وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إسرائيل تخسر ذاتها وتخسر صورتها في العالم

تعثّر سمعة إسرائيل ليس بالأمر الجديد. فهذا التعثّر يأتي نتيجة لسياساتٍ طويلة الأمد تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

إسرائيل تخسر ذاتها
متظاهر تخفي وجهها بيافطة مناهضة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذلك أثناء مظاهرة تم تنظيمها في تل أبيب يوم 1 إبريل 2023 للاحتجاج على خطة الإصلاح القضائي التي تعتزم الحكومة تنفيذها. المصدر: JACK GUEZ / AFP.

ماجد كيالي

منذ إقامتها عام 1948، حرصت إسرائيل على ترويج فكرة عنها، باعتبارها تحتكر مكانة الضحية في الوجدان العالمي. وتقوم بذلك إسرائيل لإضفاء مشروعية أخلاقية مزعومة على قيامها. ويأتي حرص إسرائيل على التمتّع بتلك المكانة للتغطية على نقص مشروعيتها السياسية. فهذه الدولة تأسّست على أساس إحلال يهود مهاجرين/مستوطنين وتغييب أهل البلد الأصليين. وفوق كلّ ذلك، فإنها تقوم بذلك عبر ما تتمتع به وسائل القوّة والقسر ومن خلال ما تحظى به من دعم القوى الدولية.

إسرائيل حرصت أيضاً على الترويج لنفسها باعتبارها بمثابة واحة للحداثة والديمقراطية في “صحراء الشرق الأوسط”، وكامتداد للغرب في تلك المنطقة. كلّ ذلك يأتي من أجل تحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي وجلب التعاطف والدعم لها وجذب مزيد من المهاجرين اليهود إليها. وأدت هذه الصورة لأن تشهد إسرائيل في التسعينيات موجة هجرة يهودية إليها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانقسامه إلى دولٍ عدّة.

وفي الواقع، فقد حققت إسرائيل نجاحاً في كلّ ذلك. ولقد مكّنها ذلك من التغطية على المظالم التي نشأت عن قيامها بحقّ الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين. وتشمل تلك المظالم ما تقوم به إسرائيل من إجراءاتٍ عنصرية وقمعية تجاه الفلسطينيين. كما أن نجاح إسرائيل في سياستها تلك أضفى صبغة دفاعية على حروبها العدوانية والتوسعية في محيطها.

بيد أن الانتفاضة الشعبية الأولى كشفت إسرائيل على حقيقتها باعتبارها مجرد دولة استعمارية ـ استيطانية أخرى. فهذه الانتفاضة التي عرفت باسم “انتفاضة الحجارة” أظهرت إسرائيل كقوة تحاول فرض سيطرتها على شعبٍ آخر بوسائل القوة العسكرية الغاشمة. كما كان جلياً للعالم أن إسرائيل تحاول مصادرة حقوق هذا الشعب وحريته ومستقبله بواسطة القوانين والسياسات التمييزية/العنصرية.

تلك الانتفاضة العظيمة استطاعت كسر احتكار إسرائيل لمكانة الضحية في الرأي العام العالمي عبر ما تم من بذله من تضحياتٍ فيها. وهي المكانة التي كانت موضع جدال في السابق، نظراً لرؤية الغرب للمظالم التي ارتكبت بحق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وباعتبار إسرائيل مجرد دولة صغيرة ومعزولة في محيط عربي معاد لها.

وأسهم تهاوي تلك النظرة انحسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وانخراط الفلسطينيين في اتفاق أوسلو للتسوية، في الوقت الذي تملّصت منه إسرائيل. هذه الدولة واصلت الأنشطة الاستيطانية، وأصرت على تهويد القدس. كما أنها قامت بأعمال القتل واستخدمت القوة بشكلٍ مفرط لكبح نضالات الفلسطينيين الرامية لتحقيق الحرية والاستقلال.

أيضا ثمة عوامل مهمة ساعدت الفلسطينيين في هذا المجال. وأوّل هذه العوامل ثورة وسائل الإعلام والاتصالات والمعلوماتية، سيّما وأنها أتاحت للعالم مشاهدة ما تقوم به إسرائيل بحقّ الفلسطينيين. ويمكن العامل الثاني في صعود دور شبكات المجتمع المدني على الصعيد العالمي بفعل مسارات العولمة.

وباتت هذه الشبكات تلعب دورا كبيرا في الانتصار لقيم الحرية والعدالة والمساواة ومكافحة التمييز والعنصرية والظلم. أما العامل الثالث فيتمثل في التحولات في إسرائيل ذاتها. فهذه الدولة صعد فيها اليمين القومي والديني المتطرف. وأسهم ذلك في توضيح صورة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية.

ومع ذلك، فإن تأزّم الأوضاع الداخلية والخارجية لإسرائيل اليوم – لا سيما مع الولايات المتحدة – ليس جديد. إنما هو امتدادٌ للتحولات التي شهدتها إسرائيل وللسياسات التي انتهجتها منذ زمن. ويمكن اعتبار فترة حكم بنيامين نتنياهو بمثابة الفترة الأساسية التي باتت تظهر فيها إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وعدوانية.

