وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تراث حلب الثقافي: من الدمار إلى مستقبل مجهول

تراث حلب الثقافي
عمال سوريون يشاركون في إعادة إعمار مطعم وفندق مارتيني في حي الجديدة بمدينة حلب القديمة، 17 أكتوبر، 2020. وكالة فرانس برس

دانا حوراني

في عام 2018، عادت فيندا محمد، 29 عامًا، إلى وطنها في حلب بعد لجوئها إلى ألمانيا هربًا من الأزمة التي بدأت عام 2011. لكن حلب بقيت موطنها الأول والأخير.

وقالت فيندا لفنك: “الناس يتساءلون عن سبب عودتي. وبصراحة، لم أشعر بقيمة حلب إلا بعد أن غادرتها”.

عادت فيندا إلى حلب وتسجّلت في إحدى الجامعات ببرنامج لدراسات التراث الثقافي. وبعد تخرّجها، عملت مع شركة رحى التي تعمل في التوثيق الأثري والترميم، وإعادة تأهيل الأبنية الأثرية.

تقع حلب في شمال غرب سوريا بالقرب من الحدود التركية، وكانت ذات يوم من أكثر مدن سوريا اكتظاظًا بالسكان، وتشتهر باقتصاد مزدهر ومعالم تاريخية وهندسة معمارية تقليدية.

تراث دمّرته الحرب

ورغم الجهود المتنوعة لإعادة بناء وترميم أجزاء مهمة من المدينة، يرى الخبراء أن نتاج هذه الجهود سيستغرق وقتًا طويلًا ولا يعول عليه، خصوصًا إذا لم يشرف أهل حلب على هذه العملية.

ووفقًا للبحث الذي أصدرته منظمة “ريتش” REACH عام 2019، وهي منظمة إنسانية تجمع البيانات في البلاد التي تمر بأزمات، فإن عدد الأبنية المتضررة في حلب قد بلغ نحو 36 ألف مبنى. أمّا اليونسكو فتعتقد أن 60% من مدينة حلب القديمة قد تعرّضت لضرر بالغ، وأن 30% من المدينة قد دُمّر بالكامل،

وقد حدث ذلك بسبب القتال العنيف الذي دام أربع سنوات من 2012 حتى 2016 حين سيطرت الجماعات المتمردة على المدينة. وقد عمد نظام الأسد  إثر ذلك إلى إلقاء البراميل المتفجرة، وفرض الحصار الشامل، بالإضافة إلى منع دخول المساعدات الإنسانية بدعم عسكري من الطائرات الحربية الروسية والمقاتلين الإيرانيين. وفقًا للأمم المتحدة، شهدت حلب أكبر عدد من عمليات القتل الموثقة بحق 51,731 قتيلًا.

وفي خضم هذا الصراع الطويل، توقفت كل الأنشطة التجارية والصّناعية وغيرها من القطاعات الاقتصادية التي كانت تشكّل عصب الاقتصاد في حلب.

تاريخ عريق ومدينة ثرية

يقول المثل الشعبي: “كلّ ضيعة لها درب ع حلب“، ويذكر أبراهام ماركوز في كتابه عشية الحداثة: حلب في القرن الثامن عشر أنه “يباع في حلب في اليوم الواحد ما لا يُباع في غيرها في أشهر”.

وقد سُميت حلب نسبةً إلى قرية عمرها أربعة آلاف عام تُسمى “حلبو“، وكانت شواهد الثروة فيها بادية منذ نشأتها. وتشير الكتابة المسمارية إلى أن المدينة كانت مركزًا للملابس والمنسوجات وأنّها أصبحت قلب طريق الحرير في فترة صدر الإسلام.

ويذكر الصندوق العالمي للآثار والتراث أن أسواق حلب كانت القلب النابض للمدينة على مدار أجيال. كما نعم أهل حلب بالرخاء والاكتفاء من تجارة التوابل والمنسوجات والسجاد والمأكولات التقليدية الشهية والحِرف اليدوية الشهيرة كالصابون الحلبي.

وقد أُدرجت المدينة القديمة، التي تحتوي على القلعة الشهيرة والأسواق العتيقة، عام 1986 على قائمة اليونسكو للتراث العالمي لمعالمها المعمارية التي تعود إلى حُقْب الإمبراطوريات السابقة مثل الحيثيين والأشوريين والإغريق والرومان والأمويين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين.

كما أنها مدينة غنية بتراث ثقافي وديني متعدد، وهو ما يتجلى في عدد كبير من المساجد والكنائس والأضرحة الصوفية والكنوز اليهودية التي تعود إلى العصور الوسطى مثل مخطوطة حلب.

