تشير عودة الصدر إلى السياسة العراقية إلى تحول محتمل في التوازن السياسي في العراق، مما يشكل تحدياً لهيمنة الفصائل المتحالفة مع المصالح الإيرانية.
علي نور الدين
بعد أقل من عامين على إعلانه الانسحاب من العمليّة السياسيّة في العراق، وبعد مقاطعته الانتخابات المحليّة في أواخر العام 2023، عاد زعيم التيّار الصدري في العراق مقتدى الصدر إلى المشهد العراقي.
وجاءت هذه العودة في نيسان/أبريل 2024 من خلال إصدار الصدر قرارًا اقتضى بإطلاق “التيّار الوطني الشيعي”، الذي يفترض أن يمثّل المظلّة السياسيّة التي سيعمل تحتها الصدريون، خلال الفترة المقبلة.
ثمّة ما يكفي من أسباب لتلمّس أسباب وتداعيات هذه العودة المفاجئة، وخصوصًا على مستوى التوازنات السياسيّة الداخليّة في العراق.
إذ بعد اعتزال الصدر العمل السياسي عام 2022، واستقالة نوّابه الذين مثّلوا أكبر كتلة داخل البرلمان، هيمنت قوى “الإطار التنسيقي”على المشهد السياسي العراقي وهي المقرّبة من إيران.
ومنذ ذلك الوقت، بات حلفاء إيران يحتكرون تمثيل الشيعة في الحياة السياسيّة، ما أعطاهم سطوة على السلطة التنفيذيّة بالاتفاق مع ممثلي الأقليتين السنيّة والكرديّة.
لهذه الأسباب، يعتبر كثيرون أنّ عودة الصدر ستسمح باستعادة التوازن السياسي داخل المعادلة العراقيّة، وبتقليص الهيمنة الإيرانيّة على الساحة الشيعيّة المحليّة.
فحتّى العام 2022، مثّل الصدر المنافس الشّيعي الأكثر جديّة وحدّة، للقوى السياسيّة الملتصقة بسياسات طهران الإقليميّة. لكن في المقابل، يتوجّس آخرون من عودة الشلل والفراغ إلى المؤسّسات الدستوريّة العراقيّة، تمامًا كما كان الحال قبل اعتزال الصدر واستقالة نوّابه، جرّاء المكائد السياسيّة المتبادلة بين الصدريين وخصومهم.
ظروف اعتزال الصدر عام 2022
للتمكن من تحليل أسباب وظروف عودة الصدر إلى الحياة السياسيّة اليوم، من الضروري التوقّف عند الملابسات التي أفضت إلى اعتزاله عام 2022، وصولًا إلى التطوّرات التي حصلت منذ ذلك الوقت، والتي أنتجت الواقع الراهن.
في تشرين الأوّل/أكتوبر 2021، أجرى العراق انتخاباته النيابيّة المبكرة، حيث حصل التيّار الصدري على أكبر كتلة نيابيّة في البرلمان، بعدما فاز بـ 73 مقعدًا برلمانيًا من أصل 329. أمّا سائر المقاعد البرلمانيّة، فتوزّعت على مروحة كبيرة من الكتل الشيعيّة الموالية لإيران، أو الكتل التي تعبّر عن المكونين السنّي والكردي.
غير أنّ كتلة “تحالف الفتح”، الجناح السياسي لميليشيات الحشد الشّعبي الأكثر قربًا من طهران، لم تحصل في تلك الانتخابات على أكثر من 17 مقعدًا، ما مثّل انتصارًا كبيرًا للصدريين.
ومع ذلك، فشل الصدريّون في قيادة مسار تشكيل الحكومة الجديدة، أو انتخاب رئيس للجمهوريّة، حتّى بعد قيامهم بتشكيل جبهة جبهة سياسيّة تضم الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السنّي.
