وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تقرير شاهد من بين رماد غزة

تقرير صادر عن مواطن فلسطيني كندي وقع في خضم حرب غزة، يوضح بالتفصيل النضالات والمرونة والجهود الإنسانية وسط الفوضى.

تقرير شاهد من غزة
صورة تظهر مكانًا كان فيه المؤلف يتناول القهوة مع الأصدقاء، قبل وبعد إصابته. تم التقاط الصورة على اليسار في 16 أكتوبر قبل التدمير، وتم التقاط الصورة على اليمين في 21 أكتوبر. Moain Sadeq @fanack

معين صادق

قبل خمسة أيام فقط من هجمات مقاتلي حماس على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، والتي أعقبتها الحرب على غزة، وصلتُ من كندا، حيث أقيم، عبر القاهرة لزيارة أقاربي وإجراء أبحاث ميدانية أثرية، وهو تخصصي بالضبط.

عندما اندلعت الحرب، تركت بيتي في مدينة غزة، وتوجهت إلى مدينة خان يونس، مسقط رأسي، حيث يعيش فيها بعض أقاربي.

وقتها طلب الجيش الإسرائيلي من سكان مدينة غزة وشمالها في بيت لاهيا، وجباليا وبيت حانون وغيرها، مغادرة بيوتهم، والتوجه إلى المدن والقرى الواقعة جنوب وادي غزة. لم يغادر جميع سكان مدينة غزة وشمالها إلى مناطق جنوب وادي غزة، إنّما اختاروا الصمود في بيوتهم، وأستطيع تقدير مجموع من هاجر منهم حيث لم يتعدَّ 30% فقط .وقد صدر آنذاك قرار الإسرائيليين برحيل سكان قطاع غزة إلى سيناء في مصر، لكن الكل داخل القطاع وخارجه، مثل مصر، رفض القرار فمات في وأده.

بعد هجوم مقاتلي حماس على المستوطنات في غلاف غزة في السابع من أكتوبر، وأسر عدد كبير من الجنود والمدنيين، مضى أكثر من يومين قبل أن يستوعب الإسرائيليون ما حدث، وقبل أن يصدروا رد فعل على ما جرى. وحتى بعد ردود الفعل، كانت القرارات متضاربة، فمثلًا كانوا يأمرون سكان مدينة غزة بالنزوح إلى جنوب القطاع ، وبمجرّد وصولهم إلى هناك كان قصف جويّ يتركّز على الجنوب من كلّ حدبٍ وصوب. وسرعان ما كانت تعود بعض العائلات أدراجها إلى المدينة. كانت الصورة غير واضحة للإسرائيليين، وكان واضحًا لنا أنهم قد مروا بفترة ارتباك في اتخاذ القرارات.

لقد مرت أوقات عصيبة على السكان، كان من الصعب على أي شعب تحملها، ويمكن تخيل ذلك عندما يشعر الفرد، وهو في بيته مع زوجته وأفراد عائلته، أنّ قصفًا سيدمر منزله في أي لحظة، وبدون سابق إنذار يتيح له الخروج منه، وأنا شاهد على أن ذلك قد حصل في حالات كثيرة. إضافة إلى تدمير تجمعات سكنية مدنية بشكل كامل، مثل مدينة الزهراء، ومدينة الشيخ زايد، ومربعات بيوت كاملة في جباليا، وبيت لاهيا، وغزة والشجاعية، والمناطق الشرقية من مدينة خان يونس، وغيرها. المكان الذي تناولت فيه القهوة مع اثنين من أصدقائي في 16 أكتوبر/تشرين الأول، وقد تعرض للقصف بصاروخ مباشر بعد مغادرتنا ولحسن الحظ… .

ازداد عدد سكان مدينة خان يونس بشكل كبير بعد وصول عدد كبير من عائلات مدينة غزة وشمالها إلى المدينة، فبدأت بضائع مستودعات المحلات التجارية تتناقص، وبدأ مخزون الدقيق يتناقص في المخابز، وبدأت كميات غاز الطهي ومستلزمات الحياة اليومية تختفي تدريجيًا من الأسواق، وقد ارتفع سعرها بشكل خيالي، ثم اختفت نهائيًا من المحلات التي كانت لا تزال تواظب على فتح أبوابها في مدينة خان يونس.

