يستفيد فائقي الثراء في الشرق الأوسط من نموذج اقتصادي يسمح بتركيز الثروة والدخل بيد فئة محدودة من المجتمع، بالتوازي مع تحقيق نمو اقتصادي وازن.
علي نور الدين
وفقًا لأرقام شركة الاستشارات “نايت فرانك”، وعلى مستوى العالم كلّه، خسر فائقو الثراء خلال العام 2022 نحو 10 تريليون دولار أميركي من ثرواتهم، أي ما يقارب ال10% من إجمالي قيمة أصولهم الصافية، جرّاء الصدمات التي ضربت اقتصادات العالم في تلك السنة. وبشكل أدق، عانت هذه الشريحة من انعدام الاستقرار على المستوى الاقتصادي، وأزمات الطاقة، بالإضافة إلى تداعيات الحرب الأوكرانيّة.
الشرق الأوسط يعاكس التوجّه العالمي
وتصنّف الشركة في العادة فائقي الثراء على أساس كونهم الأفراد الذين يملكون أصولًا ثابتة تتخطّى قيمتها ال30 مليون دولار أميركي، بما فيها الأصول العقاريّة التي تشمل المسكن الرئيس والمساكن الثانويّة. وفي العادة، تقدّم التقديرات المرتبطة بأعداد هؤلاء وحجم ثرواتهم مؤشّرًا حول نتائج أعمالهم واستثماراتهم، بالإضافة إلى حجم التفاوت في قيمة الثروة والدخل في المجتمع.
وفي أوروبا، عانت هذه الفئة من خسارة قاربت نسبتها ال17% من مجموع ثرواتها، بالنظر إلى تأثّر القارّة بشكل مضاعف بتداعيات حروب الطاقة والتضخّم والركود الاقتصادي. كما خسر فائقو الثراء 10% من إجمالي ثرواتهم في الأميريكيّتين، و11% من ثرواتهم في أوستراليا، و7% في آسيا قاطبة.
بالنتيجة، قلّت أعداد فائقي الثراء على مستوى العالم من نحو 602 ألف شخص عام 2021، إلى 579 ألف شخص فقط عام 2022، أي بانخفاض بلغت نسبته 4% خلال سنة واحدة. وفي قارّة آسيا، أنخفضت أعداد الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الفئة بنسبة 6.5%، أي بنسبة تفوق نسبة الانخفاض العالميّة.
لكنّ الأمور بدت مختلفة تمامًا في منطقة الشرق الأوسط. فخلال العام 2022، ارتفعت أعداد فائقي الثراء على مستوى هذه المنطقة بشكل عام بحدود ال16.9%، ما عاكس الاتجاه العالمي بشكل واضح جدًا. ولهذا السبب، مثّلت منطقة الشرق الأوسط المنطقة الأسرع نموًا في العالم، من حيث عدد فائقي الثراء.
أمّا الإمارات العربيّة المتحدة، فحلّت في المرتبة الأولى عالميًّا، من جهة معدّل نمو أعداد فائقي الثراء، حيث بلغت نسبة الزيادة في عدد أفراد هذه الفئة نحو 18.1%. مع الإشارة إلى أنّ عدد فائقي الثراء الذين يقيمون في الإمارات بلغ حدود ال1116 فردًا، بعد هذه الزيادة الكبيرة خلال عام 2022.
على نحوٍ شبيه، ارتفع عدد فائقي الثراء في المملكة العربيّة السعوديّة بنسبة كبيرة بلغت 10.4%، لتحل في المرتبة الرابعة عالميًا من جهة نسبة نمو أفراد هذه الفئة. وبحسب الاتجاه الحالي، من المتوقّع أن ترتفع أعداد فائقي الثراء في السعوديّة بنسبة 79%، بحلول العام 2027.
