جيمس دورسي: هو صحفي حاصل على جوائز، وزميل رفيع في كلية S. Rajaratnam للدراسات الدولية بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة ومعهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة الوطنية.
انخفاض التدين
تتماشى نتائج استطلاع الرأي الإيراني، بالإضافة إلى ملاحظات محللين وصحفيين مثل بيلهام، مع نتائج عدد متنوع من استطلاعات الرأي العام العربي خلال السنوات الأخيرة وتتوافق مع النمط العالمي الذي يتسم بانخفاض التدين. وقد خلصت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في عام 2019 إلى أن المسيحية في الولايات المتحدة تتراجع بوتيرة سريعة.
ووجد استطلاع رأي الشباب العربي أن 66% من المشاركين يرون أن هناك حاجة إلى إصلاح المؤسسات الدينية رغم أن 40% منهم يعرفون الدين كأهم مكون لهويتهم. وقال الحسين، الباحث الخليجي: “إن الطريقة التي تستغل بها بعض الدول العربية الدين في الخطاب السياسي، والتي تتعرض للتضخيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لم تعد تنطلي على الشباب، الذين باتوا يرون ما وراء هذا الخطاب”.
ويشير مؤشر الرأي العربي “Arab Opinion Index” لعام 2018 إلى أنّ الرأي العام ربما يدعم إعادة تصور وصياغة الفقه الإسلامي. واتفق حوالي 70% من المشاركين في استطلاع الرأي على أنه “ليس من حق أي سلطة دينية وصف أتباع الديانات الأخرى بالكافرين”. وبالمثل، رفض 70% من المشاركين الاعتقاد بأن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام بينما رأى 76% منهم أن الإسلام أكثر نظم الحوكمة ملائمةً.
غير أن ما يعنيه هذا تطبيقياً لا يزال غير واضحاً. ويبدو الرأي العالم العربي منقسماً عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل الفصل بين الدين والسياسية والحق في التظاهر.
حذر مايكل روبينز، مدير شبكة الباروميتر العربي البحثية، في مقال رأي بصحيفة “واشنطن بوست” والذي كتبه بالاشتراك مع لورانس روبين، الباحث في الشؤون الدولية، من أن إجراءات الحكومة السودانية الأخيرة الرامية إلى الفصل بين الدين والدولة قد لا تحظى بتأييد شعبي.
وكانت الحكومة الانتقالية، التي جاءت إلى السلطة في عام 2020 بعد ثورة شعبية أطاحت بالحاكم الإسلامي عمر البشير الذي امتد حكمه لعقود، قد اتفقت مع جماعات معارضة سودانية أثناء مباحثات سلام بينهما على “الفصل بين الدين والدولة”. وألغت الحكومة أيضا الحظر المفروض على الردة وشرب الكحوليات بالنسبة لغير المسلمين، وحظرت العقوبات الجسدية بما في ذلك الجلد العلني.
وأشار كل من روبينز وروبين إلى أن 61% من المشاركين في استطلاع الرأي عشية اندلاع الثورة اعتقدوا أن القانون السوداني ينبغي أن يعتمد على الشريعة الإسلامية، التي عرَّفها ثلثا المشاركين بأنها ضمانة لتخصيص الخدمات الأساسية والحد من الفساد. ومع ذلك، فقد انتهى الباحثان إلى أن الشباب يفضلون تقليص دور الزعماء الدينيين في الحياة السياسية. وقالا إن الشباب أصبح غير متحمس لفكرة الحوكمة القائمة على الدين بسبب انتشار الفساد خلال فترة حكم البشير، الذي أدعى التزامه بالمبادئ الدينية.
وحذّر كل من روبينز وروبين من أنه “إذا ما استطاعت الحكومة الانتقالية توفير الخدمات الأساسية للمواطنين ومعالجة الفساد، يمكن أن يصبح التحول السابق عن الشرعية أمراً مقبولاً لدى عامة الشعب. لكن إذا ما ظلت هذه المشكلات، يمكن أن تشحذ مجموعة جديدة من القادة الدينيين حركة، تهدف إلى إعادة تطبيق الشريعة كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف”.
