أنذرت الحرب الكلامية بين تركيا والولايات المتحدة بالتحول إلى ما هو أكثر إيلاماً في أغسطس 2018، حيث وعد الجانبان بتنفيذ تهديداتهما وفرض العقوبات. ومع ذلك، السبب في هذا الوعيد والتهديدات الاقتصادية، رجلي دين هما بؤرة هذا الصراع الدبلوماسي، مما أثار تساؤلاتٍ حول ما إذا كان الرجال رهائن سياسيين في خضم هذا الصراع الجيوسياسي.
فمن جهة، تريد تركيا بشدة تسليم فتح الله غولن، وهو رجل دين تركي مؤثر عاش في المنفى الاختياري في الولايات المتحدة منذ عقود. وعلى الرغم من علاقاته الوثيقة السابقة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلا أنه مطلوب من أنقرة بتهمة تدبير محاولة الانقلاب في عام 2016. وقد رفضت الولايات المتحدة حتى الآن أو ما زالت تعالج الطلبات التركية بتسليمه.
وعلى الجانب الآخر، طالبت الولايات المتحدة بالإفراج عن أندرو برونسون، القس الإنجيلي الأمريكي المسجون منذ أواخر عام 2016 في تركيا بتهم تتعلق بالإرهاب.
فمنذ إلقاء القبض على برونسون، رفضت الحكومة التركية جميع المطالب العامة بالإفراج عنه، بحجة أن القضاء التركي مستقل (أو كما تدعي أنقرة استقلاله)، وأن مصيره خارج أيدي الحكومة. وبالتالي، فهذه هي نفس الحجة التي تستخدمها واشنطن عندما يطالب السياسيون الأتراك بتسليم غولن.
بلغت الأمور ذروتها في أواخر يوليو، عندما حكمت محكمةٌ تركية بوضع برونسون تحت الإقامة الجبرية ورفضت الإفراج عنه بالكامل، مما أثار غضب الحكومة الأمريكية. وفي اليوم التالي، 26 يوليو، هدد نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، بفرض عقوباتٍ على تركيا بسبب رفضها المستمر لإطلاق سراح برونسون. أدى هذا إلى انحدارٍ جديد في العلاقات الأمريكية التركية، بعد عدة سنواتٍ من العلاقات المتدهورة. وأيد الرئيس دونالد ترمب تهديد بنس، الذي وعد في تغريدة له بفرض “عقوباتٍ كبيرة” على تركيا.
نفذت الولايات المتحدة تهديداتها عن طريق فرض عقوباتٍ وتجميد أصول وزيري الداخلية والعدل التركيين. رداً على ذلك، أمر أردوغان بفرض نفس العقوبات ضد نفس الوزراء الأمريكيين. ومع ذلك، ولأن الولايات المتحدة لديها العديد من الوزراء الذين يتعاملون مع محفظة مماثلة لوزارة الداخلية التركية، فمن غير الواضح بالضبط على من ستطبق العقوبات. وعلاوةً على ذلك، في حين أن العقوبات الأمريكية يمكن أن تكون معوقة للأفراد المستهدفين، ويرجع ذلك أساساً إلى التأثير بعيد المدى للبنوك الأمريكية، يبدو من غير المحتمل تأثر وزراء الولايات المتحدة بشكلٍ كبير بمثل هذه الإجراءات التركية. ومع ذلك، لا يتوقع أن يتضرر أي من الوزيرين الأتراك من جراء هذه العقوبات الرمزية إلى حدٍ كبير.
أما فيما يتعلق بالقيمة الاسمية (خاصة بالنظر إلى سجل حقوق الإنسان المتدهور لأنقرة)، قد يبدو أن تركيا هي الطرف الوغد في هذه المعادلة. ولكن في الوقت الذي يبدو فيه احتجاز تركيا لبرونسون، إلى حدٍ كبير، إن لم يكن كلياً، ذو دوافع سياسة، فإن الولايات المتحدة تستغل الوضع لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بها.
وحالياً، يواجه مواطنان يحملان جنسيةً مزدوجة (الأمريكية والتركية) تهماً تتعلق بالإرهاب في تركيا (بمن فيهم العالم في ناسا الذي حكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف). كما يقبع موظفان من القنصلية الأمريكية خلف القضبان التركية بالفعل، بينما تم احتجاز ثالث تحت الإقامة الجبرية. بيد أن أياً من هذه القضايا المذكورة حازت على الاهتمام الذي تلقاه قضية برونسون، الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ حول مدى اهتمام البيت الأبيض بالسجناء ذلك أنهم لن يعودوا بالفائدة على الرئيس في استطلاعات الرأي.
وعلى تويتر، أشاد ترمب ببرونسون بأنه “رجل مسيحي عظيم، ورجل عائلي وإنسان رائع” و”رجل بريء،” كما كرر بنس هذه الصفات. ومن الجدير بالذكر أن بنس مسيحي إنجيلي ملتزم لعب دوراً رئيسياً في حشد الأصوات لصالح ترمب من داخل المجتمع الإنجيلي القوي في انتخابات عام 2016. فقد أصبح مصير برونسون من القضايا الملحة للإدارة، وذلك قبل أشهرٍ قليلة من الانتخابات النصفية ذات الأهمية في نوفمبر. ففي الدوائر الرسمية، يشار عادةً إلى برونسون باسم “القس،” وهي طريقة فعّالة لدعم التأييد المسيحي لقضيته وجهود البيت الأبيض لتحريره في هذا العام الانتخابي الحاسم. ومع ذلك، فإن هذه التمثيلية السياسية المصطنعة التي تُخفي دبلوماسية الرهائن الظاهرة تنطبق على كلا الطرفين.
