وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تداعيات مقتل رئيسي وعبداللّهيان على المستويين الدّاخلي والدولي

تشير وفاة رئيسي وعبداللّهيان، على وجه الخصوص، إلى خسائر كبيرة للحكم والدبلوماسية الإيرانية.

تداعيات مقتل رئيسي وعبداللّهيان
إيرانيون يتجمعون في ساحة وليعصر وسط طهران حدادا على وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وسبعة آخرين في حادث تحطم مروحية. أتا كيناري / أ ف ب

علي نور الدين

صباح يوم الاثنين 20 نيسان/أبريل 2024، أكّدت وسائل الإعلام الإيرانيّة مقتل جميع ركّاب المروحيّة التي تحطّمت شمال غرب البلاد، قرب الحدود مع دولة أذربيجان، والتي كانت تنقل رئيس الجمهوريّة الإيرانيّة إبراهيم رئيسي ووزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللهيان. كما ضمّت قائمة ركّاب المروحيّة اسمين بارزين آخرين، هما محافظ أذربيجان الشرقيّة مالك رحمتي وخطيب جمعّة تبريز علي آل هاشم.

أولويّة ضبط شؤون الحُكم والسلطة

منذ وقوع الحادث، وقبل العثور على حطام المروحيّة والكشف عن مصير المسؤولين الإيرانيين، بدا واضحًا حرص المرشد الأعلى للجمهوريّة علي خامنئي على ضبط شؤون الحُكم والسلطة داخليًا. لهذا السبب، وبينما كانت فرق الإنقاذ تحاول العثور على المروحيّة المنكوبة خلال الليل، خصّص خامنئي خطابًا لطمأنة الإيرانيين ودعوتهم إلى “عدم القلق”، وللتأكيد على أنّه “لن يكون هناك أي خلل في إدارة البلاد”.

وبمجرّد العثور على جثث أعضاء الوفد الرسمي الإيراني، أسند خامنئي مسؤوليّة إدارة السلطة التنفيذيّة إلى النائب الأوّل لرئيس الجمهوريّة محمد مخبر، كما سارع مجلس الوزراء الإيراني إلى تسليم نائب وزير الخارجيّة علي باقري مهام الوزير. وبهذا الشكل، جرى ملء الفراغ الذي تركه الحادث على جناح السرعة، وبأقل قدر ممكن من الإضطراب في عمل السلطة، على أن يتم تنظيم انتخابات رئاسيّة جديدة في 28 يونيو/حزيران 2024.

ثمّة ما يكفي من أسباب تدفع النظام الإيراني للخشية من أي اضطراب في عمل المؤسسات الحكوميّة، في هذه المرحلة بالذات. فالحادث جاء بعد أقل من ثلاثة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانيّة، التي سجّلت مشاركة شعبيّة خجولة للغاية، وخصوصًا في العاصمة طهران. وهذا ما طرح أسئلة جديّة وخطيرة، من جانب المعارضة التي باتت تشكّك في مشروعيّة النظام بأسره، وفي تمثيله الفئات الشابّة.

وكانت ولاية رئيسي نفسه قد شهدت احتجاجات صاخبة للغاية في الربع الأخير من العام 2022، وهذا ما فسّره البعض بتنامي “الفجوة” ما بين النظام وشعبه. وخلال الأشهر التي سبقت سقوط المروحيّة، كانت العوامل الاقتصاديّة الضاغطة، وعلى رأسها التضخّم ومحدوديّة الأجور، قد أعادت تحريك الشارع في وجه الحكومة. وهذا ما أثار خشية أنصار النظام من عودة الاحتجاجات الشعبيّة مجددًا، وبشعارات معيشيّة واجتماعيّة قادرة على حشد فئات واسعة من الإيرانيين.