وفي مستهل الثورة الشعبية التي أطاحت بالبشير، كتب عبد الوهاب الأفندي، وهو باحث إسلامي ودبلوماسي سوداني سابق، ما يلي: “بالنسبة لمعظم السودانيين، باتت الإسلاموية تمثل الفساد، والنفاق، والوحشية، والإيمان السيء. قد تكون السودان أول دولة معادية للإسلاميين على المستوى الشعبي. لكن كونك معادياً للإسلاميين في السودان لا يعني أنك علماني”.
إنه تحذيرٌ صالح للسودان بقدر ما هو صالح بالنسبة لغالبية العالم العربي والإسلامي.
يأتي ذلك في الوقت الذي أشعلت فيه الكاتبة السعودية وفاء الرشيد حالة من الجدل المتقد على شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن دعت في صحيفة محلية إلى تأسيس دولة علمانية في المملكة. وكتبت الرشيد: “إلى متى سنظل نتجنب التنوير والتغيير؟ التنوير الديني، الذي يتوافق مع الواقع وتفكير الشباب، الذين ثاروا علينا وابتعدوا عنّا لأننا لم نعد نشبههم. […] لم نعد نتحدث بلغتهم أو نفهم أحلامهم”.
كان الرأي العام السعودي منقسماً عندنا سئل في استطلاع رأي أجراه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عمّا إذا كانوا يعتبرون عدم اندلاع مظاهرات كبيرة في الشوارع، مثلما حدث في بعض الدول الأخرى، أمراً جيداً” – في إشارة إلى الثورات الشعبية التي اندلعت خلال العقد الماضي في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، والجزائر، ولبنان، والعراق، والسودان. وتشير الأرقام إلى أن 48% من المشاركين في الاستطلاع وافقوا، و48% لم يوافقوا على ذلك. ومن المرجح أن يكون السعوديون، مثل بقية دول الخليج، أقل ميلاً إلى التعبير عن مظالمهم في الشارع. ورغم هذا، يشير استطلاع الرأي إلى أنهم قد يكونوا أكثر تعاطفاً مع الاحتجاجات إذا ما حدثت.
ويجادل تميمي عرب، منظم استطلاع الرأي الإيراني، بأن استطلاعه “يشير إلى أن هناك أسس اجتماعية” تدعم مخاوف الحكومات المستبدة، التي تهدف إلى تعزيز أهدافها الجيوسياسية وتسعى إلى الحفاظ على سيطرتها على شعوبها الهائجة. وينعكس تحذيره هذا في ردود أفعال الحكومات في إيران، والسعودية، وغيرهما من الدول في منطقة الشرق الأوسط تجاه تغيّر توجهات الدين والتدين، إذ يبينون إلى أي مدى يعتبرون هذا التغيير تهديداً بالنسبة لهم، وهو التغيير الذي يعبرون عنه غالباً كتهديد وجودي.
وصف محمد مهدي مير باقري، وهو رجل دين شيعي بارز وعضو في مجلس خبراء القيادة الإيراني القوي، الذي يعين المرشد الأعلى للبلاد، فيروس كوفيد-19 في أواخر عام 2020 بأنه “فيروس علماني”، وحرب معلنة على “الحضارة الدينية”، و”المؤسسات الدينية”.
وذهبت السعودية إلى أبعد من هذا بأن عرَّفت “الدعوة إلى الأفكار الإلحادية بأي صورة” بالإرهاب في قانونها المناهض للإرهاب. وحُكم على الناشط والمعارض السعودي رائف بدوي بالسجن لمدة عشر سنوات وألف جلدة لأنه تساءل عمّا يجبر السعوديين على الالتزام بالإسلام، مؤكداً على أن الإيمان لا يملك إجابات على جميع الأسئلة.