إذ وعلى الرغم من تمثيل هذه الجبهة أغلبيّة أعضاء البرلمان العراقي، فقد حرص خصوم الصدر على تعطيل نصاب الجلسات البرلمانيّة، للحؤول دون إعادة تشكيل السلطة التنفيذيّة (تُعقد تلك الجلسات بنصاب الثلثين).
هكذا، بات الصدريون وحلفاؤهم السنّة والأكراد يمثّلون أكثريّة شعبيّة غير قادرة على الحكم.
إلا أنّ مشكلة الصدر وتحالفه لم تقتصر على فُقدان نصاب الجلسات البرلمانيّة. فحلفاء إيران كانوا يمسكون في الوقت عينيه بالقرار الأمني في البلاد، من خلال ميليشيات الحشد الشّعبي، التي حصلت على وضع قانوني وميزانيّة خاصّة من الأموال العامّة العراقيّة.
بهذا المعنى، كان الصدر يعلم مدى صعوبة الإمساك بالسلطة التنفيذيّة، دون التوافق مع المكونات الأخرى التي تنافسه على الساحة الشيعيّة.
مناورة الاعتزال المتكرّرة
هكذا، وبعد تسعة أشهرٍ من انسداد الأفق السياسي، وبعد الكثير من المناورات والمبادرات المتبادلة، أعلن التيّار الصدري انحساب نوابه من البرلمان العراقي في يونيو/حزيران 2022، ليترك الساحة لخصومه على الساحة الشيعيّة.
وبهذا الشكل، بات “الإطار التنسيقي”، الذي يجمع القوى الشيعيّة الحليفة لطهران، الكتلة البرلمانيّة الأكبر، وهو ما جعله اللاعب الأهم في تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهوريّة. وبعد أيّام قليلة، أعلن الصدر قرارًا أكثر إثارة لمشاعر أنصاره، وهو الانسحاب من العمليّة السياسيّة وعدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة.
بعيدًا عن الشعارات العاطفيّة، كان من المؤكد أن خطوة الصدر هذه لم تكن سوى مناورة جديدة. أي بصورة أوضح: لم يكن الصدر جادًا في الانسحاب النهائي من العمل السياسي، أو الاعتزال التام.
فقبل هذا القرار، أعلن الصدر اعتزاله العمل السياسي ثماني مرّات منذ العام 2013، قبل أن يعود كل مرّة مراكمًا مكاسب شعبيّة وسياسيّة جديدة.
وبذلك كان الانسحاب من المشهد مجرّد تكتيك يعتمده الصدر للابتعاد عن بعض المسؤوليّات في اللّحظات الحرجة، قبل أن يضرب ضربته ويعود في لحظات تحقّق له وضعيّة سياسيّة أفضل.
من هذه الزاوية، ربما صحّت التحليلات التي رأت أن الصدر أراد أن يرمي كرة المسؤوليّة في ملعب خصومه، كي لا يتحمّل معهم -أمام الرأي العراقي- مسؤوليّة الخلافات التي تعطّل تشكيل السلطة التنفيذيّة.
وربما أدرك الصدر جيدًا التعقيدات التي ستمنع حلفاء طهران من إدارة الشؤون المحليّة بنجاح، في حال سيطرتهم على مقاليد الحكم. وهذا ما دفعه إلى الابتعاد عن المشهد، ليدفع الآخرون ثمن الفشل المؤكّد وحدهم.
مكاسب الاعتزال وقرار العودة إلى الحياة السياسيّة
خلال العامين الماضيين، أي خلال فترة اعتزاله، تأكد الكثير مما توقعه الصدر. فبعد إمساك حلفاء طهران بالقرار السياسي ومفاصل الحكم، عانى العراق منذ أواخر العام 2022، وحتّى هذه اللّحظة، من أزمة نقديّة قاسية، جرّاء القيود الأميركيّة على عمليّات شحن وتحويل العملة الصعبة.
ببساطة، منذ ذلك الوقت، بات النظام المالي العراقي –بالنسبة للعالم الغربي- بيئة ذات مخاطر مرتفعة، مع تنامي قدرة الحرس الثوري الإيراني على استعمال السوق العراقي للتملّص من العقوبات.
