف التي تربح من الفارق بين الفوائد التي تدفعها للمودعين، وتلك التي تتلقاها من المقترضين. ولهذا السبب، ظلّ العمل المصرفي في المنطقة العربيّة محصورًا بخدمات المصارف التقليديّة المحليّة أو الأجنبيّة، بغياب أي نموذج تمويلي إسلامي.

عام 1963، أطلق الدكتور أحمد النجّار، أحد خبراء الاقتصاد المصريين، أوّل محاولة لتقديم خدمات تمويليّة إسلاميّة، من خلال تجربة عُرفت في ذلك الوقت بإسم “بنوك الادخار”. وقامت الفكرة يومها على تأسيس مجموعة من الفروع المصرفيّة التي تقوم بتلقّي مدخرات أهالي القرى المصريّة، على أن تقوم هذه الفروع بتمويل مشاريع المزارعين أو الحرفيين أو الصناعيين داخل تلك القرى.

وبحسب قواعد الشريعة، لم تقدّم هذه الفروع التمويل للمشاريع على شكل قروض مقابل فوائد، بل على شكل مساهمات وشراكات مقابل نسبة من أرباح المشاريع. كما لم تسدد هذه الفروع أي فوائد للمودعين لديها، بل منحتهم نسبة من أرباح الفروع.

خلال ست سنوات، نجحت هذه التجربة، ليتجاوز عدد فروع “بنوك الادخار” ال 53 فرعًا، فيما ارتفع عدد المشتركين في هذه الفروع إلى نحو 85 ألف مواطن مصري. إلا أنّ تجربة هذه الفروع، كمؤسسات ماليّة خاصّة آخذة بالتوسّع، تعارضت مع الأيديولوجيّة الإشتراكيّة التي تبنّاها نظام جمال عبد الناصر. وهذا ما أدّى إلى سيطرة الدولة على هذه الفروع بشكل كامل، قبل دمجها مع النظام المصرفي التقليدي الذي تديره وتملكه الدولة. وبذلك، انتهت أوّل تجربة حاولت المواءمة بين الشريعة والنشاط المصرفي، بعد ست سنوات من تأسيسها.

لاحقًا، عام 1971، تأسس بنك ناصر الاجتماعي في مصر، كهيئة عامّة مملوكة من الدولة. ونصّ قانون إنشاء المصرف في ذلك الوقت على عدم تعامل المصرف بالفائدة المصرفيّة أخذًا وعطاءً، فيما تركّزت معاملاته على النشاط التنموي والاجتماعي. ورغم انسجام نشاط المصرف مع مبادئ الشريعة الإسلاميّة، التي تحظر الفائدة، لم تمثّل هذه التجربة نشاطًا ربحيًا رأسماليًا إسلاميًا، كما هو حال المصارف الإسلاميّة اليوم، بل جاء ذلك المصرف كأحد تجارب الدعم الحكومي، التي عززتها سياسات الدولة الاشتراكيّة في تلك المرحلة.

عام 1972، تقدّمت فكرة المصارف الإسلاميّة خطوة إلى الأمام، حين أوصى مؤتمر وزراء خارجيّة الدول الإسلاميّة بضرورة إنشاء بنك إسلامي دولي للدول الإسلاميّة. وبالفعل، تم تأسيس “البنك الإسلامي للتنمية” عام 1974، ليكون مؤسسة تمويليّة تنمويّة دوليّة تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلاميّة. إلا أنّ خدمات هذه المؤسسة ظلّت محصورة بالحكومات أو المشاريع الاستراتيجيّة، ما منع توسّع خدمات الصيرفة الإسلاميّة لتشمل الشركات والأفراد في الدول المستفيدة من خدمات هذه المؤسسة.

لاحقًا، جاءت أوّل تجربة مستدامة ومربحة ومتكاملة للمصارف الإسلاميّة من دبي، حين تمّ تأسيس بنك دبي الإسلامي في البداية عام 1975. ثم توالى تأسيس المصارف الإسلاميّة في الإمارات العربيّة المتحدة وسائر دول الخليج، بالاستفادة من فوائض تصدير النفط، وما نتج عنها من تراكم في مدخرات المقيمين في دول الخليج. كما استفادت تجربة المصارف الإسلاميّة في دول الخليج من طبيعة مجتمعاتها المحافظة، التي حاولت المواءمة بين البحث عن الخدمات التمويليّة، والسعي للامتثال لمبادئ الشريعة الإسلاميّة.

