تعدّ ليبيا في عام 2019 مستنقعاً مماثلاً للنزاعات الأخرى في الشرق الأوسط، الناشئة عن انتفاضة الربيع العربي عام 2011. ومع ذلك، انعكست إحدى أبرز نتائج النضال الليبي على الشعب الأمازيغي في البلاد. فمنذ بداية الصراع، كانت هذه الأقلية المضطهدة في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، أكثر قدرة على تقدير سماتها الثقافية على نحوٍ منفتح. ومع ذلك، مع دخول الحرب الأهلية مرحلةً جديدة، باتت الجماعة العرقية عرضة لمزيدٍ من الهجمات – بينما يغض المجتمع الدولي الطرف عن ذلك.
الأمازيغ، الذين يشار إليهم أيضاً باسم البربر، هم جماعة السكان الأصليين في شمال إفريقيا. وفي ليبيا، على الرغم من الاحصاءات النادرة، إلا أن تقديرات أعدادهم تتراوح بين أقل من 200 ألف نسمة وما يصل إلى 1,5مليون نسمة، أي ما يمثل حوالي ربع سكان ليبيا البالغ 6.75 مليون نسمة. يقدر البعض أعدادهم بأرقامٍ أكثر واقعية تتراوح ما بين 500 إلى 750 ألف نسمة.
وبثقافتهم المميزة عن الأغلبية العربية في البلاد، شهدت ثقافة وهوية الأمازيغ تاريخاً من القمع، لا سيما في ظل حكم القذافي، الذي اعتبرهم تهديداً انفصالياً لصياغته لسرد الوحدة العربية في المنطقة.
تم حظر اللغة المتميزة للأمازيغ، والمعروفة باسم تمازيغت، إلى جانب ممارسة تسمية الأطفال بأسماء غير عربية. ونتيجةً لذلك، سار النشطاء الأمازيغ على طريق محفوف بالمخاطر، حيث تم سجن الكثير منهم وحتى قتلهم، بينما اتهم البعض منهم بأنهم جواسيس.
انتهى الاضطهاد في عام 2011 مع سقوط نظام معمر القذافي.
فقد أوضحت أسماء خليفة، الباحثة الأمازيغية والمؤسسة المشاركة في حركة النساء الأمازيغ، لنا في فَنَك أن ذلك كان جزءاً من الرد الاستعماري على “أن يكون الجميع عرباً متحدين ضد الإمبريالية والاستعمار.” وأضافت “إلا أن هذه رواية فاشلة،” “[ذلك] لم يوحد أو يجمع الشرق الأوسط وشمال افريقيا، لأنهما مختلفان بشدة.”
فقد تمت تسمية زورغ مادي، إحدى المؤسسات المشاركات أيضاً في حركة النساء الأمازيغ، باسمٍ أمازيغي من قِبل والدها، سالم مادي، وهو زعيمٌ أمازيغي بارز أعتقل في ثمانينيات القرن الماضي لتحدثه علناً عن حقيقة أن الأمازيغ يملكون هويةً ثقافية مميزة عن العرب، حيث كلفه ذلك عشر سنواتٍ في السجن قبل ولادة ابنته.
لم ينتهِ نشاطه بمجرد إطلاق سراحه من السجن: فقد ألهم الآخرين، بمن فيهم أبنائه، لمواصلة الاحتجاج والعمل مع كيانات شمولية في عموم إفريقيا مثل الكونغرس العالمي الأمازيغي الذي يهدف إلى حماية وتعزيز الوعي بالأمازيغية عبر شمال أفريقيا. اضطهاد عائلة مادي لم يتوقف، أيضاً، إذ تستذكر زورغ مادي إحدى اللحظات التي عاشتها: “أتذكر حدثاً واحداً جاءت فيه قوات القذافي إلى منزلنا وهم يصرخون، متهمينا بأننا خائنون ومحتالون، إذ قالوا لنا ‘ينبغي قتلكم.‘” وأضافت “ثم اندلعت الثورة. نحن أقوى الآن.”