تجدر الإشارة إلى أنّ دبي ظهرت في مؤشّر “هينلي آند بارتنرز” كأكثر المدن العربيّة من حيث عدد الأثرياء الذين يقيمون فيها، والذين بلغ عددهم 68.4 ألف شخص، مقارنة ب 24.2 ألف شخصٍ بالنسبة لإمارة “أبو ظبي” التي حلّت في المرتبة الثانية، و21.5 ألف شخص بالنسبة للدوحة التي حلّت في المرتبة الثالثة. في المقابل، يقيم في الرياض نحو 18.1 ألف مليونير، مقارنة ب7.4 ألف مليونير في مدينة القاهرة.
أسباب ارتفاع أعداد الأثرياء في منطقة الشرق الأوسط
ترتبط كل التطوّرات، التي تعاكس النمط العالمي السائد، بمجموعة من المستجدات التي شهدتها دول الخليج بالتحديد. فمن المعروف أنّ الإمارات العربيّة المتحدة تمثّل أحد أكبر الملاذات الضريبيّة الآمنة في العالم، بفضل سهولة تأسيس الشركات فيها، ومرونة إجراءاتها البيروقراطيّة، وانخفاض تكاليف المعاملات والعمليّات الماليّة، ناهيك عن اقتصادها الليبرالي والمفتوح إلى حد كبير. ويسهل في العادة استخدام رجال الأعمال الساعين إلى إخفاء ثرواتهم أو الالتفاف على العقوبات المفروضة على بلدانهم، هذا النموذج الإداري.
لكل هذه الأسباب، مثّلت الإمارات العربيّة المتحدة، وعلى وجه الخصوص مدينة دبي، وجهة رجال الأعمال الروس المفضّلة خلال العام 2022، وتحديدًا الراغبين باستثمار ثرواتهم في بيئة اقتصاديّة آمنة وبعيدة عن تداعيات العقوبات الغربيّة. إذ ساهمت سهولة إخفاء ملكيّة الشركات والعقارات والاستثمارات، بالإضافة إلى سهولة الإجراءات الإداريّة، في إغواء هذه الفئة من رجال الأعمال الروس. أمّا الأهم، فهو أن سوق العقارات النشيط في دبي سمح لهذه الفئة باستثمار أصولها السائلة في موجودات آمنة نسبيًا، وقابلة للتسييل عند الضرورة.
وكانت الإمارات قد استحدثت برنامج التأشيرة الذهبيّة قبل سنوات من اندلاع الحرب الأوكرانيّة، وهذا ما سمح للمهنيين ورجال الأعمال بالحصول على الإقامات الطويلة، ولمدة قد تصل إلى حدود ال10 سنوات. وهذا العامل سهّل من لجوء رجال الأعمال الروس إلى دبي. وخلال العام 2022، أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أنّ عشرات رجال الأعمال الروس قرّروا تحويل ثرواتهم المودعة في مصارف وأسواق أوروبيّة إلى دبي، خوفًا من العقوبات الغربيّة.
على المقلب الآخر، كانت الرياض تعيش خلال العام 2022 طفرة من الأعمال التجاريّة، جرّاء رزمات الحوافز الضريبيّة التي قدّمتها السلطات، مقابل انتقال مراكز الشركات الإقليميّة إلى هذه المدينة. وتجدر الإشارة إلى أنّ المسؤولين السعوديين يطمحون إلى استقطاب المقار الإقليميّة لأكثر من 480 شركة عالميّة، خلال السنوات السبع المقبلة، بفضل هذا النوع من الحوافز. ومن الواضح أن اتجاه السعوديّة نحو سياسات فتح السوق، وخصوصًا في العاصمة الرياض، سمح بجذب كتلة رؤوس الأموال التي كانت تتجنّب دخول السوق السعوديّة في الماضي.
