وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إيرادات قناة السويس وأهميّتها تتعزّز نتيجة التطوّرات العالميّة

جاء تزايد إيرادات قناة السويس نتيجة عوامل اقتصادية عالمية مثل تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتحولات سلاسل توريد مصادر الطاقة، وأزمة الجفاف في قناة بنما.

إيرادات قناة السويس
صورة لممر مائي جديد في قناة السويس. محمد الشاهد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

في شهر يناير/كانون الأوّل 2023، أعلنت هيئة قناة السويس أنّ إيرادات الممر الملاحي البحري ارتفعت خلال العام 2022 لتبلغ نحو ثمانية مليارات دولار أميركي، بزيادة نسبتها 25% مقارنة بالعام 2021. مع الإشارة إلى أنّ حجم هذه الإيرادات لم يتخطَّ الستّة مليارات دولار أميركي خلال العام 2021، فيما بلغت نحو 5.61 مليار دولار عام 2020، وحوالي ال5.8 مليار دولار عام 2019 قبل تفشّي وباء كورونا.

بالنسبة إلى قناة السويس، شكّلت إيرادات العام 2022 رقمًا قياسيًا لم يَسبق أن تَمّ تسجيله من قبل، بحسب هيئة القناة. وهذه الإيرادات الضخمة، لم تنتج فقط عن زيادة رسوم عبور السفن خلال تلك السنة، بل نتجت كذلك عن تسجيل القناة أقوى حركة عبور للسفن في تاريخها. فخلال العام 2022، عبرت القناة أكثر من 23851 سفينة، بحمولات صافية يتجاوز حجمها الإجمالي حدود ال1.4 مليار طن.

على مستوى الاقتصاد المصري، تتسم هذه التطوّرات الإيجابيّة بأهميّة شديدة، بالنظر إلى دور قناة السويس كأحد مصادر السيولة الأساسيّة بالعملة الصعبة، إلى جانب تحويلات المغتربين وعائدات تصدير الغاز. ومن المعلوم أنّ مصر تواجه اليوم صعوبات متزايدة في تسديد ديونها الخارجيّة المتراكمة بالعملة الأجنبيّة، التي ارتفع حجمها ليوازي حدود ال162.9 مليار دولار بحلول نهاية العام 2022، ما يزيد من حاجة الحكومة المصريّة إلى عائدات القناة في هذه المرحلة بالتحديد.

وجاء تزايد عائدات قناة السويس نتيجة لمجموعة من التطوّرات التي طرأت على الاقتصاد العالمي، ومنها تداعيات الحرب في أوكرانيا، وما تبعها من تحولات مفاجئة في سلاسل توريد مصادر الطاقة، بالإضافة إلى أزمة الجفاف التي أصابت قناة بنما.

وخلال العام 2023، من المرتقب أن تستفيد قناة السويس أيضًا من الزيادات الجديدة على رسوم عبور السفن، والتي أضيفت إلى الزيادات السابقة التي تم فرضها عام 2022، ما سيرفع إيرادات القناة إلى 8.7 مليار دولار خلال سنة 2023 بحسب تقديرات هيئة القناة.

تداعيات حرب أوكرانيا وإعادة تشكيل أسواق الغاز

نتيجة الحرب الأوكرانية، وبين شهري مارس/آذار وأكتوبر/تشرين الأوّل 2022، انخفضت تدفّقات الغاز الروسي إلى أوروبا بأكثر من 80% من معدلاتها السنويّة المعتادة. وبحلول نهاية العام 2022، كانت تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا قد تراجعت إلى أقل من 7.5% من معدّلها السنوي. وبهذا الشكل، كانت أوروبا تتخلّص بشكل سريع وحاسم، وخلال فترة أشهر معدودة، من اعتمادها على الغاز الروسي، الذي كان يؤمّن في السنوات السابقة أكثر من 40% من الطلب الأوروبي على الغاز.

وهكذا، خسرت أسواق الغاز قسمًا من سلاسل التوريد التي تمّ تطويرها على مرّ العقود السابقة، التي شكّلت نظام تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، عبر الأنابيب العابرة الدول ومراكز التخزين وإعادة التوزيع. وفي شهر أيلول/سبتمبر 2022، جاء تفجير أنابيب الغاز “نورد ستريم” ، التي تربط ألمانيا وروسيا، ما أجهز على إمكانيّة زيادة صادرات الغاز الروسيّة باتجاه أوروبا إلى مستوياتها السابقة.

بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، مثّلت شحنات الغاز المُسال، التي يتم نقلها عبر البواخر، البديل الأساسي الذي سمح بالاستغناء عن الغاز الروسي. ولهذا السبب، ارتفعت واردات الغاز المسال إلى أوروبا خلال العام 2022 بنسبة 63%، مقارنة بالعام السابق، في دلالة واضحة على التحوّلات الكبيرة والحاسمة التي طرأت على أسواق الطاقة الأوروبيّة. ولاستيعاب هذا التحوّل، اضطرّت كل من ألمانيا وفرنسا وبولندا وفنلندا وإستونيا وإيطاليا واليونان إلى إنشاء محطّات إعادة تغويز جديدة، لزيادة قدرتها على تحويل الغاز المُسال المستورد عبر البواخر إلى غاز قابل للاستخدام محليًا.

أمّا أبرز الدول التي اعتمدت عليها الدول الأوروبية لتأمين شحنات الغاز المُسال، فكانت قطر، التي احتلّت خلال العام 2022 المرتبة الثانية في قائمة أكبر مورّدي الغاز باتجاه السوق الأوروبي. مع الإشارة إلى أنّ قطر سلّمت الاتحاد الأوروبي 16% من إمدادات الغاز الطبيعي المُسال الذي صدّرته عام 2022، بعدما تحوّلت إلى أكبر مصدّر للغاز المُسال على مستوى العالم خلال ذلك العام.

وهكذا، كانت قناة السويس أحد أبرز المستفيدين من كل هذه التطوّرات، بفضل زيادة شحنات الغاز المُسال المتجهة بالبواخر من قطر إلى أسواق أوروبا، عبر القناة عينها. بالنتيجة، باتت شحنات الغاز المُسال تحل في المرتبة الرابعة، على قائمة أكثر فئات السفن العابرة القناة بحلول يونيو/حزيران 2022. وهذا ما زاد من أهميّة قناة السويس كنقطة عبور أساسيّة في أسواق الطاقة الدوليّة، كما زاد من دورها على مستوى ضمان أمن الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي.

أثر العقوبات على النفط الروسي

في الوقت عينه، فرضت الدول الأوروبيّة –على مراحل- عدّة رزم من العقوبات التي استهدفت القطاع النفطي الروسي، ومنها تلك التي حظرت استقبال شحنات النفط الخام الروسيّة في دول الاتحاد، ثم تلك التي منعت استيراد شحنات البنزين والديزل المُنتجة في روسيا. مع العلم أن صادرات النفط الخام الروسي كانت تؤمّن –قبل فرض هذه العقوبات- نحو خمس حاجة الدول الأوروبيّة من النفط، ما فرض على المستوردين الأوروبيين إعادة هيكلة سلاسل إمداد النفط بشكل جذري بعد فرض العقوبات.

ومرّة جديدة كانت قناة السويس أبرز المستفيدين من هذه الأحداث. فمنذ العام 2022، وبسبب العقوبات المفروضة على روسيا، تزايد اعتماد أوروبا على شحنات النفط الآتية من المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة، عبر قناة السويس.

وعلى سبيل المثال، وخلال شهر أغسطس/آب 2022، ارتفع المتوسّط اليومي لشحنات النفط السعوديّة المتجهة إلى أوروبا إلى حدود ال777 ألف برميل، ما شكّل أعلى مستوى لهذه الصادرات منذ أكثر من أربع سنوات. وترجّح وكالة “ستاندرد آند بورز” أن تصبح أوروبا الجهة الأكثر استيرادًا للنفط السعودي، بحلول العام 2023، بالنظر إلى الدور الذي باتت تلعبه السعوديّة في تأمين النفط للسوق الأوروبيّة.

أرقام هيئة قناة السويس، تدل بوضوح على استفادة القناة من تحوّلات سوق النفط العالميّة. فخلال فبراير/شباط 2023، ارتفع عدد ناقلات النفط التي عبرت القناة إلى 660 ناقلة، مقارنة بنحو 365 ناقلة فقط خلال الفترة المماثلة من العام 2022، ما شكّل ارتفاعًا كبيرًا بنسبة 80.8%. وهذا التزايد السريع في حركة ناقلات النفط عبر القناة، هو ما سمح لهيئة القناة بزيادة رسوم عبور ناقلات النفط في فبراير/شباط 2023، “تماشيًا مع النمو الملحوظ في التجارة العالميّة وتحسّن اقتصاديّات السفن”، بحسب بيان الهيئة في ذلك الوقت.

صادرات النفط الروسي إلى الهند

بفعل العقوبات الغربيّة المفروضة على النفط الروسي، اضطرّت روسيا إلى البحث عن أسواق بديلة لتصدير نفطها، ولو عبر عرض حسومات على سعر برميل النفط الخام الذي تبيعه. وسرعان ما استفادت الهند من هذا الواقع، لشراء النفط الروسي الرخيص وتكريره محليًا، ومن ثم بيعه في الأسواق العالميّة أو استخدامه محليًا. ولهذا السبب، ارتفعت صادرات النفط الروسي باتجاه الهند نحو 22 مرّة خلال العام 2022، ما رفع حصّة روسيا من النفط الذي تستورده الهند إلى 25% خلال العام 2022، وإلى 51% خلال الربع الأوّل من العام 2023.