وتتبع محللون، وكتاب، وصحفيون، ومنظمو استطلاعات رأي آثار تغيّر التوجهات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى العالم الإسلامي الأوسع، على مدار غالبية العقد الماضي، ما لم يكن لمدى زمني أطول. وذكر باحث غربي من بنغلاديش مقيم في مدينة دكا عام 1989 كيف أن البنغال كانوا يبحثون عن نسخة من رواية “آيات شيطانية” للكاتب سلمان رشدي بمجرد أن حظرها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني، الذي حكم على الكاتب البريطاني بالإعدام. وكتب الباحث: “كان إغراء الفاكهة المحرمة (هو ما دفعهم للبحث). غير أنني وجدت أن العديد من الأشخاص كانوا يبحثون عن أشياء لنقدها، وهو مبرر للتفكير بشكل مختلف”.
لطالما وصفت إدارة التنمية الإسلامية الماليزية، التي يراها كثيرون كمعقل للتيار المحافظ المتطرف وتعد أكبر هيئة تنظيمية دينية في البلاد وهي مسؤولة عن تدريب المدرسين الإسلاميين وإعداد خطب الجمعة التي تسيطر عليها الحكومة، الليبرالية والتعددية باعتبارها تهديداً، مشيرةً إلى فتوى صدرت في عام 2006 ووصفت الليبرالية بأنها هرطقة. وجاء في إحدى خطب الجمعة التي كتبتها ووزعتها إدارة التنمية الإسلامية الماليزية على المساجد في عام 2014: “يريد المنبر أن يقول اليوم إن هناك العديد من التكتيكات، التي يوظفها أشخاص غير مسؤولين لإضعاف وحدة المسلمين عبر نشر أفكار جديدة، لكنها مخالفة للتقاليد، مثل التعددية والليبرالية وغيرها. يريد المنبر أن يصرح بأن الحركة الليبرالية تحتوي على مفاهيم تنحرف عن العقيدة والشريعة الإسلامية”.
وتحاكي هذه الفتوى رأي شرعي مماثل، أصدره مجلس العلماء الإندونيسي شبه الرسمي قبلها بعام، والذي شبه العلمانية، والتعددية، والليبرالية بالأمراض التناسلية. وكان معروف أمين، نائب رئيس الجمهورية الحالي وعضو بارز في جمعية نهضة العلماء، رئيساً للمجلس حينها.
وفي تحدّي لمحاولات الحكومة والسلطات الدينية قمع توجهات التغيير بدلاً من التفاعل مع المجموعات الساعية إلى تحقيق قدر أكبر من الحرية الدينية، أشار الكاتب الكويتي ساجد العبدلي في 2012 إلى أن “من الضروري أن نعترف اليوم بوجود الإلحاد وتزايد انتشاره في مجتمعنا، وخاصةً بين الشباب، والأدلة على هذا كثيرة”.
وأطلق العبدلي تحذيره قبل ثلاث سنوات من صدور دراسة مركز بيو للأبحاث، التي تسعى إلى التنبؤ بمسارات نمو الأديان في العالم بحلول عام 2050. وتشير الدراسة إلى أن نسبة عدد الأشخاص غير المنتمين إلى أي دين مقارنة بتعداد سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبالغ 300 مليون نسمة، لا تزال مستقرةً عند 0.6%.
بعدها بعامين، أصدرت دار الإفتاء المصرية، الهيئة الاستشارية الدينية للحكومة المصرية، مسح مشكوك في دقته العلمية، يسعى إلى تصوير عدد الملحدين في المنطقة بأنه يكاد لا يذكر. وحدد المسح عدد الملحدين في المنطقة بنحو 2293 شخص، بينهم 866 مصري، و325 مغربي، و320 تونسي، و242 عراقي، و178 سعودي، و170 أردني، و70 سوداني، و56 سوري، و34 ليبي، و32 يمني. وعرف مسح دار الإفتاء الملحدين بأنهم ليسوا فقط هؤلاء الذين لا يؤمنون بوجود الله، بل يشملوا أيضاً المتحولين إلى ديانات أخرى، والمدافعين عن تأسيس دولة علمانية. وخلص مسح أجراه الأزهر الشريف، قلعة القاهرة القديمة للتعليم الإسلامي، في نفس العام، إلى أن عدد الملحدين في مصر بلغ 10.7 مليون شخص. وحذر إمام الأزهر أحمد الطيب، وقتها على التلفزيون الرسمي، من أن الهروب من الدين يمثل مشكلة اجتماعية.
