وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

رمضان في غزّة، حيث الجراح عميقة

شهر رمضان في غزة المشبّع عادة بالمعاني الرّوحيّة، تشوبه الحرب، والجوع، والأمراض هذا العام، مما يحول الاحتفالات إلى صراع من أجل البقاء.

رمضان في غزّة
فلسطينيون يسيرون بين أنقاض مسجد الفاروق الذي دمره القصف الإسرائيلي في رفح جنوب قطاع غزة. محمد عابد / أ ف ب

دانا حوراني

بدأ رمضان، شهر الصّوم الفضيل الّذي يحتفل به المسلمون حول العالم، في 11 أو 12 آذار بحسب معايير تعتمدها الدّولة ورؤيتها الهلال.

لكن هذا العام، نظرًا لما يعانيه أهل غزّة، فقد شوّهت الحرب، والجوع، والأمراض المعاني الرّوحية التي يتّصفُ بها الشهر الفضيل.

شنّت إسرائيل حربًا مفجعة على قطاع غزّة المحاصر على امتداد 5 أشهر، مخلّفة 30,000 قتيل ما زال العديد منهم مدفونًا تحت الأنقاض. ولقد عانى الغزّويّون أهوال المجازر، والأمراض، والمجاعة، والجوع والعطش الّتي سبّبتها القوّات الإسرائيليّة المسلّحة.

وفق التّقاليد، يشارك المسلمون حول العالم في العبادة، والصّدقة، والصّوم من الفجر حتّى الغروب، ويتكلّل ذلك ليلًا بالإفطار خلال الشّهر الفضيل.

وعلى الرّغم من الفظائع، فقد التزم العديد من الغزّويّين بهذه التّقاليد بالقليل الّذي يملكونه. غير أنّ الظّروف الرّاهنة أحدثت تغييرًا جذريًّا في المشهد الرّمضانيّ، إذ تركت الحرب العائلات من دون مأوى، ومصادر رزق، وقدرة على الحصول على ضروريّات الحياة.

قال الدّكتور وسام عامر، عميد كلّيّة الإعلام واللّغات في جامعة غزّة، لفنك: “نتمنّى لو أنّنا نستطيع بكبسة زرّ إيقاف الزّمن، واسترجاع ما كان يسمح لنا بعيش رمضان، كما كنّا نعيشه في الماضي.”

وأضاف عامر، الّذي هرب من الحصار في تشرين الثّاني: “نحن نتأمّل الآن الصّور القديمة لنتذكّر أحبّاءنا والذّكريات الّتي كانت تجمعنا.”

يعيش عامر مع عائلته في ألمانيا الآن، لكنّهم مشتاقون إلى الاحتفال برمضان في غزّة، حيث يتغلّب الفرح والاحتفالات والتّماسك الاجتماعيّ على العراقيل السّياسيّة والاقتصاديّة الطّويلة الأمد في المنطقة.

قال عامر: “غزّة جميلة حقًّا، كلّ احتفال فيها كان مناسبة سعيدة، ونحن نتوق إلى فرصة للعودة.”

عالم من الذّكريات: كرة القدم والاحتجاجات

لطالما كانت “كرة القدم” الرياضة المفضّلة لدى أطفال القطاع لقضاء الوقت، حتّى قبل انسحاب إسرائيل وإزالة مستوطناتها في أيلول 2005.

كان كلّ حيّ يتفاخر بفريقه مثيرًا المنافسات المحلّيّة. وكانت تتحوّل هذه المباريات أحيانًا إلى احتجاجات ضدّ القوّات الإسرائيليّة، برمي الأطفال الحجارة على جنود مدجّجين بالسّلاح.

قال عامر متذكّرًا: “بدأت الزّينة تملأ شوارع غزّة، في السّنين الأخيرة، وذاع صيتُ مباريات كرة القدم.”

كانت المنازل والشّوارع تتزيّن بالفوانيس والزّخارف الرّمضانيّة التّقليديّة، ومخازن المطابخ تمتلئ ببرطمانات المؤونة والحمّص والخضراوات المخلّلة.

قال عامر: “قبل الإعلان عن بدء الشّهر الفضيل بيوم، كان الأطفال يجتمعون ويقرعون الطّبول بقوّة، تمهيدًا لتلك الاحتفالات.”

ويستعيد الكاتب الغزّاويّ يوسف الجمال ذكريات رمضان القديمة، حين كان من المعتاد اللّعب بالألعاب النّاريّة وتصميم فوانيس في المنزل من علب الحليب الفارغة، قائلًا لفنك: “كانت بعض العائلات تبدأ رمضان بالملوخيّة كوجبة أولى بدلًا من الفتّوش (السّلطة التّقليديّة)، لأنّ لونها الأخضر الغامق يرمز إلى حسن الحظّ.

