الفساد ليس بالأمر الجديد في تونس، إلا أن هناك إجماع واسع النطاق باستفحاله بعد تولي زين العابدين بن علي السُلطة عام 1987. فقد سيطرت عائلته على شرائح ضخمة من الاقتصاد، وغالباً ما كان لزاماً المرور عليهم للاستثمار في البلاد. ومع نهاية حكم بن علي في عام 2011، باتت عائلة الطرابلسي- أسرة زوجته- ترمز إلى الفساد في عقول العديد من التونسيين.
ولذلك، عالج السياسيون في مرحلة ما بعد بن علي المسألة في وقتٍ مبكر، فقد أنشئت لجنة في عام 2011 للتحقيق في فساد النظام السابق. وقد حلت محلها في وقتٍ لاحق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي يقودها الآن المحامي شوقي الطبيب. كما سُنّت قوانين عدة، كان آخرها قانون مكافحة الفساد الذي يحمي المبلغين عن المخالفات.
غير أن التغيير لم يكن فورياً، كما هو الحال في معظم التحولات السياسية. وعلى الرغم من إقصاء موظفي الخدمة المدنية الفاسدين من وظائفهم في الأسابيع الأولى من عام 2011، وانتخاب أو تعيين النساء والرجال المعروفين بنزاهتهم، واصل تصنيف الفساد في تونس تدهوره. ووفقاً لمؤشر الفساد الذي وضعته منظمة الشفافية الدولية، انخفض ترتيب البلاد من المرتبة 59 من أصل 178 في عام 2010 إلى 73 في عام 2011 و79 في عام 2013، ولم يتحسن إلا قليلاً إلى المرتبة 75 في عام 2016. وعلى الرغم من اجتثاث الفساد ظاهرياً، إلا أنه لا يزال ينخر في الأعماق.
فقد شكل الفساد المتزايد كابوساً يومياً للتونسيين العاديين. خلق هذا استياءً أدى إلى إندلاع مظاهراتٍ غير مسبوقة في الشوارع، مثل الاحتجاجات التي نظمتها حركة “مانيش مسامح” ضد مشروع قانون مقترح للمصالحة الاقتصادية في 13 مايو 2017.
صيغ مشروع القانون للعفو عن رجال الأعمال والبيروقراطيين المتهمين بالفساد وسوء الإدارة في ظل نظام ما قبل عام 2011. ومع ذلك، اجتذب الكثير من المعارضة الجماهرية، وبالتالي، تم سحبه مراراً وتكراراً وتعديله وإعادته إلى البرلمان، ليتم أيضاً إلغاؤه وتعديله مرةً أخرى. واليوم، أصبح مشروع القانون محور النقاش الدائر حول الفساد في تونس منذ أكثر من عامين.
ويقول المحلل السياسي يوسف الشريف، أنه “على الرغم من امتلاك نظام ما قبل عام 2011 العديد من الهياكل الإدارية العاملة، إلا أنه كان يتضمن جانباً عميقاً من المحسوبية. فمن أجل إنجاز العمل، اضطر الأشخاص إلى التواصل مع من تربطهم بهم علاقات، مثل أفراد العائلة والأصدقاء الخ، أو تقديم والحصول على امتيازات. فمعظم التونسيين “يعرفون” كيفية التنقل عبر النظام والحصول على التصاريح أو الخدمات اللازمة، دون أن يعرفوا، بالضرورة، أن ذلك شكل من أشكال الفساد.”
وأضاف “أخلّت الثورة بهذا النظام، فقد انقلبت البيروقراطية رأساً على عقب من قبل الحكومات المتعاقبة في مرحلة ما بعد عام 2011، من خلال الإصلاحات وإعادة الهيكلة والتطهير وما إلى ذلك. فما كان يمكن حله بمكالمةٍ هاتفية واحدة وبضعة دولارات، أصبح اليوم يسبب صداعاً لا نهاية له ويتطلب رسوماً أكبر. وعلاوةً على ذلك، فإن ضعف جهاز الدولة يعني أن الموظفين المدنيين الفاسدين كانوا أقل خوفاً من التسلسل الهرمي، وبالتالي أكثر جرأة في طلب الرشاوى أو تفضيل أقاربهم.”