ففي حديثه في مؤتمر حزب العدالة والتنمية في 4 أغسطس، بدا أن وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، حاول دحض أي فكرةٍ تقول أن برونسون محتجزٌ كرهينة. ومع ذلك، أكد أن كلا الحكومتين في خضم نقاشاتٍ تتعلق ببنك خلق. فقد كان المصرف المملوك للدولة جوهر محاكمةٍ بارزة في نيويورك العام الماضي لمدير بنك خلق، محمد هاكان أتيلا، الذي تمت مقاضاته بسبب مساعدته إيران في التهرب من العقوبات الأمريكية. ويبدو أن وزارة الخزانة الأمريكية ستفرض غرامةً تصل إلى عدة مليارات من الدولارات على بنك خلق لدوره في هذا المخطط.
وبشكلٍ يُدين جاويش أوغلو، كشفت العديد من التقارير الصحفية عن وجود مفاوضاتٍ بين واشنطن وأنقرة لمنح برونسون الحرية مقابل غرامة أكثر تساهلاً تُفرض على بنك خلق. كما ورد أن الولايات المتحدة عرضت السماح لأتيلا إنهاء محكوميته في وطنه. فقد كان عرّاب هذه الصفقة إطلاق إسرائيل لسراح إبرو أوزكان، وهي ناشطة تركية احتجزت لمساعدتها حماس. وعلى الرغم من إطلاق إسرائيل لسراحها، إلا أن الطلب الذي قدمته أنقرة في اللحظات الأخيرة لإسقاط أي تحقيقٍ له علاقة ببنك خلق عرقل الصفقة. وفي نهاية المطاف، لا يزال برونسون قيد الإقامة الجبرية.
تتزامن هذه الخلافات مع تزايد التوترات التجارية بين أنقرة وواشنطن. واليوم، تقوم الولايات المتحدة بمراجعة دخول البضائع التركية المعفاة من الرسوم الجمركية إلى الأسواق الأمريكية عن طريق برنامج نظام الأفضليات المعمم، مما أدى إلى تدهور الليرة التركية إلى مستوى منخفض جديد. كما أدخلت تركيا تعريفاتٍ انتقامية بعد فرض ضرائب الاستيراد التي أعلنتها الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة. وفي محاولةٍ لزيادة الضغط على أنقرة، ضاعفت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على الحديد والألمنيوم التركي في أغسطس، حيث أعلن ترمب عن التعرفة من خلال تغريدةٍ على تويتر، مضيفاً أن العلاقات الثنائية “ليست جيدة في الوقت الحالي.”
فالإقتصاد التركي هشٌ ولا يزال يعتمد بالكامل على الاستثمار الأجنبي (بل يمكن القول إنه مدمن عليه). ويرجع هذا إلى حدٍ كبير إلى استراتيجية أردوغان المالية المتعلقة باستخدام مشاريع البنية التحتية الضخمة وحقن أموال الدولة للحفاظ على استمرار الاقتصاد. وقد تشكل العقوبات الأمريكية صدمةً خطيرة للاقتصاد التركي، الذي قد يعاني بالفعل من الضغوط الأمريكية على الدول التي تتاجر مع إيران (تعدّ تركيا واحدةً من أكبر شركاء إيران التجاريين).
وبينما تحرص واشنطن على الضغط على أنقرة لتذعن للمطالب الأمريكية بشأن برونسون، فلا شك أن واشنطن تدرك السلطة التي تمارسها على الاقتصاد التركي. وعلى الرغم من العداء الحالي، فمن المحتمل أن حماس واشنطن لشل حليفٍ لحلف للناتو قد يبدو ضئيلاً، فكيف بحليفٍ ذو صلةٍ سياسية جغرافية مثل تركيا.
بعد أن باتت واشنطن بين مطرقة توجيه ضربةٍ قوية لحليفٍ سابق وسندان ظهورها بمظهر المتساهل مع حليفٍ يحاول الإفلات باللجوء إلى تكتيكات المساومة من العصور الوسطى، أصبحت واشنطن في موقفٍ صعب. فقد أظهرت المواجهات السابقة مع الخصوم، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية، للعالم أن الولايات المتحدة يمكن أن تضطر إلى اللجوء إلى دبلوماسية الرهائن. وحتى وإن لم يتمكن أردوغان من الحصول على جائزته الحقيقية – فتح الله غولن – فإن الرغبة الواضحة لإدارة ترمب في تجنّب رفع العصا لن يؤدي سوى إلى إفساد الطفل، كما يُقال. ومع كل صدام، تزداد قوة أردوغان في الداخل ويصبح أكثر ثقةً بقدرته على المساومة مع الولايات المتحدة.