وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نظام الكفالة اللبناني واجهة لنظام أبوي

نظام الكفالة اللبناني
عاملات مهاجرات يحملن لافتات خلال مظاهرة في العاصمة اللبنانية بيروت في 5 مايو 2019، للمطالبة بإلغاء نظام الكفالة. انور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

تشهد بيروت هذه الأيام موجة طقس قارس تزامنًا مع اعتصام نحو 20 امرأة كينية خارج قنصلية بلدهن وهنّ متلحّفات بأغطية الأسرّة في انتظار العودة إلى الوطن.

أتت تلك النساء إلى لبنان لشغل وظائف العاملات بالمنازل وفقًا لأحكام وقواعد نظام “الكفالة” الذي ينظم العلاقة بين العاملات وأصحاب العمل. ويعني ذلك أن عاملات المنازل لا يخضعن لقانون العمل اللبناني وأن إقامتهن في البلاد ترتبط بالكفيل.

وفي ظل الانهيار الذي يعاني منه الاقتصاد اللبناني وأزمة نقص الدولار في بلد يعتمد اعتمادًا كليًا على هذه العملة،وقد امتنع كثير من أصحاب العمل عن دفع رواتب العاملات التي تُقدر في المتوسط بنحو 200 دولار إما لعدم استطاعتهم أو لعدم رغبتهم بذلك.

ومع استمرار انهيار العملة المحلية التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها، شاع امتناع أصحاب العمل عن دفع رواتب العاملات بالدولار علمًا بأن معظمهن تعتمدن على العملة الصعبة لمساعدة أهلهن في بلدهن الأم.

ولهذه الأسباب لم تجد العاملات خيارًا سوى ترك أشغالهن والاعتصام أمام القنصلية أملًا في الوصول إلى حل. وقد تحدثن إلى موقع فنك عن محنتهن ونظام الكفالة والأسباب التي دفعتهن إلى الشارع.

قالت إحدى العاملات التي رفضت ذكر اسمها: “لقد تعرضنا للتحرش الجنسي، وحُبسنا في الحمامات، وحُرمنا الطعام والنوم والماء. ومرّت أيام لم نجد فيها قوتًا إلا الخبز والشاي فقط، ثم امتنعوا عن دفع رواتبنا أيضاً. لقد أتينا إلى هنا بحثاً عن العمل، لكننا تعرضنا للاستغلال والظلم”.

وقالت عاملة أُخرى، سمّيناها رُوث حفاظًا على سريتها، أن معظم العاملات لا تحتفظن بجوازات السفر، ولذلك إن توفر ما يكفي من المال للعودة إلى الوطن، فسيحول نظام الكفالة دون  تحقيق ذلك.

وأضافت رُوث: “طلب مني صاحب العمل أن أعطيه 1700 دولار لأستعيد جواز سفري… وأنا لا أملك هذا المال. ونحن ننتظر الآن استلام وثائق سفر مؤقتة من كينيا حتى نعود إلى وطننا”.

طُبق نظام الكفالة أول مرة في الخمسينيات، وبموجب هذا النظام، تصبح لصاحب العمل سلطة مطلقة على العامل. ويشمل ذلك حيازة جواز سفره ومستندات قانونية أخرى. وبسبب نظام الكفالة، يُزج بالعاملات الأجنبيات في المنازل ويتعرضن لأسوأ الظروف من دون أي وسيلة للحماية أو الشكوى القانونية.

وقالت المحامية موهانا إسحق، رئيسة الشؤون القانونية ووحدة مناهضة الاتجار والاستغلال في مؤسسة كفى، في حديثها إلى موقع فنك: “إذا غادرت العاملات محل عملهن، فلن تحقق الشرطة في أسباب الهروب، بل ستذهبن بمجرد القبض عليهن إلى المحكمة بتهمة انتهاك القانون. وقد يُجبرهن أيضًا أولئك الرجال على العمل في الدعارة أو الزواج بعدما يعدوهنّ بحمايتهن”.

ولا تقدّم العاملات أي شكوى ضد الكفيل وإن توفرت الأدلة على سوء المعاملة خوفًا من العواقب. وتلك هي دائرة الاستغلال والعنف المُحكمة التي تدفع بكثير من العاملات إلى الانتحار.

