مع استمرار الأزمات الإقليمية على حدود مصر والتأثير السيء لاضطراب عائدات قناة السويس بدا أنّ حديث الرئيس السيسي عن مراجعة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، إذا وصل لـوضع غير محتمل، مسألة دعائية. وفي نفس الوقت تدفع الطبقة المتوسطة في مصر ثمناً باهظاً ومكلفاً لفرض تطبيق الحكومة برنامجاً قاسياً للإصلاح الاقتصادي.

كتبه: خالد محمود
حرره: إريك برينس
السيسي بين ضغوط الخارج وتحديات الداخل
يمضي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قدماً في تنفيذ ما يعتقده برنامجاً واسعاً للإصلاح الاقتصادي معتمداً على تمويل مشروط من صندوق النقد الدولي، وذلك بعدما نجح جزئياً في امتصاص السخط الشعبي التي صاحبت الوضع الاقتصادي المأزوم، وحالة انعدام اليقين السياسية التي تعيشها البلاد. وقد شكّل هذا السخط تحدياً داخلياً كبيراً للسيسي.
وفقاً للصندوق، يستهدف البرنامج إصلاح ما وصفه بالاختلالات الاقتصادية الكبيرة، والتي حددتها وزارة المالية المصرية في إصلاح الاقتصاد الكلى، وخفض مستويات الدين الحكومي، واستقرار الأسعار، وخفض معدلات التضخم، ومنح فرص أفضل للقطاع الخاص.
في مشهد شديد الدلالة على حالة الالتباس ما بين واقع داخلي صعب وإقليمي مضطرب، طلب السيسي النصيحة من المتحدث العسكري للجيش المصري الذي نصحه بأن يهون على نفسه.
لكن السيسي، الذي احتفل بعيد ميلاده السبعين، تطرق باكياً، بشكل مفاجئ بنزعته الصوفية الكامنة، إلى وفاة النبي محمد، في استدعاء غير تقليدي للتاريخ والدين والعاطفة. ويبين الحدث لجوء السيسي إلى توظيف الدين والتلاعب بعواطف الجماهير في محاولة لتبرير نمط حكمه وأسلوبه.
خلص البعض إلى أنّ ما جرى يعكس حجم التحديات التي تواجهها البلاد عبر ربط الإجابة بالوضع الداخلي والخارجي، وهو ما دفع السيسي في اجتماعه مع بعض قادة الجيش لاعتبار أنّ أحداث المنطقة تفرض الاستمرار في بناء قدرات القوى الشاملة وجهود التنمية.
ومع استمرار الأزمات الإقليمية على حدود مصر، سواء في قطاع غزة أو السودان أو ليبيا، وصولاً إلى لبنان، والتأثير السيئ لاضطراب عائدات قناة السويس وتهديد الحوثيين في اليمن للملاحة في البحر الأحمر، بدا أنّ حديث السيسي عن مراجعة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، إذا وصل لـوضع غير محتمل، مسألة دعائية، فقد جاء كلامه عقب لقائه مع كريستالينا جورجيفا مدير عام الصندوق، مغايراً تماماً، إذ تطلع إلى استكمال التعاون والبناء على ما تحقق.
الصدمة المرتقبة
في لحظة إدراك الثمن الذي سيتعين على المصريين دفعه مجدداً، سعى السيسي إلى تأجيل الصدمة المرتقبة للتخفيف من حدتها، بينما عبَّر الصندوق عن إصراره على تنفيذ الإصلاحات دون تغيير، إذ ترى جورجيفا أنّ الإجراء الذي يتعين اتخاذه لا يمكن تجاوزه، في حزم أثار تكهّنات، حيال ما ينتظر البلاد لاحقاً.
ورغم نفي حكومة مصطفي مدبولي طلبها من الصندوق زيادة قيمة الشريحة الرابعة إلى ملياري دولار بدلاً من 1.3 مليار دولار، فقد أكدت مصادر حكومية ذلك، مما يجعلها الشريحة الأكبر حتى الآن.
كما أثار الارتفاع الطفيف في سعر الدولار مقابل الجنيه المصري تساؤلات حول ما إذا كان صندوق النقد سيرفع قيمة القرض.
وعزز من هذا دعوة مدبولي، في الاجتماع الأخير للمجموعة الوزارية الاقتصادية؛ إلى تسريع طرح حصص محددة في نحو 15 من قطاعات الدولة قريباً، فضلاً عن تأكيده لاحقاً على جدية الدولة في بيع عدد من الشركات التابعة للجيش.
يتفق هذا الطرح مع تأكيدات سابقة على استمرار الإنفاق الحكومي على المشروعات الكبرى، والعمل فيها، بما في ذلك خط مونوريل بطول 100 كيلومتر بتكلفة 5.5 مليار دولار، والعاصمة الإدارية الجديدة التي تُقدر تكلفتها بأكثر من 58 مليار دولار.