يعمل سالم ماضي الآن مع المجلس الأعلى للدولة كما تطورت الحركة الأمازيغية بشكلٍ كبير. لكن بالنسبة للكثيرين، لم يقطع الدستور الليبي شوطاً كافياً في منح الأمازيغ مكانةً متساوية مع للعرب، إذ تقول ماضي: “لا يتم الاعتراف بنا بجدية في التشريعات الحكومية، نحن غير موجودون في ليبيا.”
اعتمد المجلس الوطني الانتقالي الذي تم إنشاؤه بعد عهد القذافي، أي بعد زوال الديكتاتور، دستوراً مؤقتاً، إلا أن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي أنشئت في عام 2013 لكتابة دستورٍ دائم. ومع ذلك، تم منح مقعدين فقط من المقاعد الـ 60 للأمازيغ (تم تخصيص ستة في المجموع للأقليات الرئيسية الثلاث في البلاد، الاثنان الآخران هما التبو والطوارق). استقبل هذا الأمر بمرارة كبيرة بين الأمازيغ، الذين رأوا أنفسهم يلعبون دوراً كبيراً في الثورة الليبية والتمرد المسلح، محررين البلدات من قوات القذافي.
وفي هذا الصدد، يقول محمد بن طالب من المجلس الأعلى للأمازيغ، وهو هيئة منتخبة تتألف من 18 عضواً تقوم بالوساطة بالنيابة عن مجتمع الأمازيغ في ليبيا- أن الحكومات ما بعد الحرب لا تزال تحتفظ بنفس السرد المتعارف عليه ما قبل الحرب والذي ينظر إلى الأمازيغ باعتبارهم انفصاليين.
نتيجةً لذلك، قاطع الأمازيغ الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي وكذلك الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 25 يونيو 2014. ما يريدون من الدستور هو أن يتم مساواة الثقافة الأمازيغية واللغة الأمازيغية باللغة والثقافة العربية. وبالتالي، يطالبون باستخدام أبجدية تيفيناغ، الأبجدية الأمازيغية، في جوازات السفر وغيرها من الوثائق الرسمية.
فقد أثار طعم الحرية الذي جاء بعد سقوط القذافي رغبة أكبر في استقلالية التعليم والأمن.
كما زاد الوعي بالحقوق في إذكاء هذه الحركة، وتبع ذلك صحوةً ثقافية، لا سيما في المناطق الأمازيغية البارزة في الغرب، مثل زوارة، على الحدود مع تونس وجبال نفوسة وحول غدامس في الشمال الغربي.
فقد بات المزيد من السكان الأمازيغ يلوّحون بعلم مجتمعهم ويتحدثون باللهجة الأمازيغية. وغالباً ما تُكتب لافتات الشوارع بأبجدية تيفيناغ، كما تُدّرس المدارس والكليات المحلية الأمازيغية. تم جلب معلمين من الجزائر والمغرب لبدء مثل هذه البرامج لأن القليل من الأمازيغ البالغين في ليبيا يمكنهم القراءة أو الكتابة بأبجديتهم. كما يتم الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة في أجزاء من البلاد، والتي يتم الاحتفال بها في 12 يناير من كل عام، على الرغم من أنه غير معترف بها باعتبارها عطلة وطنية.
ومع ذلك، بالنسبة لكثير من الليبيين، يُنظر إلى وضع المساواة بين الأمازيغ والسكان العرب الليبيين على أنه خطوة بعيدة المنال، إذ تعتبر النخب القديمة نفسها متميزة عن بقية السكان الأفارقة، بينما يعتبر الأمازيغ أنفسهم أفارقة.
وعلى الرغم من المقاطعة، لم يعترف المجتمع الدولي بمطالب الأقليات الليبية، حيث كان هناك شغف لتبني الدستور وإجراء الانتخابات بعد الحرب.
