يقدّر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين الواردة إلى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2022 بنحو 63 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 2.5% مقارنة بالعام السابق.
علي نور الدين
تمثّل تحويلات المغتربين الواردة عنصرًا أساسيًا في التوازنات الماليّة والنقديّة لدى العديد من الدول العربيّة، كمصر والمغرب ولبنان والأردن وسوريا، بالإضافة إلى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وبينما يتفاوت حجم التحويلات الواردة ونسبتها من الناتج المحلّي الإجمالي في كل دولة، تتزايد أهميّتها اليوم مع تعرّض غالبيّة هذه الدول إلى ضغوط نقديّة وماليّة قاسية، ومع اشتداد حاجة هذه الاقتصادات إلى تدفقات السيولة بالعملات الأجنبيّة من الخارج.
الدول الأكثر اعتمادًا على تحويلات المغتربين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط
يقدّر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين الواردة إلى دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2022 بنحو 63 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 2.5% مقارنة بالعام السابق.
ومن بين دول المنطقة، حلّ لبنان في المرتبة الأولى من حيث نسبة هذه التحويلات من الناتج المحلّي الإجمالي، التي بلغت حدود ال37.8% سنة 2022، ما يشير إلى حجم اعتماد هذه الدولة الكبير على تحويلات المغتربين للصمود، في ظل الأزمة الماليّة التي تمرّ بها.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ نسبة تحويلات المغتربين من الناتج المحلّي في لبنان لم تكن تتجاوز حدود ال14.5% عام 2018، أي قبيل حصول الانهيار المالي في العام اللاحق. ورغم انخفاض حجم هذه التحويلات من 7.8 مليار دولار أميركي عام 2018 إلى 6.8 مليار دولار عام 2022، ارتفعت نسبة هذه التحويلات من الناتج المحلّي الإجمالي بين الفترتين بنحو 2.6 أضعاف (من 14.5% إلى 37.8%).
ويعود الارتفاع الكبير في هذه النسبة، رغم الانخفاض في حجم التحويلات، إلى التقلًص الكبير جدًا في حجم الاقتصاد اللبناني بعد حصول الانهيار، حيث خسر لبنان ما يقارب ال37.3% من حجم ناتجه المحلّي منذ حصول الأزمة عام 2019. وهذا تحديدًا ما زاد من ثقل تحويلات المغتربين مقارنة بحجم الاقتصاد المحلّي المتهالك والآخذ بالانحسار بقوّة، بمعزل عن التراجع –الأقل أثرًا- في قيمة التحويلات. مع الإشارة إلى أنّ تحويلات المغتربين باتت اليوم المصدر الأهم الذي يعتمد عليه لبنان للحصول على العملة الصعبة، بعد انهيار النظام المالي وتوقّف تدفّق الودائع والاستثمارات إليه منذ حصول الانهيار.
في المقابل، حلّت الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة في المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث بلغت نسبة تحويلات المغتربين الواردة إليها من الناتج المحلّي الإجمالي حدود ال18.6% عام 2022. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه النسبة لم تكن تتخطى حدود ال10.4% عام 2019، ما يدل على تزايد اعتماد اقتصاد الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة على تحويلات المغتربين خلال السنوات الممتدة بين 2019 و2022. ويرتبط هذا التحوّل بتنامي العزلة الاقتصاديّة التي تعاني منها هذه المنطقة، بفعل الإجراءات الإسرائيليّة، ما وسّع نطاق ظاهرة تصدير اليد العاملة إلى الخارج.
وفي المرتبة الثالثة، تحل الأردن، التي تبلغ فيها نسبة تحويلات المغتربين إلى الناتج المحلّي الإجمالي حدود ال9.7%. وكان الأردنيّون قد تفاءلوا في نهاية العام 2022، مع ارتفاع قيمة هذه التحويلات بنسبة بلغت 1.5%، ليبلغ حجمها الإجمالي 3.4 مليار دولار أميركي. فالأردن كانت قد عانت قبل العام 2022 من تباطؤ تدفّق هذه التحويلات، بعد انخفاض سعر برميل النفط خلال فترة تفشّي وباء كورونا، ما تسبب بتداعيات سلبيّة على اقتصادات دول الخليج التي يقيم فيها المغتربون الأردنيون.