ورغم المخاوف من ارتفاع التضخم في أسعار المستهلك من 24.4% إلى 33.3% في السنة المالية الجديدة، أعلنت الحكومة عن طرح حصص حاكمة في نحو 40 شركة مملوكة للمستثمرين، بدلاً من بيع حصص أقلية.
دور شركات الجيش البارز
وتتهم الشركات المملوكة للجيش، بعدم وجود أي إشراف مستقل أو مدني، مما يحرم الجمهور المصري من الحصول على المعلومات اللازمة لتقييم التكاليف والمستفيدين من المشاريع الممولة من القطاع العام.
مع تعزيز دور الجيش في الاقتصاد منذ تولى السيسي للسلطة، وصلت هيمنة الجيش المصري على البلاد إلى أعلى مستوياتها في التاريخ المصري الحديث، باعتبارها سبب عدم ترسيخ الديمقراطية “المدنية” في مصر.
تلفت ورقة أكاديمية صادرة عن موقع رواق عربي النظر إلى انهاك ميزانية الدولة بمضاعفة الإنفاق العسكري وتخفيض الإنفاق العام.
قدر السيسي قيمة اقتصادات المشروعات المدنيّة للجيش، ما بين 2% إلى 3%، بينما قدرها خبراء اقتصاديين بنحو 40%.
تبدو مصر، التي رفضت في السابق بعض مطالب صندوق النقد وتجاهلت مطالب بتقييد امتيازات شركات الجيش، في حاجة إلى تنفيذ سياسة ملكية الدولة التي أصدرتها الحكومة نهاية 2022، والتي تحدد وجود الدولة في القطاعات الاقتصادية بهدف توسيع مشاركة القطاع الخاص في الاستثمارات العامة.
وطالبت منظمات حقوقية محلية ودولية في السابق بالكشف عن المعلومات المالية لشركات الجيش، فيما اعتاد الصندوق في مراجعته السابقة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، كيل المديح للسلطات المصرية والمبالغة في الثناء على التنفيذ الفعّال، على الرغم من الشكوك حول ضبابية الوضع الاقتصادي.
رغم الجدل بشأن رقابة المنشآت الاقتصادية للجيش، تعهد السيسي سابقا بتقليص دور الجيش في الاقتصاد، واجراء إصلاحات هيكلية حاسمة تشمل “تعزيز تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص”.

يشير أحد السيناريوهات المستقبلية إلى ثلاثة تطورات محتملة: بيع الجيش المزيد من أصوله، أو تطوير صيغ التفافية تمكنه من الاحتفاظ بها مع الالتزام جزئياً بمتطلبات الخصخصة، أو تفاقم الأزمة الاقتصادية. هذه التطورات قد تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي وقدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
لكن ووسط اتهامات موجهة إلى الجيش، بفرض هيمنته على الدولة، وانتقاله من مؤسسة حكومية إلى مرتبة الحزب السياسي، من غير المرجح أن يتخلى الجيش عن مكانته إلا أنّ تنامي الاضطراب الشعبي قد يجبره على ذلك.
وثمة من يراهن على أنّ التدهور السريع للاقتصاد المصري يمثّل فرصة للولايات المتحدة لتقديم المساعدات وتعزيز نفوذها، مقابل موافقة القاهرة على إجراء تغييرات كبيرة في سياساتها تجاه روسيا والصين وحقوق الإنسان وليبيا. يشمل ذلك الاستجابة للمطالب الأمريكية بمواجهة تمدد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، والتكيف مع استمرار الفوضى في ليبيا، وإبداء مرونة في التعامل مع ملف النشطاء الموالين للغرب.
قصة مصر مع الصندوق
أبرمت مصر، التي انضمت لعضوية صندوق النقد الدولي في ديسمبر 1945، بحصة نحو 1.5 مليار دولار في مايو 1962، أول اتفاق مع الصندوق للتثبيت الاقتصادي للحصول على أول قرض، لكن المفاوضات تم تجميدها.
لاحقا، اقترضت مصر من الصندوق، لأول مرة في تاريخها، عامي 1977 /1978 في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات نحو 186 مليون دولار، لحل مشكلة المدفوعات الخارجية وزيادة التضخم الذي قارب 8.6% لمواجهة تحديات الاقتصاد المصري بعد حرب أكتوبر 1973.
وفي مطلع الثمانينيات، أبرمت الحكومة المصرية، برنامجا للتثبيت الاقتصادي مع الصندوق، لتجاوز العجز في ميزان المدفوعات.
واقترضت مصر للمرة الثانية في تاريخها في عامي 1991- 1993 في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك نحو 375 مليون دولار لسد عجز الميزان التجاري.
وخلال عامي 1996 ــ 1998، طالبت مصر بقرض من الصندوق بقيمة 434.4 مليون دولار، لكنها ألغته. كان مبارك يتحسب لردة فعل الشارع المصري حيال ما سيؤول إليه استكمال العمل مع صندوق النقد وتأثيره على حياة المصريين بسبب احتمال ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة الجنيه.