ومن جهة أخرى، فإن الصراعات ليست غريبة على تاريخ المدينة. فقد شهدت حلب صراعات عديدة من الحروب الصليبية إلى حروب القائد المغولي تيمورلنك الذي جمع “جبلًا من آلاف الجماجم عند بوابات المدينة“.

وقالت فيندا: “هذه ليست المرة الأولى التي تُدمّر فيها حلب ثم يُعاد بناؤها. وحين أرى الجهود المبذولة والتطور الذي يحدث الآن، أنظر إلى مستقبل المدينة بتفاؤلٍ”.

تطور تدريجي

تتواصل الجهود الفردية والجماعية لحفظ تاريخ حلب في أرشيف رقمي يُتاح للعالم بأسره.

ومن هذه الجهود المبادرة التي أطلقتها وزارة الخارجية الألمانية في مشروع “التراث الثقافي والحضري في مناطق الصراع”. وتركز المبادرة على مساعدة الجهات المعنية بالحفاظ على التراث الحضري للمدن القديمة التي دمّرتها الحرب في الشرق الأوسط.

وقد يصبح جمع المعلومات التاريخية والمعاصرة من مصادر مختلفة مرجعًا مهمًا لإصلاح المدينة، فضلًا عن إثبات حقوق النازحين من أهلها وملكيتهم.

وتعتمد طريقة إعادة الإعمار على نهج المسح التصويري ثلاثي الأبعاد، ونمذجة معلومات البناء (BIM)، بالإضافة إلى عمليات مسح فائقة الجودة والنحت ثلاثي الأبعاد وإعادة البناء المرئي ثلاثي الأبعاد.

ورغم التطور في أعمال التوثيق عبر الإنترنت، تبقى عملية إعادة الإعمار على الأرض بطيئة ومكلفة.

وقالت فيندا: “غالبية الأدوات المستخدمة في أعمال الترميم على الأرض بدائية. كما أن الاقتصاد المنهار يُصعّب إتمام عملية الترميم”.

وأضافت أن عمليات ترميم سوقي الأحمدية والسقطية، فضلاً عن ترميم الكنائس والمساجد تقوم على مبادرات محلية تقودها رحى وصندوق الآغا خان للثقافة وجماعات دينية دون أي مساعدات أجنبية.

وأكدت على “أهميّة الأسواق إقتصاديًّا، لكن المناطق المحيطة بها تحتاج إلى رعاية حتى يجد أهل حلب مساكن ملائمة تسهّل عليهم تأسيس تجارتهم من جديد”.

أمل من رحم الفوضى

قالت أمية الصغير، أستاذة العمارة اللّبنانية والباحثة في التقنيات الحديثة لإعادة إعمار المدن القديمة المدمرة، إنها أدركت من ملاحظاتها الأولية للمدينة أن زيارة السياح إلى حلب تتزايد تدريجيًا.

وترى أمية أن جهود الترميم باستخدام التقنيات المعاصرة لا تنتقص من قدر المدينة القديمة، بل تساهم في إبراز مكانتها العالمية.

وأضافت في حديثها لفنك: “المدينة أمام خيارين: إصلاح أبنيتها المدمرة بأحجار جديدة أو تركها على حالها.” وأوضحت أنها تفضّل ترميم المدينة لحفظ قيمتها ومكانتها بعد ما مرت به من أهوال الحرب.

وعن قلعة حلب، قالت فيندا إن “الأضرار الطفيفة التي لحقت بها قد وُثقت وأُصلحت فور تحرير المدينة”. ويُذكر أن القلعة تشهد حفلات موسيقيّة ومهرجانات زاخرة في الوقت الحالي.

وقد ورد في مقال نشرته الأسوشيتد برس أن إعادة بناء أكبر مدينة في سوريا سيكلّف عشرات المليارات من الدولارات، ولن تقدّم الدول الغربية على الأرجح التمويل اللازم لنظام الأسد بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية والعربية التي تحظر دعمه.

مرّت حلب بأهوال غيّرت وجهها، إذ يعاني أهلها ومن بقي فيها من التضخم وعدم استقرار العملة بالإضافة  إلى صعوبات معيشية شتى. لذلك يكدّ الحلبيون لكسب لقمة عيشهم ويعتمدون على المساعدات الإنسانية.

وفي ختام حديثها قالت فيندا: “أحزنني في البداية ما حلّ بمنزلي من دمار، ولكن الحياة تدبّ في نفسي في كلّ مرة أزورُ فيها حلب القديمة. لطالما نهضت المدينة بعد كلّ دمار حلّ بها عبر التاريخ وأثق هذه المرّة أيضًا بأنّها ستنهضُ مرةً أخرى”.