الأستاذ الدكتور علي أصغر سيد غراب
شرّد فيروس كورونا الكثير من الأشخاص في جميع أنحاء العالم، مثله في ذلك مثل قاتل سفك دماء الآلاف من الناس، لكنه ألهم الناس أيضاً للإبداع في الفن والشعر وإبداء التعاطف مع كل من أصابه هذا الفيروس الخبيث. منذ أول انتشار لفيروس كورونا في إيران، استُخدمت مجموعة كبيرة من الأشعار في سياقات مختلفة لرفع معنويات الناس. فكُتبت القصائد الكلاسيكية والحديثة على المباني، ونُشرت في الصحف، وطُبعت على ملابس الممرضات تمنياً للتوفيق لهنّ. وكذلك استُخدم الشعر لتقدير شجاعة ومثابرة العاملين في الجبهة الأمامية في مكافحة الوباء، وأيضاً للتهكم على الملّا الذي اقترح فرك زيت البنفسج على الأرداف علاجاً للفيروس.
أبناء آدم بعضهم من بعض
استُخدمت قصيدة للشاعر البارز سعدي الشيرازي (1215-1290 تقريباً) خلال فترة فيروس كورونا هذه للتعبير عن الحاجة إلى التضامن والتعاطف، بغض النظر عن خلفياتنا العرقية والدينية والثقافية:
بنیآدم اعضای یکدیگرند
که در آفرينش ز یک گوهرند
چو عضوى به درد آورد روزگار
دگر عضوها را نماند قرار
تو کز محنت دیگران بیغمی
نشاید که نامت نهند آدمی
ببنو آدم بعضهم من بعض
في أصلهم خلقوا من جوهر واحد.
إن أصاب الدهر أحد الأعضاء بألم
استجابت له باقي الأعضاء بالاضطراب.
إن كنت لا تبالي بمحن الآخرين
فأنت لا تستحق أن تسمى آدمي.
جاءت هذه الأبيات في نهاية الحكاية العاشرة من الفصل الأول في رائعته “گلستان” أو روضة الورد. هنا، يروي سعدي كيف كان يصلي في الجامع الأموي بدمشق “المسجد الكبير” عند قبر يحيى عليه السلام عندما وصل ملكٌ مستبد بشكل غير متوقع للزيارة وطلب من سعدي أن يدعو له. وكان يرى في سعدي صوفياً ورعاً، وخليلاً لله مستجاب الدعاء. يقول الملك لسعدي إن الدعاء لحمايته من عدو صعب المراس.
يتجنب سعدي الدعاء ويقول له (ص. 43 في ترجمة محمد الفراتي): “ارحم ضعف رعيتك حتى لا ترى صعوبة من قوة عدوك” ثم نصح الملك أن ينصف شعبه، وذكر الأبيات السابقة.
استُخدمت القصيدة في الأغاني مرات عديدة. وآخر تحويل موسيقي لها كان خلال فترة فيروس كورونا كنتيجة لتعاون رائع بين العديد من الفنانين في أنحاء العالم بما في ذلك مسرح بيوندو بالِرمو، والمغني الإيراني علي رضا غُرباني، وبجمان تدین.
سعدي في الدبلوماسية
كان سعدي من أوائل الحكماء الفارسيين الذين تُرجمت أعمالهم إلى اللغات الأوروبية. ظهرت الترجمة الأولى في القرن السابع عشر. كان شاعراً مفضلاً لدى عصر التنوير، إذ أشادت به وأحبته شخصيات مثل فولتير (1694-1778) والفيلسوف المتعالي رالف والدو إمرسون (1803-1883). كتب فولتير روايته “صادق” كما لو كانت ترجمةً للسعدي. لكن التطبيقات العديدة لهذه القصيدة على وجه الخصوص في العصر الحديث هي موضوع دراسة منفصلة. لذلك سأقدّم هنا بعض الأمثلة فقط.
اسم سعدي وشعره دخل كذلك عالم الدبلوماسية. فقد استشهد جيمي كارتر، رئيس الولايات المتحدة بين عامي 1977 و1981، بهذه القصيدة أثناء عشاء تناوله عام 1978 مع محمد رضا شاه (1919-1980) لتذكيره بحقوق الإنسان مع الإشادة أيضاً بالشاه لقيادته لأنها خلقت “جزيرة استقرار في إحدى المناطق الأكثر اضطراباً في العالم”. وبعد هذا العشاء بوقت قصير، اندلعت الثورة الإيرانية عام 1979 وهرب الشاه من البلاد.
