وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الرئيس السوداني، الذي يشغل منصبه منذ فترةٍ طويلة، يتعرض لضغوطات في أعقاب أسابيع من الاحتجاجات

Sudan- sudan demos
متظاهرون سودانيون يرددون هتافات خلال مظاهرة مناهضة للحكومة في الخرطوم في 6 يناير 2019. Photo AFP

تتواصل سلسلة المظاهرات الاحتجاجية في السودان في شهر يناير 2019، معرضة حكومة الفريق عمر البشير ومناصريه من الاسلاميين في السودان لأقسى اختبار وأكثر التحديات جدية منذ استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989.

تمكنت حكومة الخرطوم في السابق من تجاوز العديد من مظاهرات الاحتجاج، كان اوسعها نطاقاً وضراوةً في سبتمبر 2013 حيث قتلت قوات الامن 170 متظاهراً لإخمادها، وفقاً لمنظمة العفو الدولية. لكن سلسلة التظاهرات التي بدأت في 19 ديسمبر 2018 وعمت مدن السودان اختلفت عن سابقاتها بملامح كثيرة. أولها وأهمها، انها استجابة فورية ومباشرة لتدهورٍ اقتصادي مريع غير مسبوق تمثل في شح الخبز ووقود السيارات وإجبار الناس على الإنتظار بالساعات في صفوفٍ طويلة امام المخابز ومحطات الوقود للحصول عليها.

كما صبت الحكومة الزيت على النار بسياسة تجفيف النقود التي تتبعها منذ أشهرٍ والتي تقضي بعدم تمكين المواطنين من صرف مبلغ يتجاوز خمسمائة جنيه سوداني يومياً (اقل من عشرة دولارات) من حساباتهم المصرفية والات سحب النقود. فقد تبنت الحكومة هذه السياسة للحد من الطلب على العملات الاجنبية عقب تخفيضها قيمة الجنيه السوداني بنسبة 53% من 29 جنيها للدولار الامريكي الواحد إلى 47,5 جنيهاً في 7 اكتوبر الماضي. وفي الوقت نفسه، تجاوزت أسعار السوق الموازية (لقب السوق السوداء) 60 جنيهاً سودانياً. فقد ترتب على انخفاض سعر العملة إرتفاعٌ جنوني بأسعار السلع، علاوةً على ندرة السيولة النقدية، مما تسبب بحالة غير مسبوقة من السخط الشعبي وانهيار الثقة في النظام المصرفي.

تراجع الدعم الشعبي

SUDAN Protests map AR 3000
المصدر: Wikipedia, Africanews.com. إضغط للتكبير. @Fanack.com ©Fanack CC BY 4.0

تميزت مظاهرات ديسمبر/ يناير بأنها انطلقت من مدينة عطبرة شمالي السودان، المركز التاريخي للحركة العمالية السودانية، يوم 19 ديسمبر والتي احرق فيها مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم وقتل اربعة متظاهرون. تبع ذلك احتجاجاتٌ في مدينة القضارف شرق السودان، أهم مناطق الزراعة الآلية للحبوب الغذائية والزيتية، وانتشرت في مدن وعواصم المحافظات، حيث لا تنشط الجماعات والاحزاب المعارضة كثيراً، قبل أن تصل الخرطوم يوم 25 ديسمبر 2018. ثم في 31 ديسمبر و3 و6 يناير حيث اندلعت مظاهرات صاخبة سقط فيها عدد من القتلى وعشرات الجرحى والمعتقلين.

ومن اللافت أن الاحتجاجات الرئيسية ضد الحكومة قد انطلقت شرارتها من مدن عطبرة والدامر وكريمة في اقصى شمال السودان، وهي المنطقة التي كان يعتبرها مؤيدوا الحكومة وكثير من معارضيها، حاضنة عرقية وقبلية وثقافية للنظام الحاكم لأنها المنطقة التي ينحدر منها الرئيس البشير ونائبة الاول بكري صالح ومعظم رؤساء السودان منذ استقلاله عام 1956. تؤشر هذه الوقائع إلى أن شرعية وشعبية حكومة الفريق البشير قد تآكلت إلى حد قد يصعب ترقيعه.