كان لابد لي أن أقوم بواجبي في إغاثة من أستطيع من العائلات المهجرة، فاستضفت عددًا منهم في بناية متعددة الطوابق تمتلكها عائلتنا في مدينة خان يونس، مصممة لتكون مشروعًا مستقبليًا لأجنحة فندقية، أي أن كل جناح فيها مزود بحمام. أمنت لهم ما توفر من مستلزمات المبيت، مثل الفرشات والوسادات والأغطية… قبل اختفاء مثل هذه البضائع من محلات قطاع غزة، التي لايزال بعضها يفتح أبوابه حتى اليوم، وهذا أرهقني ماليًا لكني أمام الأحداث التي عايشتها كنت مضطرًا إلى ذلك. أما من الجانب النفسي فكان من واجبي التواصل مع العائلات المهجرة التي استضفتها، والاطمئنان على أفرادها حتى يعتادوا على المكان، والمدينة التي لجأوا إليها، ومنهم من لم يدخلها مطلقًا في حياته. كذلك كان من واجبي أن أوفر لهم الماء ممن لديه آبار مياه صالحة للشرب، وما أمكن من مداخل النت WIFI التي لا تزال تعمل لدى عدد من الموزعين المحليين.

بدأت العمل الخيري بتوزيع وجبات طعام على عدد كبير من العائلات المهجرة، إلى أن اختفى مخزون غاز الطهي من المطابخ. بعدها بدأت بتشغيل عدد من النساء للخبيز في أفران الطابون الطيني، وتوزيعه على العائلات الفقيرة إلى أن توقف ذلك بعد أن انتهى مخزون الدقيق من المتاجر. اتجه الناس بعد ذلك إلى الأرز، وما تبقى في المحلات من المعكرونة والبقوليات مثل العدس والفول وما شابه، إلى أن اختفت من المحلات. بدأت بعد ذلك، وبما تيسر من المال، بتوزيع مقدار خمسين دولارًا للعائلة الواحدة، لتشتري ما تشاء.

في اعتقادي أن المناطق الزراعية حول المدينة، قد ساهمت إلى حد كبير في إغاثة الناس ومدّها بالخضروات. ولكن بأسعار متقلّبة، لكن المشكلة التي نشأت فيما بعد أن أموال العائلات المهجرة التي جاءت بها إلى المدينة بدأت تنفذ، والمصارف توقفت عن العمل، ولم يتقاض الموظفون رواتب شهر أكتوبر، فزادت الضائقة المالية، وخصوصًا في غياب التحويلات المالية من الخارج، وبدأت بعض النسوة ببيع قطع ذهبية مما تملك.

رغم الحرب، والدمار وانقطاع التيار الكهربائي، كنت قبل دخول غزة، قد ارتبطت مع جامعة السلطان قابوس، لأكون استاذًا مشرفًا عبر ال “أون لاين” Online على عمل طالبة تسعى لنيل شهادة الدكتوراه، وتعالج موضوعًا يدور حول طريق الحرير بين عمان والصين وأدواره الحضارية، وكان ذلك في نهاية شهر أكتوبر، ورغم صعوبة الوضع في غزة إلا أنني مضيت قدمًا ووفرت المكان الملائم لمناقشة الطالبة، وتمكنت من توفير خط كهرباء من الطاقة الشمسية لمتجر في الحي، وكذلك نت WIFI من موزع محلي، وتمكنت بالفعل من إنجاز ذلك على أكمل وجه.

وقفت غزة دائمًا شامخة بأهلها، قبل أن تذكرها نقوش فرعون مصر تحتمس الثالث لأول مرة في الألف الثاني قبل الميلاد، وحاصرها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، وكاد أن يفقد حياته فيها.

في أيام المعارك الأخيرة، أي قبل الهدنة، تقدم الجيش الإسرائيلي نحو مدينة غزة، وحاصرها من جميع الجهات، لكنه لم يدخل إلا مناطق وشوارع محددة فيها، أعتقد شخصيًّا أن حماس قد استدرجت الإسرائيليين إليها، بدليل تكبدهم فيها خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، وأعتقد أن الجيش كان مضطرًا لفعل ذلك لرفع الروح المعنوية لدى الإسرائيليين، ولاستعادة ثقة الناس بالجيش.