أمّا الميزانيّة العامّة العراقيّة، فباتت تتحمّل كلفة تمويل الحشد الشّعبي المتزايدة، التي ارتفعت من 2.16 مليار دولار أميركي عام 2021 إلى أكثر من 2.6 مليار دولار أميركي عام 2023.
وعلى مرّ تلك الأعوام، كان ارتفاع ميزانيّة الحشد الشعبي يتوازى مع اتضّاح الكثير من فضائح الفساد المرتبطة بقياداته، وخصوصًا على مستوى تسجيل أعضاء وهميين لزيادة مخصّصات الفصائل المتنافسة، أو لاستخدام الأموال في أنشطة دينيّة وسياسيّة لا علاقة لها بالمهام الأمنيّة.
وبمعزل عن هذا الملف، واجهت الحكومة العراقيّة فشلًا ذريعًا عند التعامل مع معظم الأزمات الاجتماعيّة والمعيشيّة التي طرأت على البلاد. على هذا النحو، مُني “الإطار التنسيقي” بالكثير من الخيبات والنكسات التي أثّرت على شعبيّة أحزابه، بينما ارتبط هذا الفشل بوضوح بطبيعة مكوّنات التحالف.
وفي المقابل، كان الصدر يتنظر الفرصة المناسبة، التي حانت الآن، ليعود إلى المشهد السياسي، ويحصد ثمار اعتزاله خلال العامين الماضيين. بهذا المعنى، باتت عودة الصدر اليوم إلى الحياة السياسيّة جزءًا من المسار الذي عمل عليه منذ العام 2022، أي منذ اعتزاله العمل السياسي.
توقيت وشكل العودة إلى المشهد السياسي
من المفترض أن يشهد العراق الانتخابات النيابيّة المقبلة خلال العام 2025، لكنّ السلطات العراقيّة لم تحدد بعد موعدًا دقيقًا لهذا الاستحقاق.
وهذا ما يشير إلى أن الصدر اختار موعد عودته الحاليّة إلى المشهد السياسي في لحظة دقيقة جدًا، ستسمح له حتمًا بالتحضير للانتخابات المقبلة، واستقطاب القواعد الشعبيّة التي سينافس عبرها “الإطار التنسيقي”.
ومن الطبيعي أن يراهن الصدر حاليًا على استقطاب قاعدة شعبيّة أكبر من تلك التي خاض عبرها الانتخابات السابقة، بعدما أظهر منافسوه ضعفًا واضحًا في إدارة شؤون الدولة خلال فترة اعتزال الصدر.
أما من حيث الشكل، اختار الصدر عنوان “التيّار الوطني الشّيعي” كإسم لحركته بعد العودة، كبديل عن شعار “التيّار الصدري”. ومن هنا بدا أن الصدر أراد أن يُوسّع من مروحة عمله السياسي داخل النسيج الاجتماعي الشّيعي العراقي، ليتخطّى حدود العائلات المحسوبة تاريخيًا على زعامة آل الصدر، ويصل إلى شرائح اجتماعيّة جديدة.
أمّا التشديد على الطابع الطائفي للتيّار، فكان مجرّد مزايدة عقائديّة على خصومه الشّيعة، الذين يحاولون منافسته على زعامة الطائفة.
وفي جميع الحالات، لا يبدو –من عنوان التيّار الجديد- أن الصدر يراهن كثيرًا على استقطاب جماهير من خارج الشارع الشّيعي.
وذلك ما يدل على أنّ الصدر سيكرّر ما قام به بعد الدورة الانتخابيّة الماضية، عبر الفوز بكتلة وازنة بالتركيز على أصوات مناصريه الشّيعة، قبل أن يكوّن تحالفا عريضا بعد الانتخابات مع حلفاء سنّة وأكراد من خارج لائحته الأساسيّة.