وذكر استطلاع رأي، أجرته شركة WIN/Gallup International في عام 2012، أن 5% من السعوديين -أو أكثر من مليون شخص- عرفوا أنفسهم بأنهم “ملحدون عن اقتناع”، مماثلاً للنسبة في الولايات المتحدة. بينما وصف 19% منهم أنفسهم بأنهم غير متدينين. وعلى نفس المنوال، وجد بن شمسي، الصحفي المغربي، 250 صفحة أو مجموعة متعلقة بالإلحاد العربي على شبكة الإنترنت، وكان عدد أعضاء هذه الصفحات والمجموعات يتراوح ما بين بضعة أفراد إلى أكثر من 11 ألف شخص. وقال بن شمسي: “إن هذه الأرقام تخص الملحدين العرب فقط (أو العرب المتهمون بقضية الإلحاد)، الذين يلتزمون بالإلحاد لدرجة كافية لجعلهم يتركون أثراً ورائهم على الإنترنت”، مشيراً إلى هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يرغبون، على الأرجح، في الكشف عن معتقداتهم.
وتتكرر هذه الصورة عبر الشرق الأوسط. على سبيل المثال، يتزايد عدد الملحدين واللا أدريين في العراق. ويجادل غيث التميمي، الكاتب عراقي ورجل الدين الشيعي السابق، بأن الرموز الدينية باتت تمثل كل ما هو خطأٌ متأصل في مجتمع السياسات العراقية. ويقول التميمي إن العراقيين من كل الأجيال يسعون إلى الهروب من العقيدة الدينية المصمتة، مضيفاً أن “العراقيين يتساءلون عن الدور الذي يلعبه الدين في يومنا هذا”. وشكا فاضل، وهو عراقي يبلغ من العمر 30 عاماً من مدينة البصرة الجنوبية، من أن القادة الدينيين “يسيؤون استغلال اسم الله، ويفرضون ضوابط على أجساد البشر، ويحظرون ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج، ويفرضون قيوداً على أجساد النساء”. وبرز تغيّر التوجهات تجاه الدين، بوضوح، خلال التظاهرات المعارضة للحكومة في العراق خلال عامي 2019 و2020، والتي رفضت الطائفية ودعت إلى هوية عراقية قومية علمانية.
حتى في سوريا، التي باتت موقع ارتكاز لأشكال الإسلام المحافظة المتطرفة والمسلحة التي غذت عقد من الحرب الأهلية الوحشية والتدخل الأجنبي، توصل كثيرون إلى استنتاجات مثل تلك التي صاغتها الصحفية السورية العلي بأن “السلطات الدينية والسياسية هم أصدقاء يحمون بعضهما البعض، وأن الاستبداد السياسي ينبع من الاستبداد الديني المطلق. […] في سوريا، تتقلص المكانة، التي كان يتمتع بها الشيوخ، مع مكانة النظام الحاكم”. وأدى عجز الدين والرموز الدينية عن تفسير الرعب الذي عايشته سوريا والذي اقتلع حياة ملايين الأشخاص من جذورها، إلى دفع العديد من الأفراد إلى التساؤل عن المعتقدات القديمة.
وتشير العديد من استطلاعات الرأي التركية إلى أن هدف إردوغان الرامي إلى تربية جيل متدين قد أتى بنتائج عكسية رغم إنفاق ملايين الدولارات على التعليم الديني. وغالباً ما يرفض الطلاب الدين، واصفين أنفسهم بالملحدين، أو الربوبيين، أو النسويين، ويتحدون تفسيرات الإسلام المقدمة في المدارس. وذكر استطلاع رأي لعام 2019، أجرته شركة IPSOS للبيانات واستطلاعات الرأي، أن 12% فقط من الأتراك يثقون في المسؤولين الدينيين، بينما لا يثق 44% منهم في رجال الدين. وقال علي بردكجي أوغلو، الذي ترأس إدارة الشؤون الدينية التركية في الفترة من 2003 إلى 2010: “لقد تراجعنا إذا ما أخذنا مبادئ الإخلاص الديني والأخلاق، التي يعبر عنها الناس، في عين الاعتبار”.