تجدر الإشارة إلى أنّ الهند لم تكن تاريخيًا من الدول التي تعتمد على روسيا لتأمين مشترياتها النفطيّة، إذ كانت تستفيد من قربها من أسواق الخليج العربي لتأمين حاجاتها من مصادر الطاقة. إلا أنّ العقوبات المفروضة على روسيا سمحت للهند بعقد صفقات مغرية جدًا لشراء النفط الروسي، ومن موقع تفاوضي قوي، في الوقت الذي احتاجت فيه روسيا إلى السيولة لتمويل حربها في أوكرانيا. كما استفادت شركات تكرير النفط الهنديّة من عملها في أسواق الإمارات العربيّة المتحدة، لتسديد ثمن النفط الروسي بالدرهم الإماراتي، من دون الاعتماد على التحويلات بالدولار الأميركي التي تمر بالمصارف الأميركيّة المراسلة.

مجددًا، استفادت قناة السويس من هذه الصفقات، التي زادت من معدلات عبور ناقلات النفط عبر القناة. فنقل النفط الروسي باتجاه الهند يتم عبر خط بحري ينطلق من البحر الأسود أو بحر البلطيق، ويمر عبر قناة السويس، ليصل بعدها إلى مصافي التكرير الهنديّة. كما استفادت القناة من إعادة تصدير هذا النفط باتجاه الغرب، بعد تكريره وتحويله إلى مشتقات نفطيّة متنوّعة في المصافي الهنديّة.

الجفاف في قناة بنما

تستفيد قناة بنما من بحيرتين داخليّتين من المياه العذبة، للربط ما بين طرفي القناة عبر المحيطين الأطلسي والهادئ. لكن منذ ما قبل توسعة القناة عام 2016، تعاني إدارة القناة من انخفاض منسوب مياه البحيرتين، بسبب انخفاض معدلات هبوط الأمطار والجفاف، نتيجة ظاهرة تغيّر المناخ.

وبين شهري فبراير/شباط وابريل/نيسان 2023، انخفضت معدلات هطول الأمطار إلى ما دون نصف معدلاتها الطبيعيّة، وهذا ما خفّض منسوب مياه القناة إلى مستويات قياسيّة. ولذلك، اضطرّت إدارة القناة إلى اتخاذ قرارات طارئة، تقضي بتخفيف حمولة السفن العابرة القناة، لتقليص الجزء الغاطس من بدن السفن العابرة.

أدّت هذه الأزمة إلى ارتفاع كلفة شحن السلع عبر قناة بنما، كما أدّت إلى تأخير تواريخ تسليم هذه السلع، وتقليص قدرة القناة الاستيعابيّة الإجماليّة. وفي العادة، تمر بقناة بنما وحدها نحو 5% من حجم التجارة البحريّة العالميّة، ما يؤشّر إلى تداعيات هذه الأحداث الكبيرة.

تشير التحليلات اليوم إلى أنّ أزمة قناة بنما فرضت على شركات الشحن البحث عن خطوط نقل بحريّة بديلة، لتخفيض كلفة الشحن والحد من التأخير في تسليم البضائع. وجزء من خطوط النقل البديلة هذه، يمر بقناة السويس، وخصوصًا تلك التي تربط مناطق جنوب وشرق آسيا بمناطق شمال أوروبا والشواطئ الشرقيّة في شمال أميركا. وهذا ما جعل قناة السويس أبرز المستفيدين من أزمة جفاف قناة بنما وما نتج عنها من تداعيات على حركة الشحن البحريّة الدوليّة.

كل هذه التطوّرات والتحوّلات على المستوى العالميّ، عززت من أهميّة قناة السويس الإستراتيجيّة كمعبر ملاحي حيوي، ما يفسّر اهتمام كبرى الشركات الأجنبيّة بالاستثمار في الأنشطة الاقتصاديّة المكمّلة لعمل القناة في مصر.

ومن بين هذه الأنشطة مثلًا، إنشاء المنطقة الاقتصاديّة التي ستغطّي مساحة 461 كم2، بمحاذاة القناة، والتي من المفترض أن تربط ما بين البحر الأبيض المتوسّط والبحر الأحمر، بالإضافة إلى المشاريع المتصلة بأسواق مصادر الطاقة والتكنولوجيا والشحن والبنية التحتيّة. وجميع هذه الاستثمارات، ستسهم في تقليص تداعيات الأزمة الماليّة التي تمر بها مصر إلى حدٍ ما، وإن لم تكن كافية لمعالجتها بشكل كامل.