كلف هذا البلاد مئات الملايين من الدولارات سنوياً. ومما لا يثير الدهشة، أن جميع الأطراف المشاركة في أول انتخاباتٍ ديمقراطية، والتي جرت في أكتوبر 2011، وعدت بمكافحة الفساد. فقد أقيلت، في بعض الأحيان، العناصر المشتبه بفسادها من مناصبها أو اعتقلت، إلا أن الجهود ظلت محدودة. ونتيجةً لذلك، لا تزال الشخصيات الفاسدة تحتل مناصب في أهم الأحزاب السياسية ودوائر الأعمال ومنظمات المجتمع المدني في البلاد، مما يجعل هذه الممارسة كامنةً في النظام، تقريباً.
وقد استاء المجتمع الدولي، الذي بدأ صبره ينفذ، من مدى استفحال الفساد. فقد كشف تقريرٌ صادرٌ عن مجموعة الأزمات الدولية عام 2017، والذي قرأه على نطاق واسع دبلوماسيون أجانب في العاصمة التونسية، عمق المشكلة. فقد عُلقت المنح التي وعد بها صندوق النقد الدولي، كما أن الضغط على صناع القرار في البلاد آخذٌ في التزايد.
فلم يكن جلياً من أين سيبدأ رئيس الوزراء، يوسف الشاهد، الذي تولى سلطاته منتصف عام 2016. فعلى سبيل المثال، يُشبته بوجود شخصياتٍ فاسدة في حزبه السياسي الذي ينتمي إليه، حزب نداء تونس، تماماً كما هو الحال أيضاً في حزبه الشريك، النهضة. فضلاً عن ذلك، فقد تم توجيه تهمٍ بالفساد للعديد من وزرائه، وأحياناً، من قِبل نفس الأحزاب السياسية التي تشكل حكومته. وعليه، بدى الشاهد مرتبكاً وبلا حيلة.
وبعدها، في 23 مايو 2017، سبق السيف العذل. فقد ألقيّ القبض على شفيق جراية، رجل الأعمال سيء السمعة في تونس، والذي تبجج بشرائه الصحفيين والسياسيين، والذي تجاوز نفوذه السياسة ليصل إلى وسائل الإعلام والرياضة والإشتباه في تجارته بالأسلحة، في أحد مقاهي ضاحية ضفاف البحيرة الغنية بتونس بتهمة “المس بأمن الدولة.” شكل الاعتقال صدمةً في صفوف النخبة في البلاد. فقد كان الشاهد يخوض مغامرةً، وفي اليوم الذي تلى اعتقال جراية، سرت شائعاتٌ بانقلابٍ محتمل.
إلا أن مغامرته لم تنتهي هنا. فقد أعقب ذلك العديد من الاعتقالات، بمن فيهم صابر العجيلي، مدير عام الأمن السياحي، الذي على ما يبدو تربطه علاقة بقضية جراية. فمنصبه في الشرطة غاية في الأهمية، سيما في فصل الصيف عندما يُصبح السياح أهم مصدرٍ للدخل في البلاد.
كما أعيد خالد القبي، وهو رجل أعمالٍ بصلاتٍ مع النظام القديم والذي سجن لعدة أشهرٍ في عام 2011، إلى السجن. كما أطاح اعتقاله بإثنين من المسؤولين في السجون، اللذان اتهما بالعمل لصالحه. وفي 28 يونيو، جمد القضاء التونسي أصول سليم الرياحي، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية لعام 2014، ومالك النادي الأفريقي، أحد الأندية الرئيسية لكرة القدم في تونس، بتهمة الاشتباه في عملية غسيل للأموال من خلال البنوك الليبية.
وبالتوازي مع هذه الإعتقالات، جرت عملية تطهير واسعة النطاق لجهاز الجمارك في البلاد. فقد تمت إما إقالة العشرات من ضباط الجمارك، سيما من ميناء تونس الرئيسي (رادس) ومطار تونس الرئيسي (تونس قرطاج الدولي)، أو التحقيق معهم أو إيداعهم السجن لقبولهم الرشاوى وغيرها من ممارسات الفساد.
حرب الشاهد ضد الفساد مستمرة، وهذا ما جعله يحظى بشعبيةٍ كبيرة بين التونسيين. فرئيس الوزراء الذي كان يُنظر إليه يوماً ما باعتباره ضعيفاً وغير كفؤ، بات ينظر إليه العديدون اليوم باعتباره يمهد الطريق أمام الاستحقاق الانتخابي الكبير المقبل، الانتخابات الرئاسية لعام 2019. وإذا ما كان قادراً على تحسين اقتصاد البلاد والحفاظ على الأمن القومي، سيكون في وضعٍ يؤهله لتحقيق النجاح.