ودون أن يعرف أن الميكروفونات لا تزال مفتوحة، كان إردوغان قد عبّر عن مخاوفه لوزير التعليم بشأن انتشار الربوبية، وهي مذهب يعتقد بوجود إله لا يتدخل في شؤون الكون ولا يُعرفه دينٌ منظم، بين الشباب الأتراك خلال اجتماع مع الكتلة البرلمانية لحزبه. وقال إردوغان: “لا، لا يمكن أن يحدث مثل هذا الأمر” في الوقت الذي صوّر فيه المسؤولون الأتراك الربوبية بأنها مؤامرة غربية مصممة لإضعاف تركيا. تأتي تعليقات إردوغان رداً على نشر تقرير لوزارة التربية والتعليم، الذي يحذر من رفض شعبي للمعرفة الدينية المستقاة من الوحي والتعاليم الدينية وتزايد تبني المنهج المنطقي، وهو ما يتوافق مع نتائج استطلاع الرأي اللاحق.
وأشار التقرير إلى أن ارتفاع عدد المسجلين في مدارس “إمام خطيب” الثانوية، وهي مدارس دينية حكومية، لم يحدّ من التساؤلات المتزايدة بشأن التعاليم الإسلامية التقليدية. كما أنه لم يساهم في زيادة دراسة الدين في المدارس العادية، التي تقلل من أهمية تدريس نظرية التطور. وفشل التركيز المتزايد على الدين في تعزيز حلم أردوغان بتنشئة جيل تقي، يحمل القرآن في يد والحاسب الآلي في اليد الأخرى. وعوضاً عن ذلك، أشار التقرير إلى أن نقص الإيمان بالمعلمين غذى صعود الربوبية، ليعبّر بذلك عن نقاش دار مع نحو 50 مدرس ديني بشأن قضية الشباب والإيمان. وكان المدرسون عاجزين عن الإجابة عن الأسئلة التي تطرح كثيراً: لماذا لم يتدخل الله لوقف الشر ولماذا يظل صامتاً؟ وعززت موجة من الاعترافات مجهولة الهوية والقصص الشخصية، التي رواها ربوبيون وملحدون خلال حوارات صحفية، رسالة التقرير التحذيرية.
وبناءً على تعليمات إردوغان، أعلن علي أرباس، مدير مديرية الشؤون الدينية، الحرب على الربوبية. وألقى أرباس، رجل الدين الحكومي الأعلى في البلاد، باللوم على المبشرين الغربيين الساعين إلى تحويل الشباب الأتراك إلى المسيحية لتزايد شعبية الربوبية. جاء إعلان أرباس بعد عقد لقاءات استشارية امتدت لثلاثة أيام مع 70 عالم ديني وبيروقراطيين في مديرية الشؤون الدينية، التي عرفت “الربوبية، والإلحاد، والعدمية، واللاأدرية” بأنها العدو. ويشكل تحذير إردوغان، وترويج أرباس لنظريات المؤامرة، محاولات لتقليص الانتباه تجاه حقيقة أن الشباب في تركيا، مثلما في إيران والعالم العربي، يديرون ظهورهم لتفسيرات الإسلام التقليدية والجامدة على خلفية تفشي الحكم الديكتاتوري والمستبد في المنطقة. وقال إردوغان متوعداً إنه “لايوجد شيء” اسمه مجتمع الميم، في إشارة إلى مجتمع المثليين الجنسيين ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسياً، مضيفاً أن “هذه البلاد قومية وروحانية، وستمضي إلى المستقبل بهذه الهوية”. وجاءت تعليقات إردوغان بعد أن عرض طلاب ملصق إعلاني يصوّر الكعبة بأعلام ترمز لمجتمع الميم.