نظام الكفالة عن قرب

يتعرض العمال الأجانب بالمنازل إلى سوء المعاملة أيضًا  جراء  نظام الكفالة، لكن وضع العاملات أضعف وأسوء لا سيما وأن كثيرًا منهن يعشن في منازل أصحاب العمل.

وقال ملكار الخوري -مدير برنامج النوع الاجتماعي والسياسات في مؤسسة أبعاد- إن المشرعين الذين صاغوا القوانين التي تحكم حقوق العمال والنساء هم عادة أهل السلطة من الرجال، وتُستبعد النساء غالبًا من عملية صنع القرار.

وقال الخوري: “إن لبنان بلد أبوي، ويحظى الرجال دائمًا بامتيازات قانونية. ورغم تغير كثير من الأمور، ما تزال الأدوار والمكانة الخاصة بالنوع الاجتماعي مؤثرة للغاية”.

وأوضح أن العمل المنزلي، وباعتباره ذات طبيعة أنثوية، فقد يُصنف عملًا غير ضروري ولا يحتاج إلى مهارة رغم ارتفاع الطلب عليه. وقد مهدت هذه النظرة الطريق لانتشار ظروف عمل استغلالية يحميها القانون.

وأوضحت موهانا إسحق أن “ارتفاع الطلب على العمالة المنزلية لم يغير النظرة الدونية لهذا العمل الذي يراه العديد من الناس غير جدير بالاحترام بسبب طبيعته”.

وبموجب نظام الكفالة، لا يُسمح للعاملات بالبحث عن مصادر دخل أخرى، وهو ما يجعلهن عرضة للابتزاز والعنف إذا ما اخترن العمل خارج منزل الكفيل.

وإذا ما واجهت العاملة النظام القانوني، فهي لا تستطيع تحمل التكاليف اللازمة لذلك عادةً. واللغة عقبة أخرى؛ فقد بيّنت إسحق أن العديد من العاملات الأجنبيات يعجزن عن التعامل مع قوانين وعقود كُتبت بلغة لا يعرفنها حتى إنهن لا يعلمن بتلك الحقوق المحدودة التي مُنحت لهن.

وقد بُذلت جهود من أجل إصلاح نظام الكفالة، لكن دون جدوى. وفي عام 2020، أعلنت لميا الدويهي، وزيرة العمل في حكومة تصريف الأعمال، عن قانون جديد للعمالة المنزلية من الأجانب. لقي هذا الإعلان ترحيبًا حينها، لكن القانون الجديد لم ير النور لأسباب عديدة، منها الأرباح التي يحققها نظام الكفالة لأطراف عدة. فبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، تحصل شركات التوظيف كل عام على عائدات تقدر بنحو 57.5 مليون دولار، وذلك رغم اتهام كثير منها بسوء المعاملة، وإجبار العاملات بالمنازل على العمل، فضلًا عن تهمة الإتجار بالبشر. وقد نجحت هذه الشركات في منع العمل بنظام العقد الموحد الجديد للعاملات بالمنازل من الأجنبيات، والذي شمل تدابير مهمة من شأنها مكافحة العمل القسري.

العنصرية

قالت فرح بابا، -مسؤولة الإعلام والمناصرة في حركة مناهضة العنصرية- لموقع فنك: “إن العنصرية في لبنان لها طبقات متعددة، إذ يرى بعض الناس أنهم أرقى من غيرهم وهو يبرر لهم معاملة الآخرين بدونية”.

وأضافت بابا: “أصحاب العمل في أحيان كثيرة يزدرون المرأة العاملة. فهم يرون العاملات نساءً غير متعلمات من بلدان متخلفة ويجب أن تكون معاملتهن صارمة حتى لا يتمردن”. وليس غريبًا أن يتسبب هذا الوضع في التمييز ضد العاملات الأجنبيات وظلمهن بمنع برواتبهن.

وقالت بابا بإن العاملات من الفلبين ونيبال مثلاً يتقاضين أعلى رواتب، إذ يبدو أن لون البشرة الفاتح يؤثر على الحقوق التي يتمتعن بها مقارنة بنظرائهم من جنوب آسيا وإفريقيا.

