في ديسمبر 2016، نجحت الضربات الجوية بقيادةٍ روسية في إعادة سيطرة النظام السوري على شرق حلب من أيدي المتمردين. ندد العديد من المراقبين الدوليين بالضربات، التي أسفرت عن مقتل المئات وسوت العديد من الأحياء السكنية بالأرض، إلا أن الغضب بالكاد أسفر عن نتيجةٍ تذكر لتغيير واقع الحال.
وفي شهر فبراير من العام 2018، بدا أن التاريخ يكرر نفسه- بل لربما على نطاقٍ أوسع- في الغوطة الشرقية، آخر المعاقل الكبرى التي تُسيطر عليها المعارضة خارج العاصمة دمشق. فقد ازدادت حدة الحملة، التي شرعت بها الحكومة السورية وحليفتها روسيا لاستعادة المنطقة في أواخر عام 2017، في شهري يناير وفبراير الماضيين.
ويُسيطر على المنطقة، التي يبلغ عدد سكانها أقل من 400 ألف نسمة وفقاً للأمم المتحدة، خليطٌ من الجماعات المتمردة التي تنشب بينها، بين الحين والآخر، بعض المناوشات، فضلاً عن تعرضها لحصارٍ كلي أو جزئي على حد سواء منذ عام 2013. وعلاوة على ذلك، فرضت قيود شديدة على إدخال شحنات المواد الغذائية والمساعدات إلى الجيب، مما أدى إلى ارتفاعٍ حاد في الأسعار وانتشار سوء التغذية على نطاقٍ واسع. ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، تدهورت الأوضاع منذ سبتمبر 2017، بعد إغلاق طريق الإمدادات الوحيد عبر معبر مخيم الوافدين. ويعدّ نقص الغذاء على وجه الخصوص من الأمور المضحكة المُبكية، ذلك أن الغوطة الشرقية لطالما عُرفت قبل الحرب بكونها منطقة زراعية تُنتج الفاكهة والخضراوات للمنطقة.
فالجماعات المتمردة الرئيسية التي تسيطر على المنطقة هناك هي جيش الإسلام، وهي جماعة إسلامية مستوحاة من السلفيين، وفيلق الرحمن المرتبط بالجيش السوري الحر، الذي له صلات بجماعة الإخوان المسلمين.
كما أن هناك وجوداً لهيئة تحرير الشام، المعروفة سابقاً بجبهة النصرة والتي ترتبط بتنظيم القاعدة، بالرغم من أن آرون لوند، المحلل المتخصص بالشأن السوري كان قد ذكر أن الهيئة أقل نفوذاً من الجماعات الأخرى. فقد أشار إلى أن “نظراً لجدول أعمالها المناهض للغرب وإدراجها ضمن قوائم المنظمات الإرهابية، تميل هيئة تحرير الشام إلى رغبتها في الحصول على أهمية أكبر بكثير في خطاب المعسكر المؤيد للأسد.”
وعلى الرغم من أن الغوطة الشرقية مشمولة، تقنياً، باتفاقات تخفيف حدة التصعيد التي أبرمتها كل من روسيا وإيران وتركيا لتشمل مناطق محددة في سوريا عام 2017، إلا أنه على أرض الواقع ازادات حدة القتال واشتد الحصار.
ومن جهتهم، شن المتمردون في الجيب هجماتٍ بقذائف الهاون مما أسفر عن مقتل مدنيين في دمشق، بيد أن أعداد المدنيين الذين قتلوا في الغوطة الشرقية جراء الهجمات الجوية المشتركة ما بين النظام وروسيا، هي بلا أدنى شك أعلى من ذلك بكثير. فقد وثق مكتب الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 11 مدنياً في دمشق نتيجةً لهجماتٍ بالقذائف من الغوطة الشرقية خلال شهر يناير؛ وفي نفس الفترة، وثقت الوكالة مقتل ما لا يقل عن 124 مدنياً جراء الغارات الجوية داخل الجيب.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، المنحاز للمعارضة، إن 602 مدني قتلوا جراء الغارات الجوية والقصف بالبراميل المتفجرة في الغوطة الشرقية في الفترة ما بين 18 إلى 28 فبراير.
وعلى صعيدٍ متصل، لم يستطع سكان المنطقة مغادرتها، بل عُرقلت أيضاً عمليات الإجلاء الطبي. وبدلاً من ذلك، تنقل السكان من حي لآخر في محاولةٍ للهروب من القصف، وعانى العديد منهم من النزوح القسري عدة مرات.
