نظرًا إلى عدم اهتمام السّياسيّين بمشاريع الأماكن العامّة في لبنان كأولويّة، ليس من العجيب أن تسعى الطّبقة الحاكمة الحاليّة إلى قمع الحرّيّات أكثر فأكثر في الأماكن العامّة والافتراضيّة على حدّ سواء.
دانا حوراني
شهدت شوارع منطقة مار مخايل في وسط بيروت، مؤخّرًا، فورة تنموية. والمسؤول الرّئيسي عن ذلك، مشروع إعادة تأهيل ساحة مار مخايل، وهو مبادرة حضريّة تسعى إلى إعادة إحياء هذه المنطقة المزدحمة. لقد بدأ المهندس اللّبنانيّ الرّاحل حبيب دبس هذا المشروع، وصمّمه بالتّعاون مع فرانسيس لاندسكيبس (Francis Landscapes) تحت إدارة مختبر المدن بيروت (BUL) الموجود في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
تهدف هذه الجهود إلى توفير مساحات خارجيّة للتّرفيه، وتحسين القابليّة على المشي، والاسترخاء في مدينة ينقصها ذلك.
إذ الأماكن العامّة في لبنان، حيث يمكن للأشخاص الاسترخاء، والتّعارف، وتبادل الأفكار، قليلة جدًّا ومتباعدة. ونظرًا إلى عدم اهتمام السّياسيّين بمثل هذه المشاريع كأولويّة، ليس من العجيب أن تسعى الطّبقة الحاكمة الحاليّة إلى قمع الحرّيّات أكثر فأكثر في الأماكن العامّة والافتراضيّة على حدّ سواء. وظهر ذلك بوضوح مؤخّرًا في استدعاء الصّحفيّين والنّاشطين واعتقالهم.
والحالة تزداد سوءًا، بحسب الخبراء، في ظلّ ازدياد تهديد الحرّيّات وغياب أيّ أمل في التّغيير.
لكنّ ساحة مار مخايل تحوّلت إلى منارة أمل وسط الانقسامات الطّائفيّة والسّياسيّة والاضطرابات الاقتصاديّة والسّياسيّة، في سعيها إلى جمع سكّان بيروت وتوحيدهم.
ما فحوى المشروع؟
كان المهندس اللّبنانيّ والمخطِّط المُدنيّ، حبيب دبس، قوّة مؤثّرة عظيمة في مجال التّصميم والتّخطيط المُدنيّ، والتّراث. أسهم في مشاريع توزّعت بين صور، وطرابلس، ودمشق، وبنغازي، والقاهرة الجديدة، ومكّة المكرّمة، أمّا أكبر إنجازاته المحلّيّة فكان دوره في “المشروع الأخضر” في بيروت. وسّع مختبر المدن بيروت هذا الإنجاز بمشروع “السّاحة” محييًا رؤية دبس بتشجيع القابليّة على المشي ضمن بيروت، وإنشاء سلسلة من المساحات العامّة الخضراء لسكّانها.
يصرّ مختبر المدن بيروت، بهذا “القرار المفاجئ”، على دعم التّصاميم المتمحورة حول الإنسان بدلًا من المركبات، بعد أن دمّر انفجار 4 آب أجزاء من مار مخايل، هذا ما قالته منى فوّاز، إحدى مؤسّسي مختبر المدن بيروت والبروفيسّورة في التّصميم المُدنيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، لفناك. ويأمل المؤسّسون أن تشكّل هذه السّاحة خطوة تجريبيّة قبل تطبيقها على شوارع أخرى من لبنان.
تضيف: “واجهنا الكثير من الصّعوبات قبل أن تمكّنّا من تطبيق خطّتنا، من التّعامل مع العمليّات البيروقراطيّة الّتي تؤخّر التّقدّم، إلى ضرورة تأمين تمويل أكبر بسبب ارتفاع التّكاليف النّاتجة عن التّضخّم”.
صمّم مختبر المدن بيروت رؤية لتحسين الشّوارع بإضافة إضاءة، ومقاعد، وتخضير، وحتّى تحسين نظام الصّرف الصّحّيّ. ومع هذه التّغييرات ستصبح هذه المنطقة المتعدّدة الوظائف ملائمة للكثير من الأنشطة الاجتماعيّة. إضافة إلى ذلك، ستُضيَّق الطّرقات لمنع ركن السّيّارات على طرفيها، وستُوسَّع الأرصفة ليتمكّن المواطنون من الاستمتاع بالمشي.