أمّا قطر، فكانت خلال السنة عينها تتوّج حصيلة الاستثمارات التي ضخّتها على مدار أعوام سابقة، من خلال تنظيم بطولة كأس العالم. وكانت عوائد البطولة، بالإضافة إلى الإنفاق العام على تنظيمها، تنعش استثمارات القطاع الخاص القطري، في الغالبيّة الساحقة من القطاعات الاقتصاديّة. وبالنتيجة، تمكنت قطر في نهاية العام 2022 من تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 8% خلال الربع الأخير من العام، ما عكس مباشرة أثر تنظيم هذه المناسبة، بالإضافة إلى تأثير ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الدوليّة.
وخلال العام 2022 أيضًا، وفي الوقت الذي عانت فيه الغالبيّة الساحقة من اقتصادات العالم من آثار التضخّم العالمي وارتفاع أسعار مصادر الطاقة، كانت الاقتصادات الخليجيّة تنعم بالفوائض الماليّة الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط والغاز. وهذه الفوائض، أسهمت بدورها في إنعاش الإنفاق العام، ما انعكس بدوره على الحركة الاقتصاديّة وأداء القطاع الخاص في هذه الدول. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم التباين الكبير بين نتائج استثمارات الأثرياء في دول الخليج، ونتائج استثمارات نظرائهم في الدول الغربيّة.
إشكاليّات السياسات الضريبيّة
رغم وجود جانب إيجابي من تدفّق الاستثمارات الأجنبيّة إلى أسواق الشرق الأوسط، وتحديدًا أسواق الخليج في المرحلة الماضية، إلا أنّ تزايد ثروات النخبة المحليّة الأكثر ثراءً، وتزايد الفروقات الاجتماعيّة بين هذه النخبة وسائر فئات المجتمع، يطرح بعض الأسئلة عن السياسات الضريبيّة التي تؤدّي إلى هذا النوع من التفاوت.
ففي الوقت الراهن، تسجّل منطقة الشرق الأوسط أعلى مستويات التفاوت واللامساواة في العالم، حيث يستحوذ 10% فقط من السكّان البالغين على 61% من إجمالي الدخل. في المقابل، لا يستحوذ 50% من السكّان على أكثر من 9% من الدخل فقط. بينما في أوروبا الغربيّة على سبيل المثال، لا تستحوذ الفئة الأكثر ثراءً البالغة نسبتها 10% في المجتمع على أكثر من 36% من الدخل، عكسها في الولايات المتحدة الأميركيّة حيث تستحوذ هذه الفئة على 47% من الدخل.
وعلى هذا الأساس، يمكن فهم تضخّم ثروات فائقي الثراء في منطقة الشرق الأوسط بهذا الشكل، بالتوازي مع تحقيق نمو اقتصادي وازن خلال العام الماضي، طالما أن طبيعة النموذج الاقتصادي تسمح بتركيز الثروة والدخل بيد فئة محدودة من المجتمع.
وهذا العامل، يتحقق من خلال السياسات الضريبيّة، ونوعيّة الأنشطة الاقتصاديّة التي تقوم عليها بلدان الشرق الأوسط، وحجم ونوعيّة الوظائف التي يحققها النمو الاقتصادي. فارتكاز أي اقتصاد على الأنشطة الريعيّة، وانعدام العدالة في السياسات الضريبيّة، غالبًا ما يركّزان النمو على شكل فوائض ماليّة تحققها الفئة الأشد ثراءً، بدل أن ينعكس النمو على شكل زيادة في أعداد ونوعيّة وظائف القطاع الخاص، وتحسّن في نوعيّة الخدمات العامّة.
من هنا، ومع إيجابيّة تحقّق النمو الاقتصادي خلال العام الماضي في بعض دول الشرق الأوسط، من الضروري أن تثير أعداد فئة فائقي الثراء نقاشًا حول نوعيّة السياسات الاقتصاديّة والضريبيّة المعتمدة في هذه الدول. كما من الضروري أن تفتح هذه الأرقام النقاش حول الديناميات الاقتصاديّة الأخرى التي تؤدّي إلى تركّز الثروة والدخل على هذا النحو، والذي تمتاز به منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.