Chronicle of the Middle East and North Africa

طرابلس لبنان: الأثر الاقتصاديّ للحرب والسّلم

قد سلط النزوح الضوء على كرم أهل طرابلس وقدرتهم على الصمود، لكنه أبرز أيضاً هشاشة الاقتصاد اللبناني التي تفاقمت بسبب الحرب.

طرابلس لبنان
تستمتع العائلات والأطفال على طريق الميناء البحري، وهو مركز حيوي يعج بالنشاط طوال اليوم، وخاصة بعد غروب الشمس. 22 نوفمبر 2024. تصوير دانا حوراني.

دانا حوراني

نُفّذت اتّفاقيّة وقف إطلاق النّار، الّتي أنهت بشكل مؤقت الحرب المستمرّة بين حزب اللّه وإسرائيل منذ تشرين الأوّل 2023، السّاعة الرّابعة صباح الأربعاء الواقع فيه 27 تشرين الثّاني. فور تنفيذ هذا القرار، بدأ سكّان جنوب لبنان وضواحي بيروت الجنوبيّة وسهل البقاع بالعودة إلى ديارهم، بعد أشهر من النّزوح القسريّ. ونتيجة لذلك، شهدت مناطق كانت مكتظّة بالنّازحين، ومن بينها ثاني أكبر مدينة لبنانيّة، طرابلس، فراغًا ملحوظًا.

كورنيش شاطئ البحر، في الميناء طرابلس الّتي كانت ناشطة خلال الشّهرين الأخيرين من الحرب، كان يومًا مكان يلعب فيه الأطفال، ويجلس فيه النّاس في القهاوي قرب البحر، فيما يتنزّه البعض أو يركبون الدّرّاجات. لكن بحلول كانون الأوّل تغيّر هذا المشهد، فقد قلّت الحشود، وأصبح من الواضح أنّ السّكّان المؤقّتين الّذين لجأوا إلى المدينة عادوا إلى ديارهم.

قال بائع الكعكة (خبز شهيّ شائع في طرابلس)، أيمن، البالغ من العمر 25 سنة: “الحمد للّه، لقد ساعدنا تدفّق النّازحين اقتصاديًّا، وكنّا سعداء بتمكّننا من توفير الملجأ الآمن لهم، ومكان يقضون فيه الوقت مع عائلاتهم مستمتعين.”

ثمّ أضاف: “إلّا أنّ المنافع الاقتصاديّة كانت قصيرة الأمد، ولا بأس بذلك، فالمهمّ أنّه تسنّى للنّازحين العودة إلى ديارهم، وأنّ الحرب انتهت.”

في العديد من المناطق اللّبنانيّة، حيث لجأ النّازحون، انتعش الاقتصاد المحلّيّ مؤقّتًا، فالإيجارات قد ارتفعت كثيرًا، وازداد الطّلب على الحاجات الرئيسة مثل الطّعام والثّياب. لكن يحذّر الخبراء من أنّ هذه الأرباح سريعة الزّوال وغير كافية لتعويض الصّراعات الاقتصاديّة الأكبر في البلد. فلبنان متورّط بأزمة اقتصاديّة منذ خمس سنوات، وقد تفاقمت بفعل الحرب بخاصّة في مدينة طرابلس الّتي تعاني الفقر المدقع والإهمال.

طرابلس، الجوهرة المهملة

أصبحت طرابلس، الّتي تأسّست 700 عام قبل الميلاد، عاصمة اتّحاد دول المدن الفينيقيّة -صيدا، وصور، وأرواد- في خلال الحقبة الفارسيّة حوالى 300 عام قبل الميلاد. ومع مرور الزّمن، حكمها السّلّوقيّون، والرّومان، والمسلمون الّذين سيطروا عام 638 ميلادي. كما حاصرها ريمون دي سان جيل، كونت تولوز، خلال الحملة الصّليبيّة الأولى، ودمّرها جزئيًّا، لكنّ الصّليبيّين أعادوا بناءها لاحقًا لتصبح مركزًا تجاريًّا وتربويًّا مزدهرًا. أمّا عام 1289، فقد دمّر المماليك المدينة وحكموها حتّى عام 1516، حين وقعت تحت سيطرة العثمانيّين.

أصبحت طرابلس ثاني أكبر مدينة لبنانيّة، مشكّلة ميناء رئيسًا، ومركزًا صناعيًّا، ومنتجعًا بحريًّا. تضمّنت صناعاتها، إنتاج الصّابون والقطن، وصيد الإسفنج، ومعالجة التّبغ والفاكهة، كما أنّها عملت كمركز تخزين وتكرير للنّفط. وكان هناك سكّة حديديّة ساحليّة تصل يومًا بين طرابلس وبيروت لكنّها أغلقت في السّبعينيّات خلال الحرب الأهليّة.