تقول فوّاز أنّ هذا المشروع سيكشف عن ولادة جديدة لهذه المنطقة ويرسّخها كمساحة صديقة للمشاة متّصلة بشبكة مستقبليّة اسمها مسار الأخضر (The Green Spine).
ويرتكز هذا الأخير على اقتراح دبس البديل عن طريق فؤاد بطرس السّريع، الممتدّ من جادّة شارل مالك إلى مار مخايل، ويهدف إلى تحويل هذا الموقع إلى محور أخضر مورق.
التّأثير الاجتماعيّ والبيئيّ
بحسب ما فسّرته المفكّرة القانونيّة، وهي منظّمة بحثيّة ومناصرة غير ربحيّة مقرّها بيروت، إنّ سبب غياب مشاريع مشابهة في المدن والقرى اللّبنانيّة هو أنظمة التّخطيط ما بعد الحرب الأهليّة (1975-1990) الّتي أهملت تضمين الأماكن العامّة كجزء من قوانينها. تأثّر ذلك بتحليق أسعار العقارات ما أدّى إلى فورة إنماء ومضاربة في السّوق العقاريّة، وإهمال الحاجة إلى مراكز مجتمعيّة ومساحات مفتوحة في التّصاميم الحضريّة.
ومع سيطرة السّياسات النّيوليبراليّة على الاقتصاد، سعت المؤسّسات الخاصّة إلى التّحكّم بالأماكن العامّة. وبالتّالي، أصبحت أماكن تجمّعات النّاس وتلاقيهم في المدن مساحات تجاريّة، كالمطاعم ومراكز التّسوّق والمنتجعات، وهي إلى ارتفاع.
تؤكّد فوّاز أنّ فريق مختبر المدن بيروت رأى الصّدق في قلق النّاس ومخاوفهم أثناء مقابلتهم قبل البدء بالمشروع. هذه التّجربة، بحسب فوّاز، هي الأولى من نوعها وضروريّة جدًّا للبلاد.
وتضيف: “نحن نخوض أخيرًا مناقشة مفتوحة حول كيفيّة تحقيق هذا المشروع، ونوع المساحة الّتي نريدها، فهذه المرّة الأولى الّتي سنتشارك فيها مكانًا عامًّا من هذا النّوع في بيروت. وبطيبعة الحال، سُئلنا عمّن سيحافظ على مواقف السّيّارات، والنّباتات، والطُّرُقات، والمجمَّع، ويهتمّ بها.”
يؤمن مختبر المدن بيروت أنّ الأماكن العامّة كهذا المشروع، ستنمّي الشّعور بالانتماء وتسمح للمجتمعات بالتّقدّم، وذلك لتمكُّن الأفراد من التّلاقي والتّعارف والتّواصل معًا متحرّرين من القيود الاستهلاكيّة الخاصّة بالمراكز التّجاريّة الّتي تحدّ من إمكانيّة العلاقات الإنسانيّة. وبذلك، ستكون هذه العلاقات متنوّعة أكثر وغير مركِّزة على حاجات أصحاب المحلّات فقط، بحسب فوّاز.
“في هذا النّموذج من التّطوّر الاقتصاديّ، نسلّط الضّوء على توزيع المساحات، وشبكة من المناطق المفتوحة، ونوع النّظام الاقتصاديّ المرغوب فيه، سواء أكان مركزًا تجاريًّا هائلًا لا يتحادث فيه النّاس، أو شارعًا يسهل الوصول إليه حيث يمكن للنّاس تبادل الأحاديث حول مواضيع متنوّعة يتشاركون الاهتمام بها.”
من المتوقّع انتهاء المشروع في تمّوز 2023.
قمع الأماكن الافتراضيّة
إضافة إلى العالم الحقيقيّ، أصبحت الأماكن الافتراضيّة، حيث يمكن للنّاس في لبنان التّعبير عن إحباطهم وتنظيم الحراك، محدودة.