وقال تميل كرامولا أوغلو، زعيم حزب السعادة الإسلامي الذي يعارض حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم: “هناك دكتاتورية في تركيا. وهذا يدفع الناس بعيداً عن الدين”. ووصف الباحث التركي مجاهد بيليجي رفض الشباب لتفسيرات الإسلام التقليدية والمسيسة بأنها تعبيرٌ عن “ازدهار آراء ما بعد الإسلاميين” التي يتبناها “جيل أصغر سناً، اختار مسار الروحانية الفردية والرفض الصامت للتقاليد”.
وترى السلطات السعودية أن الأعداد المرتفعة في استطلاع رأي WIN/Gallup International تمثل تهديداً لعباءة الشرعية الدينية التي ترتديها عائلة آل سعود الحاكمة للمملكة منذ وقت طويل. وتسلّط الطموحات المتنامية، التي قادت الشباب بعيداً عن قيود المعتقدات المحافظة المتطرفة، الضوء على فشل جهود الحكومة والمؤسسة الدينية خلال ثمانينات القرن الماضي. فقد حظرت وزارة المعلومات والثقافة كلمة “حداثة” آنذاك في محاولة لخنق جدل ناشئ، يتحدى الحدود الضيقة للمعتقدات المحافظة المتطرفة، وسلطة المؤسسة الدينية، التي تحكم الحياة العامة والشخصية.
معادلة خاطئة
إن ما يدركه الحكام المستبدون في السعودية وغيرها من دول الشرق الأوسط، والأصوات الدينية المحافظة من تهديد لسلطتهم، يعززه مساواتهم، ضمنياً، بين الإلحاد ورفض أشكال الإيمان المحافظة والمتطرفة المفروضة من قبل الدولة من ناحية، والإيمان بالأناركية أو الفوضى السياسية من ناحية أخرى.
وقال عبد الله المعلمي، السفير السعودي لدى الأمم المتحدة: “إن أي دعوات تتحدى الحكم الإسلامي أو الأيديولوجية الإسلامية تعتبر دعوات تخريبية في السعودية وقد تؤدي إلى التخريب والفوضى”. وفي إطار محاكاة ما قاله الصحفي بن شمي، جادل المعلمي بأنه “إذا لم يكن شخص مؤمناً بوجود الله، وأبقى اعتقاده هذا لنفسه، وضبط سلوكه في الحياة العامة، فإن لا أحد سيفعل أو يقول شيئاً له. لكن إذا ما خرج للعامة وقال إنه لا يؤمن بوجود الله، فهذا يعد دعوة تخريبية. فهو يدعو الآخرين للانتقام”.
بالمثل، أكد الشيخ أحمد التركي، متحدثاً بصفته منسقاً لحملة مناهضة الإلحاد التي ترعاها وزارة الأوقاف المصرية، أن الإلحاد “يعد قضية أمن قومي. فالملحدون ليس لديهم مبادئ؛ من المؤكد أنهم يعتنقون مفاهيم معطوبة – في الأخلاق، والآراء بشأن المجتمع، وحتى انتماءاتهم القومية. إذا تمرد الملحدون على الدين، فإنهم سيتمردون على كل شيء”.
وسعت السعودية والإمارات إلى تجربة بدائل لتيارات الإسلام المحافظة المتطرفة والتقليدية دون التخلي عن سيطرة الدولة عبر تشجيع الأزهر لتبني إصلاحات تشريعية متأثرة بالصوفية. وقال وائل فاروق، وهو عالم إسلامي مصري، إن “هناك حركة تجديد للفقه الإسلامي. […] وهي حركة تمولها دول الخليج الثرية. لا تنسى أن أحد أسباب نجاح السلفية هي القوة المالية، التي دعمتهم على مدار عقود. وتتوجه هذه القوة المالية حالياً صوب الأزهر، وهم يستغلون هذا. […] لا تقلل من شأن ما يحدث، فربما يكون بديلاً حقيقياً للسلفية”.
على النقيض من ذلك، فقد قامت باكستان، وهي دولة متأثرة بالمعتقدات المحافظة المتطرفة المستلهمة من السعودية، بتكثيف جهودها لمحاصرة الأقليات الدينية في البلاد.
في عمل متجاوز على غرار التصميم الأمريكي على بسط نطاق تفعيل بعض قوانينها إلى خارج حدود البلاد، تحدت باكستان تعريف الحرية الدينية عبر سعيها إلى حجب وإغلاق موقع، مرتبط بالأحمديين ومتركز في الولايات المتحدة، لاتهامه بالكفر.