وتُعد تحويلات المغتربين مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة بالنسبة للمصرف المركزي الأردني، الذي واجه مؤخّرًا انخفاض إجمالي أصوله الاحتياطيّة (عملات أجنبيّة وذهب وأوراق ماليّة) من 20.59 مليار دولار في بداية العام 2022، إلى 19.85 مليار دولار في نهاية العام نفسه. وفي الوقت الراهن، يعتمد المصرف المركزي الأردني على تحويلات المغتربين لتعزيز هذه الاحتياطات والحد من تناقصها، عبر تقاضي هذه التحويلات بالعملات الأجنبيّة، وتسديد قيمتها بالدينار الأردني لمستحقيها محليًا.
الدول الأكثر تلقيًا لتحويلات المغتربين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط
في نظرة على دول منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ودراسة حجم تحويلات المغتربين الواردة إليها بالدولار الأميركي، بعيدًا من ناتجها المحلّي الإجمالي، تحل مصر في المرتبة الأولى. فخلال العام 2022، تلقّت مصر ما يقارب ال32.3 مليار دولار أميركي من تحويلات المغتربين، التي جاء معظمها من المصريين العاملين في منطقة الخليج العربي. مع الإشارة إلى أنّ هذه التحويلات شهدت انخفاضًا بنسبة 20.9% في الربع الأوّل من العام 2023، نتيجة الاضطرابات الماليّة التي مرّت بها مصر، دون أن يؤثّر ذلك على ترتيبها بين دول المنطقة من ناحية حجم هذه التحويلات.
في المقابل، حاولت الحكومة المصريّة تقديم مجموعة من المبادرات لتشجيع المغتربين على ضخ المزيد من الدولارات في بلدهم الأم، من قبيل طرح شهادات إيداع بالعملة الأجنبيّة بفوائد مرتفعة، والسماح باستيراد سيّارات معفاة من الجمارك، وطرح عقارات للبيع بأسعار تشجيعيّة مقابل الدفع بالعملة الصعبة. ومع ذلك، واجهت الحكومة صعوبات في زيادة حجم هذه التحويلات في بدايات هذه السنة، ما يؤشّر إلى فقدان المصريين في الخارج الثقة بسياسات الحكومة النقديّة والاقتصاديّة .
أمّا المشكلة الأهم بالنسبة للحكومة والمصارف المصريّة اليوم، فهي عدم مرور الجزء الأكبر من هذه التحويلات بالنظام المصرفي الشرعي، وعدم استفادة النظام المالي منها على شكل ودائع. فبسبب الفارق بين سعر الصرف الرسمي المعتمد لتسديد قيمة التحويلات الواردة إلى النظام المالي المصري، وسعر صرف السوق الموازية الأعلى، يفضّل المصريون الاعتماد على قنوات التحويل غير الرسميّة التي لا تمر بالمصارف. وهذا ما يحرم النظام المالي المحلّي من تدفّق هذه الدولارات من الخارج، ويزيد من وطأة الضغوط النقديّة عليه.
تحل في المرتبة الثانية من حيث حجم تحويلات المغتربين الواردة، في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، المغرب، حيث بلغ حجم هذه التحويلات عام 2022 حدود ال11.4 مليار دولار. ومثّل حجم التحويلات هذا رقمًا قياسيًا لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب، ما سمح بتعويم احتياطات العملة الصعبة المتوفّرة لدى المصرف المركزي، وبتغطية حاجات المصرف لتمويل استيراد السلع من الخارج.