تأثّرت طرابلس بشدّة بالانهيار الاقتصاديّ اللّبنانيّ منذ بدايته عام 2019، بوصول نسبة الفقر فيها إلى 60 في المئة قبل تفاقم الأزمة. وبحلول عام 2021، كانت قد تمتّعت بأعلى نسبة من الفقر في البلاد بحسب خالد تدمري، عضو المجلس البلديّ ورئيس لجنة الآثار والتّراث والسّياحة. على الرّغم من سكن العديد من السّياسيّين الأغنياء فيها، لم تشهد طرابلس إلّا تطوّرًا واستثمارات ضئيلة. وفيما كرّس العديد من زعماء الطّوائف تمويلات لمجتمعاتهم الخاصّة لاكتساب دعمهم السّياسيّ، حيث يزعم سكّان طرابلس أنّ مدينتهم لطالما عانت من الإهمال الشّديد، على الرّغم من نجاح سياسيّيها.

طرابلس إحدى أكثر المدن اللّبنانيّة تهميشًا، وهي تعاني من مشاكل في البنى التّحتيّة. تعتمد المنازل في طرابلس على الشّبكة العامّة لتوزيع المياه، لكن غالبًا ما يعرقل انقطاع الكهرباء عمليّة ضخّ المياه. وبالتّالي لجأ الجميع إلى استهلاك مياه الآبار على الرّغم من تأكيد تلوّثها. يسبّب نظام الصّرف الصّحّيّ القديم في المدينة تسرّبات وفيضانات متكرّرة، ما يؤدّي إلى روائح كريهة، وحشرات، وانتشار الأمراض. كما تتراكم النّفايات بانتظام في الشّوارع جرّاء سوء جمعها والتّخلّص العشوائيّ منها. تشكّل المنازل الّتي لا تستوفي الشّروط المطلوبة، في المناطق المهملة من قبل الدّولة، مخاطر صحّيّة وأمنيّة على السّكّان، ويزيد من ذلك، البنى التّحتّيّة السّيّئة للشّوارع، بما فيها الأرصفة المحطّمة والإضاءة غير المناسبة الّتي تحدّ أكثر فأكثر من تحرّكات السّكّان وسلامتهم.

وعلى الرّغم من التّحدّيات الّتي تواجهها، قدّمت طرابلس الملجأ للكثير من النّازحين، موفّرة لهم الأمان في البيوت المستأجرة، أو السّكن المجّاني من المبادرات الفرديّة، أو المأوى في المدارس.

المنافع قصيرة الأمد

بحسب ماري كبدي، مندوبة المبيعات في متجر كروشينا في طرابلس، أدّى النّزوح إلى تدفّق في النّشاط الاقتصاديّ، بخاصّة في المناطق المكتظّة سكّانيًّا مثل شارع تلّ، الّذي شهد حركة مرور أكثر من شارع عزمي الباذخ.

قالت كبدي لفنك: “كان الرّبح الماليّ ملموسًا في فرعنا الثّاني في تلّ أكثر بكثير من فرعنا في شارع عزمي.”

وأشارت إلى أنّ في تلّ واجهت المتاجر ضغطًا كبيرًا، فكانت تفتح باكرًا جدًّا وتغلق أبوابها في وقت متأخّر لتلبّي الطّلب على البضاعة، الّذي دفعته الحاجة إلى الأساسيّات كالمأكل والملبس، والانتقال الفصليّ من الصّيف إلى الشّتاء. استغلّ أصحاب المُلك أيضًا هذا الوضع فرفعوا أسعار الإيجارات بشكل ملحوظ.

أضافت: “كان من الواضح أنّ النّازحين أتوا من خلفيّات مختلفة، فحتّى متاجر الذّهب استفادت من تهافت الأغنياء إلى المتاجر الرّاقية.”

إلّا أنّ الطّفرة الاقتصاديّة لم تدم. شرحت كبدي: “ازدهرت طرابلس قليلًا خلال الحرب، لكنّ أثر ذلك لم تستمر. فحال عودة النّازحين إلى ديارهم عادت الأمور إلى حالها السّابقة.”

فبالنّسبة إلى كبدي تحدّيات المدينة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة متجذّرة في الإهمال المنهجيّ، وامتناع قادتها عن حلّ مشاكلها.