وبالإضافة إلى دول الخليج، شهدت دول أخرى كالأردن ولبنان والجزائر وتركيا وماليزيا ومصر طفرات في نشاط الصيرفة الإسلاميّة، وفي فترات زمنيّة متباينة. أمّا أبرز ما ساهم بتوسّع خدمات التمويل الإسلامي، فكان لجوء المصارف التقليديّة إلى إنشاء مصارف إسلاميّة مملوكة منها، ما سمح باستفادة نشاط الصيرفة الإسلاميّة من رساميل وخبرة المصارف التقليديّة الكبيرة الموجودة أساسًا في السوق.

تطبيق نموذج المصارف الإسلاميّة

كما هو معلوم، تحرّم الشريعة الإسلاميّة دفع أو تلقّي الفائدة، على اعتبار أنّها تمثّل الربا المنصوص عنه في القرآن. ولهذا السبب، تقوم خدمات المصارف الإسلاميّة على مجموعة من الأدوات التي تسمح بتقديم أو تلقّي التمويل من العملاء، وبشكل مستدام ومربح للمصارف الإسلاميّة، دون تقديم الفائدة بشكل صريح ومباشر. ومن هذه الأدوات على سبيل المثال:

– عقد المرابحة:
يقوم صاحب المال، أي المصرف الإسلامي، بشراء سلعة معيّنة، كسيّارة أو منزل أو أدوات منزليّة، قبل بيعها لعميله بسعر أعلى بعد إضافة هامش ربح معيّن، وبتسهيلات معيّنة في الدفع تشمل السداد بأقساط شهريّة أو فصليّة أو سنويّة. بهذا الشكل، يتمكّن عميل المصرف الإسلامي من الحصول على تمويل من المصرف، لشراء سلع معيّنة، دون تسديد أي فائدة، بل يستفيد المصرف من “هامش الربح” الذي تحققه له العمليّة بعد شراء وبيع السلعة. تُستعمل هذه الصيغة كبديل عن قروض السيارات والإسكان والأدوات المنزليّة التي تمنحها في العادة المصارف التقليديّة.

تُعد المرابحة إحدى أشهر الأدوات التي تستخدمها المصارف الإسلاميّة، ويمكن للمصارف الإسلاميّة أن تقدّم هذه الخدمة التمويليّة للشركات التي ترغب بتوسيع أعمالها وشراء معدّات، بتسهيلات مصرفيّة. وفي هذه الحالة، يقوم المصرف الإسلامي بشراء هذه المعدات، قبل بيعها للعميل بثمن مؤجّل الدفع (يُسدد على دفعات لاحقًا)، وبعد إضافة هامش الربح لسعر السلعة.

– عقد المضاربة:
تستعمل المصارف الإٍسلاميّة هذه الأداة التمويليّة لتقديم التسهيلات لأصحاب المشاريع الإنتاجيّة أو التجاريّة. بموجب هذا العقد، يقدّم المصرف الإسلامي السيولة لتمويل مشروع معيّن يقوم به فرد أو مؤسسة، على أن يستعيد المصرف لاحقًا قيمة التمويل مع نسبة معيّنة من أرباح المشروع. بهذا المعنى، يدخل المصرف في المشروع كشريك في الربح، بدل أن يقدّم التمويل كقرض يترتّب عليه فوائد كما تفعل المصارف التقليديّة. يمكن لعقد المضاربة أن يكون مقيّدًا، أي أن يتضمّن شروط وضمانات تكفل للمصرف استعادة كامل قيمة التمويل الذي قدّمه.

– عقد المشاركة:
تمامًا كحال عقد المضاربة، يموّل المصرف المشروع ويدخل كشريك في الربح. لكن عقد المشاركة يعطي المصرف هامشًا أوسع من الصلاحيّات للتدخّل في القرارات وإدارة المشروع، كما يشترك المصرف في ملكيّة المؤسسة نفسها. في المقابل، يشترك المصرف في تحمّل أية خسائر يمكن أن تنتج عن هذه المشاركة، بدل أن يضمن استعادة قيمة مشاركته كاملة لاحقًا.