وكانت تحويلات المغتربين الواردة إلى المغرب قد سجّلت ارتفاعات متتالية بنسبة 14.6% عام 2022، و37.5% عام 2021، ما سمح بتحقيق هذا المستوى القياسي من التحويلات سنة 2022. ومن الواضح أنّ ارتفاع حجم التحويلات باتجاه المغرب خلال العامين 2021 و2022 جاء نتيجة التعافي التدريجي من تبعات تفشّي وباء كورونا خلال العام 2020، وخصوصًا في الاقتصادات الأوروبيّة، حيث تقيم أكبر الجاليات المغربيّة في الخارج.
الملفت في حالة المغرب، هو أنّ جزءًا أساسيًّا من تحويلات المغتربين يصل على شكل استثمارات مباشرة في بلدهم الأم، بدل أن تتركّز هذه التحويلات على المساعدات أو الادخارات أو الإنفاق الاستهلاكي فقط، كحال لبنان وغزّة والضفّة الغربيّة. وكانت الحكومة المغربيّة قد سعت لتوسيع نطاق الاستثمارات المحليّة التي تنخرط فيها الجاليات المغربيّة في الخارج، عبر مشاريع خاصّة في قطاعات التطوير العقاري والخدمات والزراعة والتكنولوجيا والسياحة وغيرها.
محاذير الاعتماد المفرط على تحويلات المغتربين
كما هو واضح، مثّلت تحويلات المغتربين المتنفّس الأخير بالنسبة إلى اقتصادات لبنان والضفة الغربيّة وقطاع غزّة، فيما مثّلت دعامة ماليّة مهمّة لمصر والأردن في ظل حاجتهما الماسّة إلى العملات الأجنبيّة. وفي الوقت عينه، أمّنت هذه التحويلات مصدر رزق مهمًا لبعض الفئات الأكثر هشاشة، التي تعتمد على المساعدات المنتظمة من أقاربها في الخارج، وخصوصًا في ظل تراجع نطاق شبكات الحماية في بعض هذه الدول.
لكن في الوقت نفسه، ثمّة العديد من المحاذير التي تنطوي على الاعتماد المفرط على تحويلات المغتربين. فإدمان الاقتصادات المحليّة على هذه التحويلات، سيفرض عليها الإبقاء على نمط تصدير الأدمغة والكفاءات، من أجل تأمين هذه التحويلات بانتظام وزيادتها، بدل السعي لتطوير الاقتصاد المحلّي القادر على استيعاب هذه القوّة العاملة. وهذا النمط يؤدّي تلقائيًا إلى الإضرار بإنتاجيّة القطاعات الاقتصاديّة المحليّة وتنافسيّتها، كما يزيد من معاناة الأسر المهاجرة، ويفاقم الاختلالات الاجتماعيّة الناتجة عن هذه الظاهرة.
ومن المفترض أن تحرص دول المنطقة على الحذر من تكرار السيناريو اللبناني، حيث تم استعمال تحويلات المغتربين الواردة لتضخيم ودائع القطاع المصرفي بشكل كبير، فيما تم استعمال موجودات القطاع لتمويل عجوزات الدولة والدين العام وتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة. وفي النتيجة، أدّى كل ذلك إلى انهيار القطاع المصرفي بعدما فقدت الدولة ملاءتها الائتمانيّة، وتنامت كتلة الخسائر الناتجة عن استثمارات القطاع المصرفي غير الآمنة. باختصار، على دول المنطقة أن تتقن إدارة هذه التحويلات الواردة، من دون توريطها بهذا النوع من المغامرات غير المحسوبة، كما حدث في لبنان.
أخيرًا، من المهم أن تضع دول المنطقة السياسات الكفيلة بتوجيه هذه التحويلات نحو الاستثمارات المنتجة، بدل الاكتفاء بتلقي ما يرد منها كمساعدات اجتماعيّة للأسر المقيمة، أو كودائع في القطاع المصرفي المحلّي. فهذا النوع من الاستثمارات، هو وحده ما يسمح بالاستفادة منها على المدى الطويل، لبناء القطاعات المنتجة وخلق الوظائف، والحؤول دون الاضطرار لتهجير المزيد من القوّة العاملة المحليّة.