وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

القسوة الاجتماعية.. بين العرف والقانون!

صورة تم التقاطها يوم ١ يونيو ٢٠٠٣ لطفلين عراقيين يجلسان أثناء الغروب قي العراق
صورة تم التقاطها يوم ١ يونيو ٢٠٠٣ لطفلين عراقيين يجلسان أثناء الغروب على ضفة نهر دجلة وأمامهما القصر الرئاسي الخاص بالرئيس العراقي السابق صدام حسين. المصدر: TIMOTHY A. CLARY/ AFP.

غسان عقلة

في شرقنا المدجّج بالغرائب، تتراقص المنظمات الحقوقية والاجتماعية على حبلٍ يمتد بين يد الجلاد وعنق الضحية. تتجنّب السقوط على أرض واقعنا المر بعصا من الإحالات النفسية والقانونية. بالوناتٌ إعلامية تفرقعها لإحداث ضجيجٍ فارغ لا يردع ظالماً ولا ينصف مظلوماً. يغسل رجلٌ “عاره” بدماء شقيقته، فتدعو تلك المنظمات لوضع حدٍّ لقانون “جرائم الشرف”. يغتصب أبٌ طفولة ابنته لسنواتٍ، فتُلصق التهمة بـ “الكبت الجنسي”. يحرم زوجٌ طليقته من حقوقها وينتزع منها أولادها، فتحيلك إلى خللٍ في “قانون الأسرة“. إحالاتٌ ودعواتٌ وإداناتٌ بلا معنى تعكس بمجملها “التوازن” المقزز القائم بين “الجريمة والعقاب”، توازنٌ يشعرك أن العدالة تتواطأ مع القاتل وتطلع لسانها للقتيل! لتستمر الحكاية.. ولتتسع بركة الدم الآسنة أكثر..

ترمي أمٌّ عراقية طفليها في نهر دجلة ثأراً من طليقها، جريمةٌ مروّعة أنهت تأكيدات الشرطة سريعاً انقسام الشارع العربي حولها بين مصدّقٍ ومكذّبٍ. أُسقط في يد المنظمات الحقوقية ولاذت بالصمت. الجريمة هذه المرّة صادمة وتصعب إحالتها إلى خللٍ قانوني أو مرضٍ نفسيّ. ولم تكد أيامٌ قليلة تمضي، حتى نفخت حادثةٌ جديدة رماد النسيان عن جمر المأساة الملتهب. أمٌّ مصرية تدفعها خلافاتٌ مع زوجها للتوجه لبيت أهلها وترك رضيعها وحيداً في المنزل. ورغم علمها بسفر زوجها للعمل إلا أنها خلعت معطف أمومتها وعلّقته على مشجب الانتقام، تسعة أيامٍ كانت كفيلة بأن يقضي “طفلها” جوعاً.. لتتبادل لاحقاً مع “والده” الشتائم والتهم بالتسبب بمقتله! مقتله الذي أيقظ هذه المرّة سؤالاً عربياً مؤلماً: من أين لنا كل هذه القسوة؟!

لنرجع إلى البداية ونتوقف قليلاً عند “جرائم الشرف” علّنا نتلمّس إجابة، وللبحث فيها يلزمنا أولاً البحث في طبيعة المجتمع الذي أفرزها. ثم في النظم السياسية القاصرة عن منعها. وأخيراً يأتي البحث عن قانون العقوبات وحقيقة تكريسه لها.

المجتمع العربي بمجمله مجتمع عشائري للعرف فيه قيمةٌ تفوق قيمة القانون وقيمة الحقوق معاً، فوفقاً للعرف يستحق مثلاً قاتل أخته بدعوى الشرف الثناء والمديح لا القدح والذم، لأنه لو فعل العكس – أي لو غلّب قيمة حريتها وحقها بالحياة على قيمة العرف الاجتماعي القاسي القاضي بقتلها – لاستحق “وصمة عار” وحاز بصورةٍ تلقائيةٍ على لقب “أبو قرون”. ينطبق ذلك أيضاً على من يتعامل مع طليقته بإنصاف، حيث يصبح بعرف المجتمع ضعيفاً و”ناقص رجولة”، الحل هنا يقضي بأن يفطر قلب طليقته بأبنائها حتى يثبت رجولته ويتجنب أحكام المجتمع القاسية. ولأن الأمر يسير على هذا المنوال، ولأن “أهل مكة أدرى بشعابها”، فإنك تجد مختلف النظم السياسية القائمة على اختلاف طبقاتها وسلطاتها عاجزة – بقصد أو بدون – عن إحداث خرقٍ حقيقي في أعراف المجتمع من شأنه منع استمرار مثل هذه الظواهر، لأن فعلاً كهذا سينتهي بزعزعة استقرار المجتمعات والنظم السياسية على حدٍ سواء. وبالتالي نصل هنا للحقيقة الفجّة التي تفيد بأن هناك من غض النظر عن تشريع القوانين الاجتماعية الناظمة لظواهره السلبية من أعراف المجتمع ذاته! بمعنى أن العرف هو الذي أوجد ثم كرّس القانون المتوافق معه لا العكس. وبذلك تبدو مطالبات المنظمات المدنية بإصلاح وتشديد قوانين “جرائم الشرف” مطالبات جوفاء لا معنى لها، لأن الخلل الحقيقي يكمن ببساطة بمنظومة المجتمع القيمية، لا بالقانون وهو أحد نتائج ذلك الخلل.

ولأن منظومة المجتمع القيمية مختلّة، بل معطوبة، تتسع دائرة القسوة شيئاً فشيئاً لتموّه كل ما يدور من تفاعلاتٍ داخل المجتمع. حينها يختلط الشرع بالموروث بالقانون بالعيب بالحرام.. وتصبح القسوة عملة وطنية يتداولها أفراد المجتمع فيما بينهم بكل فخر، على ضوء ذلك لا غرابة بأن تسمى كل فتاةٍ تجاوزت العشرين عزباء “عانساً”. والمطالِبة بحقوقها “ناشزاً”. لا غرابة أن تساق فتاةٌ للزواج بابن عمّها لأنه الأحق بلحمها ودمها. وأن يُحاكم رافضٌ للزواج بابنة عمّه لأنه ترك لحمه يطأه الغريب! بل لا غرابة أن تسلّم أمٌّ ابنها للموت جوعاً، أو أن ترمي أخرى بطفليها إلى دجلة.. الشيء الوحيد الغريب أننا نحن الوافدون من قسوة التاريخ لم نسمع صراخ الطفلين وهما يرتطمان بقاع النهر: “المجتمع العربي عارٍ”. وسألنا ببرائة “إخوة يوسف”: “من أين لنا كل هذه القسوة؟”!

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles