وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حربٌ أوسع نطاقاً تلوح في الأفق في ظل الاشتباكات بين السودان وإثيوبيا على الحدود المتنازع عليها

 حدود السودان وإثيوبيا
صبي يملأ وعاء ماء في نهر عطبرة، المعروف أيضاً باسم النيل الأسود، الواقع في منطقة الفشقة الزراعية بولاية القضارف شرق السودان في 16 مارس 2021. ASHRAF SHAZLY / AFP

مات ناشد

يهدد النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا بإشعال صراعٍ أوسع نطاقاً يزعزع استقرار القرن الأفريقي. المنطقة المتنازع عليها هي الفشقة، وهي منطقة تبلغ مساحتها 1600 كيلومتر مربع من الأراضي الخصبة حيث يلتقي شمال غرب منطقة أمهرة الإثيوبية بولاية القضارف في شرق السودان.

يعود تاريخ الصراع إلى الحقبة الاستعمارية، ففي عام 1902، حاولت وثيقة تُعرف باسم المعاهدة الأنجلو-إثيوبية ترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان، حيث كانت الأخيرة تخضع آنذاك للسيطرة البريطانية.

استخلص كلا البلدين استنتاجاتهما الخاصة من الخريطة، حيث طالبت إثيوبيا بكامل المنطقة، بينما اعتبر السودان المنطقة جزءاً من ولاية القضارف.

وفي عام 2001، اتفقت أديس أبابا والخرطوم على حلٍ وسط من خلال إنشاء لجنة حدودية مشتركة لربط ودمج ولاية القضارف مع إقليم تيغراي في إثيوبيا. وبعد سبع سنوات، اعترفت أديس أبابا بالفشقة باعتبارها أراضٍ سودانية، مقابل ضماناتٍ لمزارعي أمهرة الإثيوبيين للاستمرار في العيش على الأرض.

آنذاك، كانت المنفعة متبادلة، حيث قدمت إثيوبيا لجميع المزارعين في الفشقة – بما في ذلك السودانيين – حوافز لبيع المحاصيل لهيئة التسويق. لكن الوضع الراهن انقلب بعد فترة وجيزة من انتخاب آبي أحمد – الزعيم الإثيوبي الجديد والحائز على جائزة نوبل – رئيساً للبلاد في عام 2018. فقد ضغط قادة الأمهرة المتشددون على آبي لإلغاء اتفاقية الحدود مع السودان، زاعمين أنه لم يتم استشارتهم قبل اتفاق عام 2008.

في ديسمبر 2020، نشر السودان قواتٍ عسكرية لتأمين الفشقة، وطرد الآلاف من مزارعي أمهرة من المنطقة. وبحلول ذلك الوقت، تورطت أديس أبابا في حرب وحشية في إقليم تيغراي. وعلى الرغم من مباغتته، أرسل آبي قوات حكومية للقتال إلى جانب ميليشيات الأمهرة ضد القوات السودانية.

حتى الآن، أعداد القتلى غير مؤكدة، ففي مارس الماضي، زعم الجيش السوداني مقتل العشرات من جنوده، بينما ألقى سكان سودانيون باللوم على المزارعين الإثيوبيين في ذبح العديد من المدنيين العزل. ولم تكشف إثيوبيا عن عدد ضحاياها، لكنها زعمت نزوح أكثر من 2000 شخص فيما تعتبره توغلاً سودانياً.

في السودان، يبدو أن اللواء عبد الفتاح البرهان – قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي – يستغل النزاع الحدودي لتعزيز وثائق تفويضه الوطنية. البرهان له هدفان: يريد صياغة مستقبل السودان وتقويض نفوذ النصف المدني من الحكومة الانتقالية. تخدم حرب الحدود مع إثيوبيا، التي حظيت بدعم شعبي في السودان، كلا الغرضين من خلال تعزيز شرعية الجيش.

ولكن يبدو أن تحرك السودان لتوطيد سيطرته على الفشقة هو أيضاً محاولة لكسب النفوذ في المفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، فمنذ الإطاحة بالديكتاتور السوداني السابق عمر البشير، انحازت الخرطوم إلى القاهرة بشأن نزاع النيل. ومنذ ذلك الحين، ضغط البلدان على إثيوبيا للدخول في اتفاق ملزم قانوناً بشأن سد النهضة.

يعد الاتفاق الملزم قانوناً ضرورياً لضمان تدفق كمية كافية من المياه في اتجاه مجرى النهر. وعلى نحوٍ مفهوم، تخشى القاهرة أنه إذا تم ملء السد بسرعة كبيرة، فسيؤدي ذلك إلى تقليل حصتها من المياه العذبة بشكل كبير، وبالتالي شل سبل عيش سكان الريف في مصر.

أما بالنسبة للسودان، فيمكن أن يوفر السد للبلاد كهرباء رخيصة الثمن، بيد أنه قد يهدد أيضاً إمدادات المياه الخاصة به. وفي فبراير الماضي، وصف وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس سد النهضة بأنه تهديدٌ للأمن القومي، بينما ردت إثيوبيا باتهام مصر والسودان بالاستفادة من الخلاف الداخلي في إقليم تيغراي من خلال السيطرة على الفشقة.

