علي نور الدين
منذ بداية العام 2021، دخلت “رؤية عُمان 2040” حيّز التنفيذ، لتكون بذلك المرجع الوطني للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي لسلطنة عُمان على امتداد الفترة بين عامي 2021 و2040.
وعلى هذا الأساس، من المفترض أن تنطلق جميع الاستراتيجيّات القطاعيّة والسياسات العامّة من أهداف هذه الرؤية الشاملة، التي بدأت السلطنة بإعدادها بتأنٍّ شديد منذ العام 2013. مع الإشارة إلى أنّ سلطان عُمان الراحل قابوس بن سعيد كلّف في ذلك الوقت لجنة خاصّة لصياغة الرؤية، برئاسة ابن عمّه هيثم بن طارق، الذي تم تتوجيه كسلطان لعُمان لاحقًا سنة 2020 بعد وفاة السلطان قابوس.
بهذا المعنى، يمكن القول أنّ رؤية 2040 تمثّل مشروع حُكم سلطان عُمان الحالي هيثم بن طارق، على مستوى السياسات الاجتماعي الاقتصاديّة. إذ عمل هيثم بن طارق على الرؤية ممضيًا أكثر من سبع سنوات في تحضيرها، بين عامي 2013 و2020، خلال فترة حُكم السلطان قابوس، قبل أن يُصادق بن طارق بنفسه على آخر الصّيغ المقترحة للرؤية، بعد أشهر قليلة من تولّيه الحكم كسلطان لعُمان منذ سنتين. وهذا تحديدًا ما يشير إلى أهميّة هذه الرؤية بالنسبة للنظام الحاكم وسلطانه اليوم، ومكانتها كبرنامج عمل متكامل، لا مجرّد سلسلة من العناوين الفضفاضة.
وعلى هذا الأساس، يمكن فهم إصرار النظام الحاكم على المضي قدمًا، وبخطوات سريعة وصارمة، في تنفيذ مندرجات الخطّة على مستوى التخطيط الاقتصادي، ومنها تلك المرتبطة بخصخصة أصول الدولة ومؤسساتها.
موجة الخصخصة المقبلة
للشروع بتنفيذ مندرجات الرؤية أعلن جهاز الاستثمار العُماني، الذراع الاستثماري للحكومة، الشروع بتنفيذ خطّة كبيرة لخصخصة نحو 30 شركة مملوكة حاليًّا من قبل الجهاز. وبعد التدرّج في بيع أسهم هذه الشركات للقطاع الخاص على مدى السنوات الخمس المقبلة، من المتوقّع أن يتمكن الجهاز من تحصيل 6.4 مليار دولار من عمليّات البيع، ما سيسمح له بزيادة استثماراته في الخارج وتنويعها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الجهاز يملك في الوقت الراهن استثمارات في أكثر من 35 دولة حول العالم، بينما تحرص الحكومة العُمانيّة على الاحتفاظ بثلثي أصول الجهاز كحد أدنى على شكل موجودات متداولة، يمكن تسييلها عند الضرورة.
الهدف من موجة الخصخصة هذه، سيكون أوّلًا البدء بتحرير الاقتصاد العُماني بشكل متدرّج، والانتقال من اقتصاد موجّه تسيطر عليه الحكومة، إلى اقتصاد منفتح وحيوي. ولهذه الغاية، ستشمل موجة الخصخصة الراهنة بيع حصص الدولة في شركات عاملة في قطاعات الطاقة والصّناعة والسياحة، على أن تقوم الدولة في المستقبل بتقييم سائر استثماراتها وأصولها المحليّة، لتحديد الشركات الحكوميّة التي يمكن أن تتم خصخصتها في المستقبل. وفي المحصّلة، تراهن الحكومة من خلال برنامج الخصخصة الحالي على خلق قطاع خاص فاعل، قادر على الاندماج بشكل تنافسي مع الاقتصاد العالمي.
وفي الوقت نفسه، تستهدف الحكومة من خلال برنامج الخصخصة الراهن استقطاب الاستثمار الأجنبي إلى عُمان، والحصول على تدفّقات من رؤوس الأموال من الخارج. وهذا تحديدًا ما مهّدت له سلطنة عُمان في شهر نيسان الماضي، من خلال إصدار قرارات قضت بتمكين المساهمين الأجانب من تملّك كامل قيمة أسهم الشركات المحلّيّة. واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبيّة على هذا النحو، سيسمح في الوقت نفسه بتفعيل عمل البورصة العُمانيّة وتنشيط تداولاتها، في ظل أزمة السيولة التي تعاني منها في الوقت الراهن.
موجة الخصخصة الواسعة هذه، تأتي اليوم تنفيذًا لأولويّات “تنمية القطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي”، ضمن إطار رؤية 2040. فهذه الرؤية تنص على “تعزيز قيم التنافسيّة” عبر تطوير القطاع الخاص وإعطائه دور الريادة، والتأسيس من خلاله للتنمية الاقتصاديّة. وكل هذا يمكن أن يتم من خلال تعميق سوق رأس المال، وتوفير التمويل اللازم له، وتوسيع قدرته على تمويل النشاط الاقتصادي.
باختصار، ومنذ البداية، كان من الواضح أنّ رؤية 2040 تتجه نحو ترشيق حجم الدولة، وحصر أدوارها في التشريع والرقابة والقضاء والتنظيم، مقابل انسحابها من النشاط الاستثماري المباشر، وهذا ما يعكسه مسار الخصخصة الذي تتبعه عُمان الآن.
محاذير وهواجس وانتقادات
كل ما سبق ذكره من فرص واعدة تراهن عليها الحكومة بالنسبة إلى مسار الخصخصة الراهن، تترافق مع محاذير وهواجس عبّر عنها كثيرون داخل سلطنة عُمان. فهذا المسار تعرّض أوّلًا للعديد من الانتقادات التي أشارت إلى شكوك حول مدى شفافيّة هذه القرارات الحكوميّة، التي افتقدت لأي مشاركة أو رقابة أو شراكة مجتمعيّة، في حين أنّ سلطنة عُمان سوّقت للشراكة المجتمعيّة، بوصفها إحدى المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها رؤية 2040. مع الإشارة إلى أنّ فلسفة الشراكة المجتمعيّة تقوم على إشراك أصحاب المصلحة من الشرائح الاجتماعيّة المختلفة في هذا النوع من القرارات، والتعاون معهم لصياغة السياسات التي يمكن أن تحدّ من الآثار الجانبيّة لهذه القرارات.
أمّا قائمة أصحاب المصلحة المتأثّرين بموجة الخصخصة الراهنة، والذين لم يتم إشراكهم في عمليّة التخطيط لهذا المسار، فتتضمن عمّال وموظفي المؤسسات التي ستنتقل إلى ملكيّة القطاع الخاص، والذين قد يتأثّر أمنهم الوظيفي بنتيجة قرارات الخصخصة. إذ غالبًا ما تعمد الشركات إلى تقليص عدد موظفيها بمجرّد خصخصتها، في محاولة لزيادة ربحيّتها. كما تشمل قائمة أصحاب المصلحة المستهلكين المستفيدين من بعض الخدمات الأساسيّة الحسّاسة، والتي ستصبح خدمة يقدّمها القطاع الخاص، بدلًا من أن تكون خدمة تؤمّنها مؤسسات الدولة.
وهكذا، لم تبادر سلطنة عُمان إلى إشراك ممثّلين عن جميع هذه الشرائح عند التحضير لمسارات الخصخصة المرتقبة، على الرغم من أنّ هذه المسارات ستؤثّر على أسعار الخدمات التي سيدفعها المستهلكون، وعلى عدد الموظفين الذين ستحافظ عليهم الشركات لاحقًا.
في الوقت نفسه، تعرّض هذا المسار لانتقادات أخرى صُوِّبت نحو بعض القطاعات الحسّاسة المشمولة بهذه الموجة من الخصخصة، والتي شملت على سبيل المثال قطاعي التعليم والكهرباء. فمن الناحية العمليّة، ستعني خصخصة هذه القطاعات ربط خدمات أساسيّة وبديهيّة بشركات خاصّة، تقتصر أولويّاتها على حسابات الربح والخسارة، وتخضع تسعيرتها لموازين العرض والطلب، بدلًا من أن تحرص الدولة على السيطرة على هذه القطاعات قدر الإمكان حرصًا منها على الأمن الاجتماعي.
من ناحية أخرى، تعرّض مسار الخصخصة لانتقادات أخرى اعترضت على خصخصة أنشطة التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما. فبحسب هذه الآراء، من المفترض أن تبقى هذه الأنشطة تحت سيطرة الشركات البتروليّة العامّة، نظرًا لارتباطها بثروات سياديّة حسّاسة ومهمّة، مع إمكانيّة عقد شراكات مع الشركات الأجنبيّة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبيّة. فتخلّي الدولة عن حصّتها في هذه الأنشطة بشكل كلّي، سيعني عمليًّا تقليص سيطرتها على مواردها النفطيّة والغازيّة، لحساب الشركات الأجنبيّة التي قد تتمكّن من فرض شروطها في عمليّات الإنتاج في المستقبل.
أمّا أهمّ الانتقادات، فطالت توقيت عمليّات الخصخصة التي يتم التخطيط لها اليوم، والذي يترافق مع تأزم أسواق المال العالميّة، وشح السيولة فيها في ظل ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تداعيات الحرب الأوكرانيّة. فالخصخصة في ظل هذا النوع من الظروف الماليّة والاقتصاديّة المتأزّمة، ستعني التفريط بمؤسسات السلطنة العامّة بأبخس الأسعار، نظرًا لتراجع شهيّة المستثمرين في مثل هذه الظروف على الاكتتاب في الشركات التي ستتم خصخصتها.
باختصارٍ، وكما كان متوقّعًا، طرحت موجة الخصخصة الكبيرة المقبلة عددًا لا يُستهان به من علامات الاستفهام، سواء حول مردود هذه العمليّات في هذه الظروف مقارنة بقيمة المؤسسات العامة التي سيتم بيعها، أو لجهة أثرها على مستوى الأمن الاجتماعي والمعيشي.
ولهذا السبب بالتحديد، بات من الضروري أن تشرع الحكومة العُمانيّة بدراسة معمّقة لمسار الخصخصة، وخطط بيع أصول السلطنة، في ضوء أولويّات الأمن الاجتماعي، ومصالح المجتمع العُماني. فعلى الرغم من أهميّة الالتزام بالخطوط العريضة لرؤية 2040، من المهم أن تمتلك السلطنة أيضًا بعض المرونة التي تسمح بمواءمة أولويّات الرؤية الطويلة الأمد، مع الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الراهنة.