والأحمدية هي أقلية طائفية، يعتبرهم العديد من المسلمين مهرطقين، ويتعرضون للاستهداف في إندونيسيا وغيرها من الأماكن، وخاصة في باكستان، حيث صُنفوا دستورياً بأنهم غير مسلمين. وعقوبة الكفر في باكستان هي الإعدام.
وانطلقت الجهود الباكستانية في وقت تصاعدت فيه المشاعر المعادية للأحمدية والشيعية في باكستان، أكبر موطن للأقلية الشيعية في العالم. واتهمت تظاهرات حاشدة الشيعة بأنهم “كفرة” وطالبت بقطع رؤوسهم في الوقت الذي تزايد فيه عدد القضايا المرفوعة ضد الشيعة بتهمة الكفر.
ويثير تغيّر التوجهات بشأن الدين والتدين تساؤلات حول معضلة “البيضة والدجاجة”، في إشارة إلى العلاقة بين الإصلاح السياسي والديني، بما في ذلك السؤال عن أيهما يأتي أولاً وما إذا كان تحقيق جانب منهما ممكناً دون الأخر. وتجادل جمعية نهضة العلماء في إندونيسيا بأن الإصلاح الديني يتطلب إعادة تصور وصياغة الإيمان بالإضافة إلى مراجعة القوانين الشرعية والفقه الديني.
كونها المؤسسة الإسلامية الوحيدة التي تبادر بجهود لحذف المفاهيم التشريعية البائدة والتمييزية في القانون الإسلامي – مثل إقرار العبودية ومفاهيم الكفار وأهل الذمة أو أهل الكتاب ذوي الحقوق الأقل – فإن جمعية نهضة العلماء، وهي حركة نشأت منذ قرن تقريباً لمواجهة الحركة الوهابية، التي تطرح تفسيرات متزمتة للإسلام وتأسست السعودية بناءً عليها، تتوافق مع دعاة الإصلاح الديني في أماكن أخرى بالعالم الإسلامي.
وقال سعيد محمد شحرور، وهو قرآني سوري يؤمن بالقرآن كمصدر وحيد للإسلام ويرفض الحديث – مجموعة أحاديث الرسول، والسنة، والتقاليد، وممارسات الرسول التي تقدم نموذجاً يحتذي به المسلمون: “يجب قراءة التراث الديني بشكل نقدي وتفسيره من جديد. إن الإصلاح الديني والثقافي أهم من الإصلاح السياسي ذلك لأنه شرطٌ مسبق لأي إصلاح علماني”. ومضى شحرور قائلاً بأن الإصلاحات، المماثلة للإصلاحات التي طرحها القس والعالم الديني مارتن لوثر في القرن السادس عشر بشأن المسيحية، “يجب أن تشمل كلّ الأفكار التي بنى منفذو هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 تفسيراتهم عليها. […] يجب، ببساطة، أن نعيد التفكير في المبادئ الأساسية. يقال إن […] القيم الدينية الثابتة لا يمكن إعادة التفكير فيها. لكنني أقول إن هذه القيم تحديداً هي ما يجب دراسته وإعادة التفكير فيه.
توفر أفكار الكتلة الحرجة لجمعية نهضة العلماء، المكونة من رجال وعلماء الإسلاميين مثل شحرور، القليل من العزاء للحكام المستبدين وحلفائهم الدينيين في العالم الإسلامي، في وقت تتعالى فيه أصوات المسلمين للمطالبة ليس فقط بالإصلاح السياسي، بل الإصلاح الديني أيضاً. وإذا ما كان هذا هو الحال، فإنه يسلط الضوء على هؤلاء العلماء عبر تقديم بديل، يأتي من قادة المجتمع، للدين الذي تسيطر عليه الدولة، والذي يسعى إلى ضمان بقاء الأنظمة الاستبدادية والحفاظ على مصالحها المكتسبة.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://mideastsoccer.blogspot.com/ في 30 مارس 2020