ومع وصول صور الدمار الذي عم المنطقة إلى العالم الخارجي، وذلك بشكلٍ أساسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعالت الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار. فقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، الأوضاع بقوله “400 ألف نسمة يعيشون في جهنم على الأرض،” وأشار إلى أن حوالي 700 شخص منهم بحاجة للإجلاء لدواعي طبية.
وكما هو الحال في أماكن أخرى في سوريا، بما في ذلك إدلب، اتهم العاملون في المجال الطبي وعمال الطوارىء كلاً من سوريا وروسيا باستهداف المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى. وقالت منظمة أطباء بلا حدود إن المرافق الطبية التي تدعمها في المنطقة تعرضت في الفترة ما بين 18 و23 فبراير للقصف بالقنابل أو بالمدفعية، وأن “القدرة على تقديم الرعاية الصحية تلفظ أنفاسها الأخيرة.”
ورفض مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا الاتهامات، إذ قال “إن الإنطباع الذي تنقله وسائل الإعلام حول الغوطة الشرقية ينبثق أساساً من المستشفيات، وأن الحكومة تمضي جل وقتها بقصفها. إن هذه تقنية معروفة في حرب المعلومات. ومن الحقائق التي بتنا نعرفها الآن أن العناصر المسلحة يتخذون من المدارس والمستشفيات معاقل لهم. ولسببٍ ما هذه الحقيقة المزعجة للبعض، لا تُعرف على نطاٌقٍ واسع.”
وعلى الرغم من الاعتراضات الروسية، تبنى مجلس الأمن الدولي في 24 فبراير 2018 قراراً يطالب أطراف النزاع بوقف الأعمال القتالية لمدة 30 يوماً، والسماح بتقديم المعونة إلى الغوطة الشرقية وغيرها من المناطق. واستبعد القرار على وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات الإرهابية المُدرجة.
وبدايةً، أجّلَ التصويت بعد أن طلبت روسيا، التي تتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، إجراء بعض التعديلات على صياغته. فعلى سبيل المثال، اعترضت روسيا على اقتراح سريان مفعول الهدنة في غضون 72 ساعة من اعتماد القرار. وفي نهاية المطاف، خففت اللهجة إلى “دون تأخير” في محاولةٍ لكسب الدعم الروسي.
وبعد التصويت، أعلنت روسيا، من جانبٍ واحد، عزمها فتح ممر إنساني للسماح للأفراد بمغادرة الغوطة الشرقية، فضلاً عن وقفٍ يومي لإطلاق النار مدته خمس ساعات. بيد أن وقف إطلاق النار إنهار على الفور تقريباً.
وعليه، ألقى المسؤولون السوريون والروس باللوم على المتمردين، إذ صرحوا بقيامهم بقصف ممرات الإخلاء ومنع المدنيين من المغادرة.
من جانبها، نفت جماعات المتمردين ما ذكر. وفي تصريحٍ نشر عبر تطبيق تيلغرام على وسائل التواصل الاجتماعي، قال الناطق باسم فيلق الرحمن وائل علوان إن هذا الإدعاء “غير صحيح على الإطلاق.” وأضاف أيضاً أن الفصائل ملتزمة بحرية تنقل المدنيين، إلا أن المدنيين في الغوطة الشرقية غير قادرين على الخروج بسلام بسبب “استمرار القصف الشديد” من قِبل القوات الروسية خلال وقت وقف إطلاق النار.
وأضاف أيضاً أنه في حالة إجلاء المدنيين “ليس هناك ما يضمن أن نظام الأسد لن يرتكب المزيد من الجرائم والانتهاكات من خلال اعتقال المدنيين وتعذيبهم أثناء الاستجواب وإجبارهم على الإنضمام لصفوف قوات النظام أو قمعهم بسبب توجههم السياسي.”
وفي نهاية المطاف، يبدو أن احتمالات سقوط الغوطة الشرقية آخذةٌ في التزايد، تماماً كما حصل في حلب. ومع ذلك، لربما من مصلحة جماعات المتمردين تأجيل هذه النتيجة الحتمية أملاً في إبرامهم صفقة خروجٍ مواتية لهم. وفي غضون ذلك، يتواصل تشريد وموت المدنيين دون هوادة.