واعتبارا من عام 1993 لم تحصل مصر على أي قروض من الصندوق، الذي اقتصر دوره على المشاورات والمساعدة الفنية. وتوقف التعاون مع الصندوق عام 1993 لكن جرى استئنافه لاحقا اعتبارا من عام 2014.
لطالما ردد مبارك، مقولته الشهيرة “أنا مش شغلتي أذبح الناس” في تبرير معلنا رفضه ما وصفه بتعنت الصندوق، مع ملاحظة إتباعه سياسات كانت صعبة وضاغطة على حياة المواطنين.
قروض السيسي
وفي فترة ولايته الأولى، تبنى السيسي عام 2016 برنامج إصلاح اقتصادي مدته 3 سنوات، عقب الحصول على قرض بـقيمة 12 مليار دولار من الصندوق، على 6 شرائح على مدار 3 سنوات. واستهدف البرنامج، تحرير سعر صرف الجنيه المصري وتشجيع الاستثمار وإصلاح منظومة الدعم، وخفض معدل التضخم.
خلال عام 2021، حصلت مصر على قرض إجمالي بلغ نحو 5.4 مليار دولار، قبل أن تحصل عام 2022 على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، لمواجهة أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد بعد خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة بأكثر من 20 مليار دولار، في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع معدلات التضخم عالمياً.
وعوضا عن استلام القرض على مدار 4 سنوات، على 9 شرائح، كل شريحة تقدر بنحو 347 مليون دولار. حصلت مصر فقط على الشريحة الأولى، وأجّل الصندوق صرف باقي الشرائح لحين إجراء المراجعتين الثانية والثالثة.
وفي مارس 2024، اتفقت مصر مع الصندوق، على زيادة قيمة قرضه من 3 إلى 8 مليارات دولار، على تطبيق مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، أهمها الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، وخفض الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، وتمكين القطاع الخاص.
في كتابه “أربعة شهور في قفص الحكومة”، يروى حازم الببلاوي، نائب رئيس الحكومة ووزير المالية الأسبق، الذي فشلت مساعيه في إقناع العرب بتقديم مساعدات اقتصادية لمصر، أنّ تجاهل الدول العربية وعودها بتقديم دعم مالي لمصر لمساعدتها على الخروج من الاثار، التي ترتبت على الاطاحة بنظام مبارك، أصبح موضوع الاقتراض من صندوق النقد الدولي، مطروحا بقوة، رغم الحساسيات التي يثيرها.
وتدفع الطبقة المتوسطة في مصر ثمناً باهظاً ومكلفاً لفرض تطبيق الحكومة برنامجاً قاسياً للإصلاح الاقتصادي، إذ تبرز الصعوبات المتزايدة التي تواجهها هذه الطبقة وتدفع العائلات إلى إعادة النظر في أولويات إنفاقها الشهري
حالة إنكار
ورغم حديث سابق عن أنّ النظام المصري لا يستحق حزمة إنقاذ، رصد باحثون فرض الضغوطات السلبية لشروط الصندوق التقشفية، نفسها على الحياة السياسية في مصر، مما عرّض الاستقرار المجتمعي للخطر.
وكشرط مسبق للحصول على موافقة الصندوق للتمويل، تعرضت مصر لشروط مجحفة من قبل الصندوق، والتي انعكست سلباً على جودة الحياة الاجتماعية والسياسية.
ورغم حديث الصندوق، عن استهداف خطته الاستفادة من النمو السكاني السريع، وتحديث الاقتصاد، وإتاحة شبكة أمان اجتماعي حديثة لحماية الضعفاء، خلصت دراسة إلى أنّ إجراءات مصر الإصلاحية كانت مجرد دوائر مفرغـة يستفيد منهـا تجار الـديون مقابل تضرر ملايين المـواطنين عبر مسار التحرر الاقتصادي وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية.
ومع ذلك، فالعوائق التي تحول دون تحقيق الاستراتيجية الاقتصادية هي مشكلات تتعلق بالسلطة ينبغي معالجتها من خلال نقاش وطني بين الرؤى المتناقضة للبلاد
وتواجه المؤسسة العسكرية خياراً صعباً بشأن إنهاء تدخلها في الاقتصاد، مع ما يعنيه ذلك من خضوعها لمساءلة البرلمان وكشف حساباتها أمام لجانه وأعضائه.
ووسط حالة الإنكار التام التي يعيشها النظام بشأن جدوى المشروعات القومية العملاقة، وأمله في تحقيق طفرة اقتصادية، بقيت حكومة مدبولي في السلطة، رغم الشكوك بأنّها فقدت شعبيتها، وباتت محل انتقادات كبيرة ومكتومة في الداخل، تجاهلها السيسي عبر استمرار هذه الحكومة ومواصلة التعاون مع صندوق النقد.
في العام الثاني من ولايته الثالثة على التوالي، لا يبدو السيسي قلقاً بشأن الحفاظ على الاستقرار الداخلي، إذ يراهن على بطولة شعبه وتفهمه لثمن فاتورة الإصلاح الاقتصادي، بينما يغيب البعد السياسي عن المشهد، رغم مخاطره الكامنة.