وتقول مادي، “بصراحة، نشعر أنه تم التخلي عنا.” وتُضيف “حتى خلال الثورة، لعبنا دوراً كبيراً في القتال ضد القذافي، إلا أننا لم نحظى بأي دعم.”
تقول مادي إن دولاً مثل فرنسا تعمل فعلاً ضد الأمازيغ بسبب الدعم الفرنسي للجيش الوطني الليبي، الذي أصبح الآن فصيلاً سياسياً تحت قيادة اللواء السابق خليفة حفتر التابع للحكومة غير الرسمية في شرق البلاد. علاوةً على ذلك، يُعرف الجيش باللغة العربية باسم “الجيش العربي الوطني” – ويشير النشطاء الأمازيغ، بمن فيهم مادي وخليفة، إلى أنه يستثني الأمازيغ.
وبالرغم من الإنفتاح المتزايد في المجتمع الليبي، لا يزال النشطاء الأمازيغ يواجهون تهديدات. فقد اختطف ناشط أمازيغي، يدعى ربيع الجياش، العام الماضي على أيدي قوات موالية لحفتر، واتُهم بالتجسس بعد أن سُمع وهو يتحدث الأمازيغية.
وفي نفس العام، احتلت ليبيا المرتبة الـ11 من بين الدول التي تعتبر “شعوباً معرضة للتهديد” من قبل منظمة حقوق الأقليات الدولية.
تقول خليفة: “أود أن أقول إن الوضع تغير كثيراً. بطريقة ما، لم يحصل ذلك.” وتابعت “أقصد، تغير الأمر بالنسبة للأمازيغ، يمكن أن يكونوا أكثر صراحةً، إلا أن هذا يحدث فقط بسبب الافتقار إلى ضوابط الدولة.”
ففي أغسطس، أصدر الذراع الديني للحكومة الشرقية، اللجنة العليا للإفتاء، فتوى ضد الإباضية – الإباضية هي إحدى طوائف الإسلام التي يتبعها الأمازيغ، من بين آخرين. فقد وصفتهم هذه الفتوى حرفياً بـ”الفرقة المنحرفة والضالة،” رغم أنه كان هناك دعمٌ غير متوقع للبربر نتيجة لذلك، بما في ذلك من العناصر السُنية في البلاد.
فقد خلق هذا الهجوم الذي شنه حفتر في وقتٍ سابق من هذا العام ديناميكية جديدة لاستقرار ليبيا وانعدام الأمن. وما زالت تلك الجماعات المقربة من الزعيم المتمرد تشكل تهديداً للأمازيغ، خاصة في زوارة الاستراتيجية وغير المحمية نسبياً، وهي بلدة ساحلية رملية منشودة بفضل محطات النفط والغاز فيها ومطارها وميناءها وموقعها على الحدود من تونس. فقد أسفر الهجوم على زوارة، في 4 أبريل من هذا العام، عن مقتل 254 شخصاً وإصابة أكثر من 1,228 وتشريد 32 ألفاً.
ومن الجدير بالذكر أن السلفيين المداخلة والميليشيات المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي في الجنوب معادية بشكلٍ خاص للأمازيغ الأباضية، حيث أدى ذلك إلى إثارة الخوف من حدوث إبادة جماعية محتملة، كما أصدر المجلس الأعلى للأمازيغ في العام الماضي بياناً جاء فيه: “يجب على المجتمع الدولي التدخل وحماية الأمازيغ في ليبيا وفقاً للاتفاقيات والمعاهدات الموقعة من قِبل ليبيا.”
تقول خليفة إن هناك الكثير من الادعاءات حول الأمازيغ، بما في ذلك خطط لإقامة مملكة شمال إفريقيا، أو رغبتهم في التخلص من العرب، والتي “لا تستند إلى أي دليلٍ سوى نظريات المؤامرة.”
ومع ذلك، فمن الآمن أن نقول إن الطموحات الأمازيغية لا تزال تتوق إلى المساواة في القانون، بينما يقاتلون لتجنب كارثةٍ جماعية.