Sudan- Omar al-bashir
الرئيس السوداني عمر البشير يتحدث خلال تجمع لمؤيديه في الساحة الخضراء في الخرطوم يوم 9 يناير 2019. Photo AFP

إن أكثر ما أقلق الحكومة في مظاهرات الاسابيع الثلاثة الماضية هو أن هتافات ودعوات المتظاهرين تجاوزت المطالب المتعلقة بالضائقة المعيشية وسرعان ما بدأت تطالب بإسقاط النظام وخلع الرئيس البشير. وظهرت قيادة سياسية وحركية نشطة متمثلة ليس في احزاب المعارضة فقط، بل في تجمع المهنيين السودانيين وهو تنظيم سري يضم معارضين من قطاعات الاطباء والمحامين والمهندسين واساتذة الجامعات وموظفي البنوك. وما يثير حفيظة السلطة هو ان هذه التجمعات المهنية كانت رأس الرمح في تجربتي في اسقاط الحكومات العسكرية في السودان في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

لكن الضربة الاكثر ايلاماً جاءت من داخل صفوف الائتلاف الحاكم الذي فوجىء بإعلان 22 حزباً سياسياً موالياً للحكومة وممثلة فيها على مستويات مختلفة، خروجها من مؤسسات الحكم ودعمها لمطالب تنحي الرئيس البشير. يقود هذا التيار سياسيان محنكان هما مبارك المهدي، ابن عم زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وأكبر احزاب المعارضة، وغازي صلاح الدين المنشق عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم وأمينه السياسي سابقاً، وكان كلاهما وزيران سابقان في حكومات البشير. وكذلك فعل الامين العام الاسبق لحزب المؤتمر الوطني الحاكم الشفيع احمد الذي وجه رسالة لأعضاء حزبه طالب فيها بضرورة تنحية الرئيس البشير وتشكيل حكومة انتقالية يرأسها نائب الرئيس تضمن انتقالاً سلمياً للسلطة.

إن انسحاب هذه المجموعة يصيب وثيقة الحوار الوطني الذي اقر عام 2015 في مقتل، وتنزع عن الحكومة آخر مصادر الشرعية السياسية، وتترك المؤتمر الوطني الذي يتزعمه الرئيس البشير مع حفنة الحلفاء ولا وجود لهم خارج مؤسسات الحكومة.

مواجهة دموية

في مواجهة هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات، بادرت الحكومة بالرد العنيف على المتظاهرين عند منشأها في مدن المحافظات. وقد شوهدت في شوارع الخرطوم لأول مرة مئات السيارات رباعية الدفع المسلحة بمدافع الدوشكا المضادة للطائرات التي اطلق منها النار في الهواء في العديد من المواقع، حسب فيديوهات في وسائل التواصل الاجتماعي، في استعراض سافر للقوة ربما هدف لتخويف المتظاهرين. وعلاوةً على ذلك، استخدمت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات، واتهم قادة المتظاهرين عناصر تابعة لجهاز الامن والمخابرات في ملابس مدنية وسيارات بلا لوحات بإطلاق النار عليهم.

اعلن وزير الاعلام في الحكومة السودان يوم 27 ديسمبر أن 19 مواطناً قد قتلوا في التظاهرات، وأن المتظاهرين تعمدوا حرق عدد من دور الحزب الحاكم وخربوا المرافق العامة. وعُلم فيما بعد أن اثنان من القتلى جنود في الجيش كانوا يتظاهرون مع المواطنين بملابس مدنية في مدينة عطبرة شمال السودان. وكانت منظمة العفو الدولية قد اعلنت قبلها بيومين أن عدد القتلى قد بلغ 27 شخصاً اضافةً لمئات الجرحى والمعتقلين، واتهمت السطات السودانية باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين وطالبتها بإجراء تحقيق مستقل في حوادث قتل للمتظاهرين السلميين. كما اصدر الامين العام للأمم المتحدة بياناً مماثلاً يدعو فيه للتحقيق في حودث القتل وتمكين المتظاهرين من التعبير عن مظالمهم سلمياً.

حرب وسائل التواصل الاجتماعي

منذ اليوم الاول للتظاهرات حجبت شركات الاتصالات، بطلبٍ من الحكومة، جميع مواقع التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك وتويتر وواتساب، التي استخدمت للتعبئة للتظاهرات على نطاق واسع.

غير ان غالبية شباب المدن تمكنوا من تجاوز الحجب باستخدام برامج الشبكات الخاصة الافتراضية VPN للوصول لشبكة الانترنت. فقد أنهت هذه الوسيلة فعلياً احتكار الحكومة لنشر الاخبار واتاحت موارد فيديو، وتسجيلاتٍ صوتية وصورٍ هائلة حية ومسجلة للمهتمين ولأجهزة الاعلام الخارجية.