لربما يُجانب هذا شيئاً من الحقيقة، إلا أن دبلوماسيين أخبروا مجموعة الأزمات الدولية غير الهادفة للربح أن انتشار السودان الواسع في الفشقة يشير إلى أن الجيش خطط لهجوم واسع النطاق لفترةٍ طويلة. فبعد أسابيع فحسب من اندلاع الحرب في تيغراي، طهر السودان الأرض وأقام مواقع عسكرية تؤدي مباشرة إلى الفشقة، وذلك وفقاً لصور الأقمار الصناعية.

واليوم، بات آبي بين المطرقة والسندان، فهو يعتمد اعتماداً كبيراً على الدعم السياسي والعسكري للأمهرة، لا سيما في حملته العسكرية المستمرة في إقليم تيغراي، وبالتالي، يستلزم تأمين هذا الدعم تأييد مطالبات الأمهرة تجاه الفشقة، حتى وإن كان ذلك يعني زيادة الضغط على القوات الحكومية.

من ناحيةٍ أخرى، فإن استرضاء الناخبين المحليين – في إثيوبيا والسودان – يمكن أن يشعل حرباً طويلة الأمد. بيد أن مطالب آبي والبرهان المتطرفة لا تساهم في إيجاد أي حلول، إذ يصّر الأول على انسحاب جميع القوات السودانية من الفشقة قبل بدء المفاوضات، بينما يطالب الأخير بتنازلاتٍ من إثيوبيا في كل نزاع رئيسي، ويشمل ذلك الاعتراف بالسيادة السودانية على الفشقة، وإبرام اتفاق ملزم قانوناً بشأن سد النهضة، وانسحاب القوات الإثيوبية من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على حدود جنوب السودان.

سيكون الخضوع لهذه المطالب – لا سيما دفعة واحدة –بمثابة انتحارٍ سياسي لآبي، وعليه، يجب على كلا الزعيمين تقديم تنازلاتٍ لضمان عدم تلاقي النزاع الحدودي مع الحرب في تيغراي.

يعدّ هذا احتمالاً ممكناً فعلاً، ففي الأسبوع الماضي فحسب، تم تدمير جسر يستخدم لإيصال البضائع إلى تيغراي – حيث تخشى الأمم المتحدة من موت الآلاف من الجوع بسبب الحصار الحكومي. وهنا، يحذر أليكس دي وال، الباحث الشهير في شؤون القرن الأفريقي، من أن قوات تيغراي يمكن أن تشن هجوماً لفتح ممر إنساني عبر السودان.

سيسمح هذا لوكالات الإغاثة بالعمل عبر حدود غير رسمية للوصول إلى المدنيين المحتاجين. لكن القيام بذلك قد يدفع آبي إلى الادعاء بأن السودان يساعد قوات دفاع تيغراي، مما يؤدي إلى اندلاع حرب متعددة الأبعاد. وبالطبع، يمكن لآبي أحمد منع هذا السيناريو برفع الحصار عن تيغراي على الفور.

ومع ذلك، من المهم بنفس القدر أن يدعم المجتمع الدولي جهود الوساطة لإنهاء النزاع في الفشقة. وهنا، تبرز أهمية دور دولة الإمارات العربية المتحدة في تولي دور الوساطة بسبب نفوذها الاقتصادي على كلا البلدين. وعلى الرغم من طبيعتها الاستبدادية، فقد لعبت الإمارات سابقاً دوراً إيجابياً في القرن الأفريقي عندما ساعدت في التوسط لإنهاء الحرب الحدودية بين إثيوبيا وإريتريا في سبتمبر 2018.

ففي أبريل الماضي، حاولت الإمارات تكرار قصة نجاحها تلك باستضافة محادثاتٍ بين السودان وإثيوبيا، حيث عرضت أبو ظبي مسودة اتفاقية تهدف إلى تخصيص ربع أراضي الفشقة الزراعية لأمهرة، بيد أن كلا الطرفين رفضا الشروط.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ينبغي على المجتمع الدولي تشجيع الإمارات على مضاعفة جهودها، ففي حال تُركت حرب الحدود دون حل، فلربما تتحالف كلٌ من إريتريا ومصر إلى جانب كلٍ من إثيوبيا والسودان، على التوالي.

الحل الوسط الأكثر واقعية هو العودة إلى اتفاقية حدودية متساهلة تسمح للمزارعين السودانيين والإثيوبيين بالعيش والعمل معاً. قد يقبل قادة الأمهرة المتشددون هذا الترتيب إذا لم يصر السودان على ترسيم رسمي للحدود في هذا الوقت.

ففي نهاية المطاف، ستخسر كلٌ من إثيوبيا والسودان الكثير إن لم تتصاف القيادات، إذ يجب أن يدرك آبي والبرهان أن أي تصعيدٍ كبير في الفشقة – سواء كان مقصوداً أو عرضياً – يمكن أن يفاقم الاضطرابات المحلية، ويقضي على تطلعاتهما، ويقضي على التحول السياسي في بلديهما. الخيار خيارهما.