كذلك استشهد باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة بين عامي 2009 و2017، بالقصيدة في خطابه الافتتاحي في أمنيته للسنة الجديدة في عيد النوروز الفارسي في 20 مارس 2009. والتزاماً منه بالدبلوماسية، نحّى التهديدات والترهيب جانباً وذكر الحضارة الإيرانية عدة مرات مؤكداً رغبته في تجديد التبادلات المستقبلية بين الشعبين على أساس الكرامة والاحترام المتبادل. من خلال الاستشهاد بقصيدة السعدي، مدّ أوباما يده ليظهر للإيرانيين كيف نظر الحكيم الفارسي العظيم في القرن الثالث عشر إلى الإنسانية كجسد واحد.
كان اختيار هذه القصيدة في مثل هذا الخطاب موفقاً، إذ يعتقد كثيرٌ من الإيرانيين اليوم أن القصيدة منقوشة على مدخل مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. وبحسب محمد جواد ظريف، مندوب إيران الدائم السابق لدى الأمم المتحدة ووزير الخارجية الحالي، فإن هذا غير صحيح. وقد أرسل ظريف سجادة فارسية مساحتها خمسة أمتار مربعة إلى الأمم المتحدة منسوجة عليها قصيدة سعدي بخيط ذهبي خارج الزخرفة المركزية. وقد عُلّقت هذه السجادة في غرفة الاجتماعات. ولا شك أن قصة نقش القصيدة في مدخل المبنى ترجع إلى التشابه بين رسالة القصيدة المتمثلة في التعاطف العالمي والمثل العليا للأمم المتحدة. (انظر ifpnews.com/zarif-narrates-story-iranian-carpet-hung-uns-wall).
القصيدة وفيروس كورونا
تتكرر القصيدة في سياقات مختلفة خلال فترة الكورونا. إذ استشهد رئيس الوزراء الإسباني بدرو سانشيز بالقصيدة باللغة الإسبانية داعياً الناس إلى التضامن مع بعضهم البعض.
ذُكرت القصيدة مرة أخرى على الشحنة التي “حملت مجموعة من عبوات اختبار تبرعت بها السفارة الصينية في إيران والشركات الصينية المحلية لإيران”، والتي نشرتها صحيفة “تشاينا ديلي” لإظهار التضامن بين إيران والصين.
كذلك استشهد وزير الخارجية ظريف بالقصيدة في تغريدة على تويتر رفضاً لاتهامات الإدارة الأمريكية للصين، وانتقد تسييس الأزمة الصحية. (french.presstv.com/Detail/2020/02/04/617846/Iran-China-coronavirus). وقد نشر على تويتر قصيدة صينية قديمة للتعبير عن تعاطفه والتأكيد على تضامنه مع الشعب الصيني. واستشهد الرئيس الإيراني حسن روحاني بالقصيدة في رسالةٍ طويلة إلى الشعب الأمريكي في 20 مارس 2020، التمس فيها تعاطف الشعب الأمريكي وانتقد إدارة ترامب على العقوبات الشديدة المفروضة على إيران:
“إنّكم، مثل الآخرين في العالم، تواجهون هذا الوباء المدمر وتعانون من مرارة القلق على مستقبلكم ومستقبل أحبائكم. لن تكون المحيطات التي تطوّق القارة دفاعاً مناسباً هذه المرة. إننا نعلم أن الحرب على هذا الفيروس لا يمكن أن تنجح إلا إذا تمكنت جميع الدول من الانتصار فيها معاً دون أن تتجاهل أي دولة متأثرة. هذا هو الوجه الآخر لعملة العولمة، إنها إشارة إلى أن السعادة والمحنة كلاهما مُعولم. وكما قال شاعرنا الوطني سعدي منذ قرون: “بنو آدم بعضهم من بعض” فالطرف الواحد يصيب الجسم كله بالمرض. ومن ثمّ، لا حدود ولا جدار يمكنه أن يحمي أي دولة من ضرر هذا الفيروس أو أي فيروس آخر”. (https://iranprimer.usip.org/blog/2020/mar/23/rouhani-calls-americans-help-us-sanctions).
أحد أسباب الاستشهاد بهذه القصيدة في فترة الوباء يرجع في الواقع إلى الصفات العاطفية والرحيمة للقصيدة التي تكسر كل الحدود والحواجز وتركز على حقيقة واحدة وهي الإنسان. يشير آرشين أديب مقدم إلى هذه القصيدة في مدونته الرائعة الأخيرة التي أكّد فيها على أن “فيروس كورونا يتعلق في كل شيء بالتواصل البشري”. (https://theconversation.com/bani-adam-the-13th-century-persian-poem-that-shows-why-humanity-needs-a-global-response-to-coronavirus-134836).
موقع القصيدة عند ضريح يحيى عليه السلام
مكان قصيدة سعدي الأصلي مهم، فهو كان يصلي عند قبر يحيى عندما وصل ملك عربي ظالم وطلب منه أن يدعو له. نصح الشاعر الملك بتجنب العنف ومعاملة الناس جميعاً بالعدل والإنصاف. مكان الحكاية في المسجد الجامع عند قبر يحيى يُعتبر تحدياً للحدود الدينية. إذ أن يحيى نبي في الإسلام، لكنه شخصية رئيسية في العقيدة المسيحية. أما سعدي فلم يدعو للحاكم الظالم، بل دعاه إلى حماية نفسه بالتعامل بالعدل. ويصوّر سعدي نفسه في هذه الحكاية درويشاً. والدراويش يمنحون البركات للناس بمن فيهم الحكام الذين يزورون عادةً أولئك المرشدين الروحيين لينالوا بركتهم. وهنا، يدين سعدي العداء بكل صراحة. يقف سعدي بصفته صوفياً في خلاف حاد مع الفقهاء، خبراء القوانين أولئك الذين لا يُعتبرون بالضرورة أخلّاء الله. هدف الصوفيين الوحيد هو محبة الله وأن يكونوا مع الله. إنهم لا يعبدون الله طمعاً في ثواب أو خوفاً من عذاب، ولا رجاءً في جنات النعيم، أو خشيةً من نار جهنم.
قصيدة سعدي تؤكد على ترابط البشرية كأطراف الجسد الواحد. والاعتمادية المتبادلة بين البشر كبيرة جداً حتى إنه لو تألّم أحد الأطراف الصغيرة، فإن الأطراف الأخرى تضطرب لألمها. رسالة القصيدة عالمية وتدعونا بلطف إلى التأمل في الإنسانية. باستخدام أطراف الجسد مجازاً للترابط بين الإنسانية، يخلق الشاعر رسالة قوية لاحترام وتقدير الإنسانية جمعاء بغض النظر عن الخلفيات الدينية والعرقية. يبني الشاعر طبقة انفعالية عالمية من خلال استعارة الجسد للإنسانية.
خاتمة
يدين سعدي القسوة والظلم ويدعو القارئ إلى التصرف بعدالة وإنصاف. رسالة الشاعر واضحة، فأولئك الذين يؤذون الناس يعجزون عن التأمل، ومن ثمّ يفتقرون إلى التعاطف، لذلك لا يمكن وصفهم بالآدميين.
أظهر لنا فيروس كورونا مدى ارتباط البشرية الوثيق. إذ سيكون للفيروس الموجود في أقصى زاوية من العالم تأثيراتٌ على أجزاء أخرى من العالم، مما يؤدي إلى قتل الناس وتشتت المجتمعات. الحلّ هو علاج الطرف، والتعامل بإنصاف، وإظهار التعاطف للجميع. وفي الوقت الذي تستخدم فيه القصيدة صورة الجسد كاستعارة، فإن فيروس كورونا أظهر أننا جسد واحد بالمعنى الحرفي والمادي. هذا بالتأكيد أحد أسباب قيام رئيس الوزراء الإسباني بدرو سانشيز بإدراج القصيدة في خطابه أمام الشعب الإسباني.
لقد استشهدت بالقصيدة السفارة الصينية في طهران، والرئيس الإيراني روحاني، ووزير الخارجية ظريف لجذب تعاطف القراء. في رسالتي روحاني وظريف، استُخدمت القصيدة لانتقاد الحكومة الأمريكية. لأولئك الذين يعرفون الحكاية المذكورة في روضة الورد، يوجّه ظريف وروحاني اللوم إلى إدارة ترامب بالظلم، تماماً كما أنكر سعدي على الملك العربي الظالم. التصرف بعدل على أساس التعاطف شرطٌ أساسي لكون المرء إنساناً. والإدارة الأمريكية تفتقر في رأيهما إلى هذه الإنسانية.
هذه القصائد والعديد من القصائد الفارسية الكلاسيكية الأخرى تُستخدم أيضاً في الشؤون الداخلية والحياة اليومية في إيران، لكن هذه قصة أخرى ودراسة أكبر كثيراً. وتتوافق هذه القصيدة الصغيرة من شيراز في القرن الثالث عشر تمامًا مع اهتماماتنا وقلقنا ورغباتنا في عصر العولمة، ما يوضح مدى خلود هذه الحكمة. في كتابه “أريج البستان”، يروي سعدي عن مجاعة جعلت الناس هزيلين ضعفاء كالهلال. وكان لرجل ثري اسمه ابن عبد العزيز خاتم مرصع بحجر كريم. عندما رأى هذا الرجل الناس في مصيبة، باع الخاتم وأعطى المال للفقراء وهو يتساءل:
چو بیند کسی زهر در کام خلق
کیش بگذرد آب نوشین به حلق
حين يرى إنسان السمّ في حلوق الخلق،
كيف يمرّ الماء حلواً في حلقه؟
(أريج البستان، ترجمة د. أمين بدوي، ص. 51.)
الناس يحذرونه من أنه لن يأتي في يديه مرة أخرى خاتم كهذا، لكنه يقول إن على المرء أن يختار راحة الناس “آسايش” وسعادتهم على الزينة “آرايش”. من خلال القافية الداخلية وأشكالها المتوازية، تشير الكلمتان كلتاهما إلى الأخرى وتؤكد على اعتماديتهما المتبادلة. ورغم أنهما يتشابهان في الكتابة، فإن كلتيهما نقيضة الأخرى. فكلمة “آسايش” تشير إلى راحة الناس الجسمانية والنفسية، بينما تشير كلمة “آرايش” إلى المظهر الخارجي. وهنا، يؤكد الشاعر على أنه لا قيمة للزينة الخارجية من دون راحة داخلية:
مرا شاید انگشتری بی نگین
نشاید دل خلقی اندوهگین
خنک آن که آسایش مرد و زن
گزیند بر آرایش خویشتن
نکردند رغبت هنرپروران
به شادی خویش از غم دیگران
يليق أن يكون لي خاتم بلا فص،
ولا يليق أن تكون قلوب خلق حزينة.
فهنيئاً لمن يؤثر راحة الرجال والنساء على تزيين نفسه.
لم يرغب الفضلاء في سرور أنفسهم، بغم الآخرين.
(المرجع السابق.)
للتعرف على أعمال ودراسات وترجمات سعدي، يرجى الاطلاع على التالي:
- Davis, R., “Saʿdi,” in Encyclopaedia of Islam, Second Edition, Vol. VIII, pp. 719-23.
- Katouzian, H., Saʿdi in Love: The Lyrical Verses of Persia’s Master Poet, London: I.B. Tauris, 2016.
- Lewis, F., “Golestān-e Saʿdi,” in Encyclopaedia Iranica, XI/1, pp. 79-86, available online at https://www.iranicaonline.org/articles/golestan-e-sadi
- الأعمال الأدبية والتدوينات الموصى بها حول فيروس كورونا وإيران:, trans. By G.M. Wickens, Leiden: Brill, 1974, pp. 32-33.
- Rehatsek, E., The Gulistan, Being the Rose-Garden of Shaikh Saʾdi, Benares, 1888 (Reprinted N.Y., 1966; New Humanity Books, 1990).
- Saʿdi, Mosharref al-Din Mosleh, Bustān, ed. Gh. Yusofi, Tehran: Khārazmi, 1375/1996.
- Saʿdi, Mosharref al-Din Mosleh, Golestān, ed. G.H. Yusofi, Tehran: Khārazmi, 1373/1994.
- Saʿdi, Mosharref al-Din Mosleh, The Gulistan of Saʿdi: Bilingual English and Persian Edition with Vocabulary, W.M. Thackston, Bethesda, Maryland: Ibex Publishers, 2008.
- Saʿdi, Mosharref al-Din Mosleh, Kulliyāt, Tehran: Hermes, 1385/2006.
الأعمال الأدبية والتدوينات الموصى بها حول فيروس كورونا وإيران:
-
- Adib-Moghaddam, A. “Bani Adam: the 13th-century Persian poem that shows why humanity needs a global response to coronavirus,” at https://theconversation.com/ba…
- Jazi, Arash, “The Facial Crisis of Shiite Iran at https://religiousmatters.nl/the-facial-crisis-of-shiite-iran
- Shaowcross, W., The Shah’s Last Ride: The Story of the Exile, Misadventures and Death of the Emperor, London: Chatto & Windus, 1989, pp. 129-30.
- Tamimi Arab, Pooyan, “On Secularization and the Coronavirus in Iran” at https://religiousmatters.nl/on-secularization-and-the-coronavirus-in-iran
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://leidenmedievalistsblog.nl في مايو 29, 2020.