وبحسب عامر والجمال، المقلوبة (طبق أرزّ فلسطينيّ كلاسيكيّ يُقلب رأسًا على عقِب)، والسّمبوسك (فطائر مثلّثة الشّكل محشوّة باللّحم أو الجبنة)، والخضراوات المحشوّة مثل ورق العنب والكوسى، هي أطباق الإفطار الأساسيّة.

قال عامر: “كان لكلّ مدينة منطقة مركزيّة حيث يجتمع النّاس لقضاء الوقت معًا، وكانت الأسواق تعجّ بالعائلات الّتي تريد شراء حاجيّاتها والثياب الجديدة.”

أضاف الجمال: “كانت السّعادة تظهر واضحة على وجوه الأطفال وعائلاتهم على الرّغم من الواقع المرير، فقد كانوا يقيمون عند بعضهم البعض خلال فترة العيد”.

يشارك المؤمنون في صلوات التّراويح قبل تناول وجبة السّحور ما قبل الفجر، أو الوجبة الأخيرة من اليوم قبل البدء بصوم النّهار.

وقال الجمال: “كنّا نتناول عادة منتجات الألبان، تمامًا كوجبة الفطور التّقليديّة، تصاحبها البطاطس المقليّة من وقت إلى آخر أو وجبات أخرى تكون متوفّرة.”

في الأعوام الّتي لحقت حرب 2014 الإسرائيليّة على غزّة، شهد القطاع المحاصر نموّ الاستثمارات في المجال الخدماتيّ، بافتتاح المزيد من المقاهي والمطاعم الّتي وفّرت للنّاس مزيدًا من الأماكن للتّلاقي، والإفطار والتّجمّعات المسائيّة، بخاصّة خلال شهر رمضان.

ينسب عامر هذا النّموّ إلى الجيل الصّاعد الّذي كان يحاول خلق مساحات أفضل لأفراده، على الرّغم من كلّ الصّعاب والحصار.

وأشار إلى أنّه: “كان هناك أمل ملموس وأماكن أكثر للزّيارة. للأسف كلّ ذلك تدمّر الآن.”

رمضان هذا العام… كارثة تنكشف

أكّد تقرير حديث للأمم المتّحدة، نقلًا عن وزارة الصّحّة في غزّة، وفاة 25 فردًا، غالبيّتهم أطفال، بسبب سوء التّغذية والتّجفاف. وأضاف التّقرير المنشور في 14 آذار، أنّ واحدًا من أربعة أشخاص، أو 576,000 شخصًا على الأقلّ، قاربوا المجاعة.

أشارت الأمم المتّحدة إلى أنّ توفير المساعدات الضّروريّة، بخاصّة إلى شمال غزّة، يشكّل تحدّيًا كبيرًا. وبالتّالي، إنّ تفاقم شحّ الموارد على امتداد القطاع، يزيد من المشقات الّتي يواجهها النّاس خلال الشّهر الفضيل.

قال عامر لفنك : في مدينة رفح، الّتي تأوي 1.5 مليون مهجّر من جنوب غزّة، استُبدِلت وجبة الإفطار التّقليديّة، الّتي تختم عادة الصّوم اليوميّ، بحصص من الطّعام والفول المعلّب.

وأضاف: “يعتمد النّاس أيضًا على المطابخ الخيريّة، حيث يطبخ الأفراد ويوزّعون الوجبات على المحتاجين. كانت هذه العادة متوفّرة قبل الحرب لكنّها أصبحت الآن ضروريّة.”

وبحسب الجمال، على الرّغم من أنّ بعض النّاس ما زالوا يدعون جيرانهم أو أفراد عائلاتهم للتّخفيف من أحزان الحرب، إلّا أنّ هذا قد يكون موجعًا للبعض الآخر إذ يذكّرهم بموت أحبّائهم المؤلم.

يواجه شمال غزّة نقصًا حادًّا في المواد الغذائية، أمّا الجنوب، وبخاصّة رفح، فيشهد تزايد ندرة الحاجيّات وسط ارتفاع الأسعار.

وبذلك، حلّت أطباق بسيطة كالشّعيريّة المخلوطة بالأرزّ والمياه المنكّهة، والبطاطس، والخيار، واللّحوم المعلّبة محلّ الملوخيّة والمقلوبة، وملعقة صغيرة من اللّبنة في وجبة السحور . فالوجبات الغنيّة الّتي تتباهي في الأطباق الملوّنة والحلويات، باتت من الماضي.