– عقد الإيجار المنتهي بالتمليك:
تستعمل المصارف الإسلاميّة هذه الأداة كبديل عن قروض الإسكان. وبموجب هذا العقد، يقوم المصرف الإسلامي بتملّك العقار السكني، قبل تأجيره للعميل لفترات طويلة يمكن أن تصل لعشرات السنين. وبعد أن يسدد العميل قيمة العقار مع هامش معيّن من الربح، بموجب دفعات الإيجار، ينهي المصرف الإسلامي العقد بتمليك العميل العقار. وبذلك، تحل دفعات الإيجار الطويل الأمد مكان أقساط القروض السكنيّة، التي تمنحها في العادة المصارف التقليديّة.

في المقابل، لا تملك المصارف الإسلاميّة أية خدمات بديلة تحل مكان بطاقات الدين الإئتمانيّة، إذ لا يسمح حظر الفوائد التام بفتح حسابات مدينة أو مكشوفة من هذا النوع. لكن يمكن للعميل طبعًا أن يستفيد من خدمات البطاقات الدائنة، أي البطاقات المسبقة الدفع، مقابل عمولات معيّنة.
أمّا بالنسبة للودائع، فالمصارف الإسلاميّة لا تملك القدرة على تسديد فوائد ثابتة للمودعين، كحال المصارف التقليديّة، لكنّها تسمح بمنح العميل نسبة شهريّة أو سنويّة من أرباح استثمار أموال المصرف في برامج التمويل المختلفة.

سجال حول المخاطر وإشكاليّات التطبيق

مازالت المصارف الإسلاميّة حتّى اللّحظة موضوع سجالات عديدة، بخصوص دورها ومخاطر عمليّاتها. فبعض الآراء المنتقدة تعتبر أن هوامش الربح الثابتة التي تُحققها المصارف الإسلاميّة، من عقودِ عمليّات المرابحة أو الإيجار المنتهي بتمليك، هي استنساخ لمبدأ الفوائد المعتمدة في المصارف التقليديّة.

وبرأي هؤلاء، هذا ما يجعل خدمات المصارف الإسلاميّة مجرّد تحايل للخروج من عنوان الفائدة شكلًا، دون التخلّي عنه كمفهوم في المضمون. كما تعتبر بعض وجهات النظر أنّ المصارف الإسلاميّة تحمّل نفسها بعض مخاطر الإئتمان المرتفعة، وخصوصًا عبر الدخول في عقود المشاركة، التي قد تحمّلها عبء مراقبة إدارة المشروع وضمان ربحيّته.

وعلى المقلب الآخر، ثمّة من يشير إلى بعض ميزات المصارف الإسلاميّة، التي تسمح بتفادي بعض المخاطر التي تتعرّض لها المصارف التقليديّة. فالمصارف الإسلاميّة لا تلتزم بنسب فوائد ثابتة وطويلة الأجل مع المودعين لديها، بل تلزم نفسها بتسديد نسبة من ربح توظيف الأموال. وهذا ما يسمح للمصارف الإسلاميّة بالتخلّص من مخاطر تقلّب أسعار الفوائد، التي ترتبط باحتمالات انخفاض فوائد استثمارات المصارف، إلى ما دون الفوائد التي يسددها للمودعين.

في خلاصة الأمر، من الواضح أنّ نموذج المصارف الإسلاميّة توسّع بسرعة فائقة في المنطقة العربيّة، ودول الخليج بشكل خاص. إلا أنّ تطوّر هذا النموذج من ناحية الخدمات والدور مازال في بدايته، مقارنة بالمصارف التقليديّة التي بدأت تطوّرها قبل وقت طويل.
ولهذا السبب، من المفترض أن تشهد السنوات المقبلة المزيد من التشريعات والتنظيمات المصرفيّة، الهادفة إلى تنويع أدوات عمل المصارف الإسلاميّة وزيادة الثقة فيها. كما من المفترض أن نشهد المزيد من التطوّر في طريقة إدارة المصارف الإسلاميّة مخاطر عمليّاتها، بالاستفادة من تجربة السنوات الماضية.