وسارعت الحكومة إلى إغلاق المدارس والجامعات التي لعبت دوراً مهماً في التظاهرات في جميع انحاء البلاد بعد الاسبوع الاول من المظاهرات معللة بأن هذا الاجراء يسهدف إلى حماية الطلاب من عنف المظاهرات. وعقد الرئيس البشير سلسلة من اللقاءات مع مؤيديه في مدينة مدني وسط السودان والعاصمة الخرطوم، حاول فيها اظهار تماسك حكومته ووعد بحل قريب للازمات الاقتصادية والضائقة المعيشية واصلاح اقتصادي شامل- بالرغم من ثلاثة عقودٍ قضاها في الحكم لإجراء مثل هذه الإصلاحات، وقال أن بلاده محاصرة دولياً بسبب تمسكها بالشريعة الاسلامية التي لن يتخلى عنها ابداً.

نبرة تصالحية

بدأ الخطاب الحكومي تجاه التظاهرات بلهجة متزنة خلال الايام الاولى للتظاهرات، حيث أكد رئيس الوزراء معتز موسى ان الحكومة تعترف بالضائقة المعيشية التي تواجهها البلاد وتتفهم سخط المتظاهرين لكنها لا تقبل بتخريب الممتلكات العامة. لكن هذه النبرة سرعان ما تغيرت بتوسع الاحتجاجات وعادت الحكومة للهجتها المألوفة واتهمت حركة تحرير دارفور التي يقودها عبد الواحد نور بتنظيم المظاهرات واعمال التخريب بدعم من الموساد الاسرائيلي. واعلن مدير جهاز الامن والمخابرات الجنرال صلاح غوش بأنه تم القبض على مجموعتين من طلاب دارفور وعرضوا في التلفزيون الحكومي وهم يعترفون بمشاركتهم في التظاهرات والتحريض عليها، الامر الذي لا يجرمه القانون، وهم جماعة من الطلاب يعرفهم زملائهم في الجامعات ولم يسبق لهم ان غادروا السودان لتلقي التدريبات على يد الموساد كما صرح مدير جهاز الامن في السودان.

وبدخول المظاهرات لأسبوعها الثالث، استلت الحكومة ورقتها البالية باتهام الحزب الشيوعي السوداني الصغير بتنظيم كل تلك التظاهرات في مختلف انحاء البلاد، في محاولة لتخويف الاسلاميين الذين بدأ بعضهم يظهر ميلاً للتغيير، حسب اقوال في وسائل التوصل الاجتماعي، والتي ذكرت ايضاً إلى ان هناك صراعاً خفياً يدور بين بعض الاسلاميين والرئيس البشير. واصبحت الاتهامات لعبد الواحد نور والموساد والشيوعيين مثار تندر واسع بين السودانيين.

عزلة اقليمية

على الصعيد الاقليمي العربي انفردت قطر بإعلان دعمها لحكومة السودان باتصال هاتفي من الامير تميم مع الرئيس البشير، بينما أوفدت مصر وزير خارجيتها ورئيس مخابراتها للخرطوم في 27 ديسمبر لبحث العلاقات الثنائية كما قالت يومية الاهرام الرسمية دون الاشارة للاضطرابات التي يشهدها السودان.

Sudan Economy Crisis AR 1024 1
المصدر: World Bank Data, UNSD, Demographic Yearbook 2016, IMF, exchangerate.com. إضغط للتكبير. @Fanack.com ©Fanack CC BY 4.0

ولم تبدِ السعودية والامارات، التي يحارب معهما الجيش السوداني في اليمن، اهتماماً رسمياً بما يدور في السودان غير أن القنوات الفضائية التابعة لها، والتي تحظى بمشاهدة عالية في السودان، مثل قناة العربية والعربية الحدث وسكاي نيوز عربي، غطت التظاهرات باهتمامٍ وتعاطف واضح مع المتظاهرين، كما اتضح فيمن استضافتهم للتعليق على الاحداث والوقت المخصص لها اصلاً.

خلاصة القول أن الرئيس البشير سيخرج من هذه الازمة – إذا تيسر له ذلك – مهيض الجناح ومكسور الخاطر وبحلفاء اقل واخف وزناً. ومع ذلك، فإن الموجة التالية من الاحتجاجات قد لا تتأخر كثيراً لأن الحكومة لا تملك اصلاً حلاً ناجعاً للازمة الاقتصادية والضائقة المعيشية التي اخرجت الناس للشوارع واشعلت فتيل الاحتجاجات.