مع ذلك لم يحتل الجيش مدينة غزة، بدليل تجمع أفواج المفرج عنهم في ميدان فلسطين، الميدان الرئيس في المدينة والواقع في مركزها، وكما نرى في وسائل الإعلام لاتزال جيبات مقاتلي حماس تجوب الشوارع في مدينة غزة، ونلاحظ حاليًا الجيش الإسرائيلي قد بدأ ينسحب تدريجيًا من الأماكن التي دخلها، تاركًا وراءه آلافًا من الموتى، والجرحى والمفقودين الفلسطينيين، وأبراجًا، وبنايات، وبيوتًا، وشوارع مدمره تحتاج إلى وقت طويل لإعادة بنائها، وآمل أن تتاح لي الفرصة لأكون واحدًا ممن يشاركون في واجب إعادة البناء هذا، وإغاثة المنكوبين.

الآن، ماهي وجهة نظر سكان القطاع؟

قبل الحرب كان يشعر سكان القطاع، وخصوصًا الشباب، أن لا أمل لهم في الحاضر والمستقبل. آلاف الخريجين بدون وظائف، ومن أراد منهم أن يؤسس له عملًا تجاريًا فهو لا يملك المال ، وما فاقم صعوبة الحياة أساسًا ، هو الحصار المفروض على غزة منذ سنوات، حيث انعدمت التحويلات من الخارج إلى غزة، كونها تمر عبر “البنوك” الإسرائيلية إلى “البنوك” الفلسطينية، وحتى التحويلات الفورية مثل ويستيرن يونيون Western Union وضعوا لها حدًّا في تحويل المبالغ كانت أقل بكثير ممّا يسمحُ بتحويله إلى بلاد أخرى.

أمّا مغادرة الشباب عبر معبر رفح فيعتبر صعبًا أيضا، ويتعلق بعمر الفردِ. ولا يملك الشباب، العاطل عن العمل، أصلًا، المال اللازم لتغطية تكاليف خروجه من غزة إلى مصر، ثم السفر إلى دولة عربية، أو أوربية للعمل هناك. كل الطرق مغلقة أمامهم، والكثير منهم مستعدون للسفر عبر البحر، حتى ولو فقدوا حياتهم غرقًا.

بالإضافة إلى ذلك، فقد اقتصر الاستيراد على مواد محددة، فالدواء مستورد، وغالي الأثمان، والمياه والكهرباء غير كافية، ودخول الصيادين إلى البحر مقصور على مساحة محدودة، والضريبة المفروضة من السلطات المحلية على بضائع المحلات عالية، ومن يحاول إنشاء بناية للتأجير يدفع رسوم تمديد الكهرباء، مضافًا إليها ما يسمى “مساهمة لشركة الكهرباء”، وهي عالية جدًا تصل الى آلاف الدولارات. باختصار وصل الوضع عند الناس إلى ضرورة إنهاء هذه المرحلة بأي شكل من الأشكال، حيث أصبحت الحياة لا تطاق، وازدادت أعداد مقاهي الشباب العاطلين عن العمل، وكان لابد من التغيير.

أما من الجانب السياسي والاقتصادي، فيعتقد الكثيرون أن هناك خطة موضوعة من بلاد شرق أوسطية لعمل قناة مائية بالتعاون مع إسرائيل (قناة بن غوريون)، تبدأ من بحر مدينة العقبة، وتنتهي عبر وادي غزة في البحر الأبيض المتوسط، لتكون بديلة عن قناة السويس.

أعتقد أن الحل يكمن في إنهاء الحصار، وبناء ميناء بحري، ومطار خاص بغزة، والاعتراف بدولة فلسطينية غير منقوصة السيادة، على حدود الرابع من حزيران عام 1967، متضمنًا ذلك مدينة القدس الشرقية المحتلة، مع ربط غزة بالضفة الغربية، وذلك بالتوازي مع خطة اقتصادية على غرار خطة مارشال الاقتصادية، وأعتقد أنه لا جدوى من حلول تنتقص من ذلك، بل على العكس ستديم أمد الصراع في المنطقة، بل وسيوسع منطقة الصراع التي بدأت أصلًا في التوسع، لتشمل دولًا عربية وغير عربية، مثل اليمن وإيران.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.