وترى بابا أن التنشئة الاجتماعية وتطبيع الإساءة اللفظية مهّدا الطريق للاعتداء الجسدي والجنسي، وهو ما انعكس أيضًا على الرواتب التي تحصل عليها العاملات بالمنازل. وقد أصبحت كل تلك الأمور طبيعية وجائزة في لبنان بسبب القوانين والمؤسسات الأبوية.

وأوضحت أن “التمييز في القانون اللبناني يشمل كل الناس من دون الرجال. ولذلك فإن استغلال النساء والعاملات منهن تحديدًا والعاملات الأجنبيات على وجه الخصوص هو أمر سهل للغاية. إننا في حاجة إلى منظور شامل يأخذ في اعتباره كل الجوانب المالية والقانونية والعرقية والجنسية لنحقق إصلاحًا حقيقيًا “.

العاملات يقاومن

وقالت بابا بأن ارتفاع عدد حالات سوء المعاملة للعاملين الأجانب خلال فترة تفشي الوباء والإغلاق أدت إلى إدراك أهل لبنان لعمق هذه المشكلة، لكن ذلك لم يكن كافيًا لخلق بيئة تدعم هذه القضية نظرًا لكثرة الأزمات التي تمر بها البلاد. ومع ذلك، كثيرون يقاومون.

وأفادت بابا بأن “عاملات المنازل عادةً ما يطلبن مساعدة المنظمات المحلية غير الحكومية، لكن كثيرًا من هذه المنظمات تبقى مساعداتها محدودة نظرًا لكثرة الطلبات. ولذلك اتجه العمال إلى تكوين مساحات وجمعيات خاصة بهم”.

وقد اتخذت إحدى هذه الجمعيات، وهي )إيغنا ليغناEgna Legna )، نهجًا نسويًا وتوجه انتقاداتها لنظام الكفالة باعتباره نظامًا أبويًا. وتعمل مجموعة أخرى في بيروت على قضايا المهاجرين الإثيوبيين منذ سنوات، وتنظم حملات ضد نظام الكفالة وتساعد العمال الإثيوبيين العاجزين عن العودة إلى بلادهم.

تتبع جمعية إيغنا ليغنا مبادئ الأخوّة والنسوية، ويتمثل هدفها في حماية العاملات بالمنازل وتمكينهن. ويقدّم موقع الجمعية مصادر وموارد لدعم النشطاء. أما عن نشاطاتها، فقد قدمت الجمعية دعمًا مباشرًا لعاملات المنازل الأجنبيات خصوصًا من كُنّ في حاجة إلى المساعدة.

وبالمثل، أُسست حركة مناهضة العنصرية (ARM) في عام 2010، وهي منظمة غير حكومية تديرها ناشطات نسويات في لبنان بالتعاون مع العاملين والعاملات الأجانب بشكل عام والمشتغلين بالمنازل أيضًا. كما أنشأت الحركة مركز العاملات الأجنبيات (MCC) حيث تلتقي العاملات الأجنبيات وينظمن التحالفات وتُتاح لهن المعلومات والموارد والمساعدة التي يحتجن إليها. وترى مثل هذه الجمعيات أن معركتها هي الحرب ضد النظام الأبوي والعنصرية وعدم المساواة.

وما تزال العاملات الكينيات متمسكات باعتصامهن أمام القنصلية، ولكنهن لسن بمفردهن. فقد نظمت حركة مناهضة العنصرية حملات على وسائل التواصل الاجتماعي لدعمهن. كما قدمت الحركة لهن الطعام والملابس الشتوية والمستلزمات الصحية. وتتواصل الحركة مع منظمات حقوق الإنسان في كينيا للضغط على المسؤولين نُصرة للقضية.

وتأمل بعض النساء الكينيات في مغادرة البلاد خلال الأسبوع المقبل كما وعد مكتب الهجرة في كينيا.

وقالت رُوث: “لن نذهب للاعتصام في أي مكان آخر، إن تركنا هذا المكان ستنسى القنصلية قضيتنا، سنواصل الضغط حتى النهاية”. وأضافت رُوث أنه في وجود هذا الدعم الذي تلقاه النساء، لن يحاربن بمفردهن على الأقل.