وعلى الرّغم من الدّمار الشّامل، ما زال بعض الأفراد يحضرون صلوات التّراويح وسط ركام المساجد، فيما يصمّم الأطفال الفوانيس من الورق ويلعبون بما يتوفّر من الألعاب النّاريّة.

قال عامر: “الكثير من أسواق غزّة وأحيائها الّتي كانت يومًا تعجّ بالنّاس أصبحت الآن خرابًا، مدمّرة ومهجورة. فالنّاس مجبرون على الهرب إلى الأحياء الّتي ما زالت صامدة بحثًا عن الطّعام ووسائل تمضية الوقت.”

وبالنّظر إلى مخيّم جباليا، يمكن استخلاص مقارنة حادّة ومحزنة بين سوق رمضان الحيويّ عام 2023 والسوق عام 2024، أو بين الشّوارع الّتي كانت يومًا ملوّنة وغدت الآن رماديّة ومقفرة.

محاولة قصوى للبقاء

نور عاشور، طالبة الحقوق والنّاشطة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، المهجّرة من شمال غزّة إلى رفح، رثت هذا التّباين الصّارخ قائلة: “لسنا في مزاج احتفاليّ، لأنّ كلّ ما كنّا نفعله بات الآن مستحيلًا.”

وبتأمّلها في مرحلة ما قبل الحرب، قالت عاشور متذكّرة: “لا شكّ في أنّ تلك الأيّام كانت أجمل. في اليوم الأوّل كانت منازلنا تعجّ بالأقارب خلال الإفطار، كنّا نتشارك في الصّلاة والوجبات، كنّا سندًا لبعضنا بعضًا.”

وأكملت: “وجبات الإفطار الحاليّة تتألّف بشكل أساسيّ من الفول والبازلّاء المعلّبة، المتوفّرة في الجنوب. أمّا في الشّمال فإيجاد الطّعام للإفطار أو السّحور نادر. إذا وجد النّاس ما يأكلونه فيكون عادة الزّعتر أو أعشاب برّيّة جمعوها.”

على الرّغم من التّحدّيات، تسلّط عاشور الضّوء على أنّ النّاس يصومون لقوّة علاقتهم باللّه، قائلة: “نصوم حتّى في أسوأ الظّروف، حتّى إذا لم نجد ما نأكله، لأنّ إيماننا راسخ. رمضان مهمّ بالنّسبة إلينا؛ إنّه شهر الخير والنّصر، بإذن اللّه. لكنّني مشتاقة إلى الاجتماع بعائلتي، أشتاق إلى منزلي، إلى جيراني، إلى رائحة رمضان في السّنين الماضية. أشتاق إلى كلّ ما يذكّرني بما كنت عليه.”

الحياة تحاكي رمضان

انتشر في الأيّام الأخيرة الماضية، مقطع فيديو يُظهر أشخاصًا يدّعون الاستمتاع بالسّحور في رفح، في خيمة مزيّنة بزينة رمضانيّة، وذلك أثار غضب الكثيرين. ففي رأي النّقّاد، هذا تحريف للواقع في غزّة، ونوع من تزوير يعكس صورة نقيضة للحياة اليوم.

قالت عاشور: “هذه المشاهد بعيدة جدًّا عن الواقع، إنّها محاولة لتطبيع الحالة. فخيمة واحدة من بين الآلاف تختال بالألوان والزّينة لا تدلّ على الصّمود. لا أحد سعيد بالوضع الّذي وصلنا إليه.”

على الرّغم من قرار وقف إطلاق النّار خلال رمضان، إلا أن الاتّفاقيّة ما زالت غير مطبّقة. ما يعني أنّ شعب غزّة سيستمرّ بمواجهة الجوع، والموت، والدّمار. تسجيل فيديو كوسيلة للتّعبير عن الامتنان لبلدان توزّع المساعدات الغذائيّة جوًّا، ليس إلّا طريقة للتّخفيف من حدّة المجاعة المُحدقة.

قال عامر: “لا يتمنّى الغزّاويّون أبدًا أن يظهروا بمظهر الفقر والحاجة إلى الصّدقة، لكنّ العديد منهم مجبر على ذلك في وجه المحن. لا أحد يرغب في أن يعتمد على المعونات، بخاصّة من بلدان تبدو عاجزة عن توفير مساعدة ملموسة.”

أضاف الجمال: “الغزاويّون غاضبون من البلدان الإسلاميّة، بخاصّة تلك الّتي تناصر القضايا الإنسانيّة.”

وختمت عاشور قائلة لفنك: “نحن مجروحون بشدّة، لكنّنا سننتصر بمساعدتهم أو من دونها.”