التحوّلات المرتقبة في المشهد السياسي العراقي
أما التحوّل الأهم المرتقب، فسيتمثّل في المنافسة التي ستشهدها الانتخابات النيابيّة المقبلة عام 2025. حيث من المتوقّع أن يسعى التيّار الصدري إلى زيادة حصّته في البرلمان العراقي، إلى حد يسمح له –مع حلفاء سنّة وأكراد- بتأمين النصاب المطلوب لجلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة أو منح الحكومة الجديدة الثقة.
مع الإشارة إلى أنّ الصدر سيختار حتمًا التفاوض بعد الانتخابات، مع بعض القوى الصاعدة التي برزت بعد الانتخابات المحليّة الأخيرة، والتي يُرجّح أن تحوز وحدها على نحو 60 مقعدًا إضافيًا، ما سيمثّل تغييرًا مهمًا في المعادلات السياسيّة المحليّة.
ثمّة العديد من التحليلات التي تشير إلى أنّ الصدر قد لا يتمكّن من تجاوز قوى “الإطار التنسيقي“، أو تفادي مشاركتها في الحكومة المقبلة، حتّى لو تمكّن من الحصول على الأغلبيّة الكافية بتأمين نصاب الجلسات البرلمانيّة.
وقد يكون ذلك صحيحًا، بالنظر إلى تأثير ميليشات الحشد الشّعبي على الأوضاع الأمنيّة في العراق. لكنّ مجرّد امتلاك تحالف الصدر الأكثريّة الكافية لتأمين نصاب الجلسات البرلمانيّة، ومنع تعطيلها، سيعطيه القوّة التفاوضيّة اللازمة لفرض اتفاق على صيغة توافقيّة ما، مع قوى “الإطار التنسيقي”.
في المقابل، ستمثّل عودة الصدر عاملًا مريحًا للمكونات السنيّة والكرديّة في البلاد. فالنظام التوافقي الطائفي المعمول به حاليًا فرض طبعًا مشاركة هذه القوى في الحكم، بالاتفاق مع قوى “الإطار التنسيقي”.
لكنّ المكونات السنيّة والكردية عانت على مرّ العامين الماضيين من هيمنة “الإطار التنسيقي” على القرار السياسي في عموم البلاد، بسبب عدم وجود شريك شيعي آخر داخل الحكم أو في مجلس النوّاب.
وعلى أي حال، من المعلوم أن هذه المكونات تتحسّس أساسًا من النفوذ الإيراني المتعاظم في العراق، وهو ما يدفعها للتفاؤل بعودة الصدر، المنافس الرئيس والأهم لحلفاء طهران العراقيين.
على مستوى علاقة العراق بمحيطه العربي، وخصوصًا المملكة العربيّة السعوديّة والأردن، ستمثّل عودة الصدر إلى الحياة السياسيّة عاملًا إيجابيًا، بمعزل عن نتائج الانتخابات المقبلة.
فخفض نفوذ إيران داخل العراق، أو منافستها هناك، سيقلّل من خشية جيران العراق العرب، من إمكانيّة استخدام الأراضي العراقيّة كنقطة نفوذ إيرانيّة متقدمة. ومن المعروف أساسًا أن الصدر يحمل أولويّة تعميق علاقة العراق مع محيطه العربي، لتخفيف اعتماده الاقتصادي على العلاقات مع إيران.
هكذا، سيكون على الجميع ترقّب نتائج الانتخابات المقبلة لمعرفة حجم الحالة الصدريّة الراهنة في العراق، ولتقدير أثر عودة الصدر إلى العمل السياسي. كما ستكشف الانتخابات ما إذا كان الصدر قد أحسن الرهان، عندما افترض أن ابتعاده عن المشهد السياسي لمدّة معيّنة سيزيد من شعبيّته.
ومع ذلك، تبقى الخشية من إمكانية تجدّد الفراغ الدستوري في مواقع رئاسة الجمهوريّة والحكومة، كما حصل عام 2021، إذا فشل أي من الأطراف المتنافسة في نسج تحالف يؤمّن نصاب الجلسات البرلمانيّة.