كما أن حقبة نتنياهو شهدت تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية. وفي نفس السياق، فإن الطابع الديني لإسرائيل طغى على طابعها الليبرالي. وفي نفس الوقت، فقد خفّفت إسرائيل من حرصها المعهود على اعتبارها بمثابة امتداد للغرب في المنطقة، إلى الحد الذي نشهده فيها هذه الأيام.

نتنياهو تولى أول رئاسة الحكومة الإسرائيلية لأول مرّة بعد اغتيال اسحق رابين. وارتكز برنامجه الأساسي على تقويض اتفاق أوسلو، والنأي بإسرائيل عن مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. وكان هذا البرنامج من بنات أفكار شمعون بيريز وتبنته إدارة كلينتون لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإدماج إسرائيل في المنطقة.

في حقبته الثانية، رفض نتنياهو أية محاولة للتسهيل على الإدارة الأمريكية. وضمن ذلك وقف الأنشطة الاستيطانية، ورفض التسهيل على السلطة الفلسطينية. ومن جانب آخر، فقد بدأ في تلك الفترة بتعزيز مكانة التيارات الدينية المتطرفة. وكان ذلك عبر تمرير بعض القوانين التي تتضمن تقييد حريات الصحفيين والتضييق على أنشطة منظمات المجتمع المدني. كما أن القوانين التي تم سنّها عزّزت من الإكراه الديني في الحياة العامة وفي مجالي التعليم والجيش ومسّت حقوق المرأة. يضاف إلى ذلك القرارات التي تتضمن التمييز ضد العرب في السكن واللغة والآذان وتملّك الأراضي.

وفي هذه الحقبة، تم تشريع قانون ـ أساس في الكنيست يعتبر إسرائيل بمثابة “دولة قومية للشعب اليهودي”، على حساب تعريفها لذاتها كدولة يهودية ـ ديمقراطية (بالنسبة لمواطنيها اليهود). ويخرج هذا القانون فلسطينيي 48 من دائرة المواطنة، فضلاً عن أنه يؤكد طابع إسرائيل بوصفها دولة لليهود وحدهم وأن لهم حق تقرير المصير فيها.

على أية حال، يواجه نتنياهو معارضةً إسرائيليةً واسعة وحامية عبّرت عنها المظاهرات الحاشدة في المدن الإسرائيلية. هذه المعارضة ظهرت أيضاً في سياسات الدول الغربية لعزل نتنياهو والضغط عليه. وكلّ تلك الإجراءات تهدف للحؤول دون تغيير إسرائيل تماما إلى دولة يهودية ودينيّة تحكم فيها أغلبية يتم التحكم بها. ويزداد الأمر أهمية عندما نعلم أن إسرائيل دولة تفتقد إلى دستورٍ يحدّد الإجماعات الوطنية فيها وقواعد العلاقة بين الأفراد، وأيضا العلاقة بينهم وبين الدولة، ثم العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

أصداء ما يجري من تخبطاتٍ داخلية وخارجية تتداوله وسائل الإعلام الإسرائيلية باستمرار. وفي سياق الإشارة إلى التخبطات الخارجية، كتب الصحفي عاموس هرئيل على موقع هآرتس: “أراد نتنياهو أن يتم استقباله في دولتين مهمتين بالنسبة له، الولايات المتحدة والإمارات (والحفاظ على وهم التطبيع السريع وزيارة علنية أولى للسعودية). فعلياً، حدث العكس”.

أما الصحفية أورلي أزولاي، فكتبت على موقع يديعوت أحرونوت: “عندما يفقد رئيسٌ أمريكي الثقة برئيس وزراء إسرائيلي، فهذا لا يكون فقط إلغاءً لدعوةٍ إلى البيت الأبيض… نتنياهو عملياً عاقب إسرائيل، ليس فقط في تدهور الديمقراطية وإقرار قوانين مناسبة لنظام آية الله… بل تسبب لها بخسارة الصديق الأقوى والأكثر ولاءً، الولايات المتحدة”.

وفيما يتعلق بدلالات التحولات الحاصلة في إسرائيل، يرى الصحفي تسفي بارئيل أنها ستؤدي إلى “القضاء على العلاقة الكاذبة بين اليهودية والديمقراطية”، لافتاً إلى أن هذه التحولات ستقود إلى تشكيل “وحش إثني – فاشيّ”. ويضيف بارئيل في مقاله الذي نشره موقع هآرتس: “إسرائيل ستتحوّل إلى قيادة ميليشيات سياسية… دولةٌ ثنائية القومية، لقوميتين يهوديتين.”

الصحفي ناحوم برنياع اعتبر أنّ ما حصل بمثابة “انعطافة ذات آثار تاريخية” ستغير وجه إسرائيل وستكون بمثابة بداية النهاية للصهيونية الليبرالية والعلمانية الإسرائيلية.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء الكاتب الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.