في منطقة تسود فيها الحكومات السّلطويّة، حافظ لبنان على سمعته المتعلّقة بحرّيّة التّعبير، وذلك بندرة حالات اعتقال الصّحفيّين بحسب منظّمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch). غير أنّ في السّنين الأخيرة، استجوبت القوى الأمنيّة الكثير من الأفراد لفترات طويلة لانتقادهم الطّبقة الحاكمة ومعارضتها، فيما لم تقدَّم أمام المحكمة إلّا القليل من هذه القضايا.
أحدث الاستدعاءات صدرت بحقّ الصّحفيَّين لارا بيطار، رئيسة تحرير منصّة الصّحافة الاستقصائيّة المصدر العام (The Public Source)، وجان قصير المشارك في تأسيس منصّة أخبار ميغافون (Megaphone News). استُدعِيت بيطار بسبب شكوى من قِبل القوّات اللّبنانيّة حول مقال استقصائيّ يفصِّل دور هذا الحزب في تسهيل استيراد النّفايات السّامّة إلى لبنان.
أمّا قصير فاستُدعِي بسبب منشور عنوانه ” لبنان يحكمه فارّون من العدالة”، نُشر في الأوّل من آذار وذُكِر فيه اسم غسّان عويدات، المدّعي العامّ والسّلطة في محكمة التّمييز.
أثارت هذه الأعمال غضب الشّعب ونُظِّمت المظاهرات دعمًا للصّحفيّين وحرّيّة الصّحافة المهدّدة باستمرار في بلد نكبته الأزمات. وعلى الرّغم من تراجع عويدات عن تهمه ضدّ قصير، وإحالة قضيّة بيطار إلى محكمة المطبوعات، يطرح الخبراء احتمال كون ذلك بداية وضع السّياسيّين قوانين أكثر تشدّدًا ضدّ الصّحفيّين.
يقول وديع الأسمر، رئيس المركز اللّبنانيّ لحقوق الإنسان، لفناك: “يبدو أنّ الطّبقة السّياسيّة، إلى جانب القوى الأمنيّة والقضائيّة، تخلّت عن محاولة تغطية استهتارها في التعامل مع المعارضة، والقوّات اللّبنانيّة خير مثال على ذلك.”
ويضيف مشيرًا إلى القوّات اللّبنانيّة: “بعد ادّعائهم معارضة الدّولة ومناهضة المؤسّسات، تصّرّفوا مثلهم بالضّبط عندما واجهوا معلومات تلطّخ صورتهم.”
حماية الحرّيّات
ازداد انتشار الإجراءات القمعيّة على الصّحفيّين والنّاشطين في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، فمصر وتونس مثلين آخرين على ذلك. إنّما لكلّ دولة حالة خاصّة متميّزة عن الأخرى، من حيث إنّ رئيس الجمهوريّة التّونسيّ قيس سعيّد يتبنّى سياسة حكم تزداد استبدادًا بسجن النّاشطين والصّحفيّين وإسكاتهم، فيما ليس في نيّة رئيس الجمهوريّة المصريّ عبد الفتّاح السّيسي السّماح بأيّ نوع من المعارضة، على الرّغم من الحوار الوطنيّ الجاري مع أحزاب المعارضة العلمانيّة.
بَيد أنّ مستقبل الحرّيّات في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا يبدو قاتمًا، يقول الأسمر أنّه من الصّعب توقُّع ما ستؤول إليه الحال في لبنان وكيفيّة حدوث ذلك.
ويلفت النّظر إلى أنّ “التّهم ضدّ ميغافون قد أُسقِطت ويبدو أنّ الوضع يقلّ تأزُّمًا، لكن ما من ضمانة أنّ الطّبقة الحاكمة لن تكرّر فعلتها.”
يكمل مشيرًا إلى ازدياد الحاجة إلى وكالات أنباء مستقلّة في ظلّ تسييس معظم وسائل الإعلام الرّئيسة وتقديمها معلومات منحازة، وخاطئة أو ناقصة أحيانًا.
ويختم بالقول: “ستوفّر وسائل الإعلام المستقلّة وجهات نظر بديلة للنّاس وتحرص على عدم إخفاء أيّ معلومة ضروريّة عنهم، فيما تقدّم أيضًا خطابًا مضادًّا للخطابات الشّعبيّة الّتي قد تؤثّر سلبًا على الشّعب.”