وقالت بحسرة: “هذه ثاني أكبر مدينة لبنانيّة، عاصمة الشّمال، ومع ذلك لا يُبذل أيّ مجهود جدّيّ لمعالجة مشاكلها الاقتصاديّة. يريدون من سكّانها أن يبقوا أمّيّين وفقراء فيكون من الأسهل استغلالهم.”

إذا نظرنا أبعد من الأرباح الاقتصاديّة المؤقّتة، نرى سلبيّات جسيمة للنّزوح. لفتت كبدي النّظر إلى أنّ المدارس كانت ستبقى مغلقة، وأسعار الإيجار كانت ستبقى مرتفعة، وحتّى السّكّان المحلّيّين كانوا سيتعذّبون لإيجاد منازل بأسعار معقولة، لو استمرّت الحرب، وذلك كان سيؤدّي إلى أضرار طويلة الأمد.

تغيير ضئيل أو معدوم

من ناحية أخرى، قال أنور محسن، صاحب متاجر محسن في طرابلس، لفنك إنّ شارع عزمي شهد تدفّقًا كبيرًا للزّوّار على الرّغم من ارتفاع أسعاره مقارنة بمناطق أخرى من المدينة.

وأوضح أنّه “في بداية النّزوح، تدفّق الكثير من النّاس إلى المتاجر لشراء الحاجات الرئيسة، إذ ربّما لم يكن لدى النّازحين الوقت الكافي لإحضار كلّ حاجيّاتهم معهم”.

لكن، أشار محسن أيضًا إلى أنّ المدينة فقدت العديد من الزّبائن الّذين عادة ما يزورونها خلال عطلة كانون الأوّل، إذ لم يحجز الكثيرون رحلات العودة إلى لبنان هذا العام.

وقال: “لقد اكتسبنا بعض الزّبائن، لكنّنا خسرنا الكثيرين منهم أيضًا”.

أفاد البنك الدّوليّ أنّ لبنان تكبّد أكثر من 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصاديّة بسبب الصّراع مع إسرائيل من 8 تشرين الأوّل 2023 إلى 27 تشرين الأوّل 2024. ويعزى ما لا يقلّ عن 3.4 مليار دولار من هذا المبلغ إلى الأضرار الّتي لحقت بالبنية التّحتيّة المادّيّة، مع تحمّل قطاعات التّجارة والسّياحة والضّيافة العبء الأكبر. ومن المتوقّع أن تتجاوز التّكلفة النّهائيّة للأضرار هذه التّقديرات.

صرّح وليد مرّوش، أستاذ الاقتصاد ومساعد عميد الدّراسات العليا والبحوث في الجامعة اللّبنانيّة الأميركيّة، بأنّ التّأثير على الطّلب الكلّيّ محايد، إذ انتقل الطّلب من منطقة إلى أخرى داخل لبنان ليس إلّا. إنّ قضيّة حدوث تأثير اقتصاديّ إيجابيّ من خلال هذا التّحوّل ضعيفة، لا سيّما وأنّ قطاع الخدمات، حيث يكمن طلب النّازحين -مثل قطاعات الأغذية والمطاعم والسّكن- لم تشهد نموًّا مستدامًا.

وفي ما يتعلّق بالتّفاوتات الاقتصاديّة، أشار مرّوش إلى أنّ المدن التي تعرّضت للقصف ستتأخّر في التّعافي لأشهر عدة أو حتّى لسنوات بسبب بطء وتيرة إعادة الإعمار.

وقال إنّ “الصّراع إذا طال أمده من شأنه أن يلحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد اللّبنانيّ ويشلّ القطاع السّياحيّ، ويعطّل قطاعات الخدمات الرّئيسة، مثل البيع بالتّجزئة والضّيافة والمواصلات، ويردع الاستثمار، ويؤدّي إلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعيّة وهجرة الأدمغة”. ومن شأن هذه العوامل أن تزيد من إعاقة الانتعاش الاقتصاديّ والنموّ الطويل الأمد في لبنان.

ونظرًا إلى استمرار الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، والجمود السّياسيّ، وتداعيات الحرب، من غير المرجّح أن يكون للنّزوح التأثير الإقتصاديّ الكبير والدائم. ومن المرجّح أن ينفق النّازحون معظم مواردهم الماليّة على إعادة بناء حياتهم. لقد بدأت للتّوّ مرحلة ما بعد الحرب، والمستقبل لا يزال مجهولا، إذ ما زال وقف إطلاق النّار هشًّا، تخرقه إسرائيل يوميًّا.

user placeholder
written by
Dima
All Dima articles