على هذا الأساس، كانت أولويّة النظام، وعلى رأسه خامنئي، المسارعة إلى ضبط تداعيات الحادث والحؤول دون حصول خضّة تؤثّر على استقرار الحكم. وهذا ما يفسّر تركيز رموز النظام بعد الحادث، وبشكل مبالغ فيه للغاية، على الشعارات التي تتمحور حول الوحدة وثبات مؤسسات الدولة وانتظامها. كما يمكن من هذه الزاوية فهم انتشار الحرس الثوري في محيط المراكز الحكوميّة والمؤسسات العامّة الأساسيّة، في مدينة طهران، بمجرّد انتشار الأنباء حول سقوط المروحيّة.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ طبيعة النظام الإيراني تتسم بخصوصيّة استثنائيّة، وتحديدًا في ما يتعلّق بهامش صلاحيّة السلطة التنفيذيّة والمؤسسات الدستوريّة المنتخبة.

فالكثير من الصلاحيّات المتعلّقة بالأمن والدفاع والاقتصاد والسياسة الخارجيّة مازالت مرتبطة بجهاز الحرس الثوري، الذي يتبع المرشد الأعلى مباشرةً، من دون الخضوع للمؤسسات الدستوريّة الأخرى. وهذه الخصوصيّة، تعطي المُرشد القدرة على التحكّم بالكثير من مفاصل الحياة العامّة، بمعزل عن هويّة الأشخاص الذين يشغلون المناصب المنتخبة.

خسائر المحافظين والتداعيات الإقليميّة

رغم تمكّن النظام –وخلال أقل من 24 ساعة– من ضبط شؤون الحكم بسرعة، بدا واضحًا أن معسكر المحافظين الحاكم خسر خلال الحادثة رموزًا أساسيّة كانت تلعب أدوارًا مهمّة ما يعزّزُ فرضيّة أنّ الحادث سيترك آثاره على بعض الملفّات الإقليميّة، التي انخرطت فيها السياسة الخارجيّة الإيرانيّة.

فإبراهيم رئيسي، الرئيس الثامن في زمن الجمهوريّة الإسلاميّة، تمكّن خلال فترة حكمه –منذ العام 2021- من ضبط التوازنات الداخليّة في مؤسسات الدولة، رغم تباين وتعدّد التيّارات الموجودة داخل المعسكر المحافظ. مع الإشارة إلى أنّ رئيسي فاز في انتخابات الرئاسة الأخيرة بحصوله على 62% من أصوات المقترعين، بعدما مهّد له مجلس صيانة الدستور الطريق للرئاسة، بإبطال ترشيحات جميع المنافسين المحتملين.

الخسارة الأبرز للنظام الإيراني ومعسكر المحافظين، جرّاء الحادث، تمثّلت بوفاة وزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللهيان. إذ يُعتبر عبد اللهيان المسؤول الأوّل عن الكثير من الإنجازات التي حققتها الدبلوماسيّة الإيرانيّة خلال السنوات الثلاث الماضية، وفي طليعتها تطبيع علاقات إيران مع الكويت والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة. وقد تمكّن عبد اللهيان من التقدّم بفعاليّة في هذا الملف، مستفيدًا من خبرته وعلاقاته في الدول العربيّة، التي راكمها خلال عمله السابق كموظّف في دائرة الخليج، داخل وزارة الخارجيّة الإيرانيّة.

فضلاً عن ذلك، يُعتبر عبد اللهيان من الشخصيّات الدبلوماسيّة المقرّبة جدًا من الحرس الثوري الإيراني، ما عزّز علاقته المباشرة مع الميليشيات العربيّة المتحالفة مع الحرس في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وبهذا الشكل، اكتسب عبد اللهيان حضورًا إقليميًا فاعلًا، وهو برز بقوّة خلال جولاته المتكرّرة على الدول العربيّة، منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة.

ومع ذلك، ورغم انتمائه الواضح إلى معسكر المحافظين في إيران، حافظ عبد اللهيان على سياسة براغماتيّة ومرنة للغاية، إزاء ملف التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركيّة. وهذا ما سمح للدبلوماسيّة الإيرانيّة عام 2023 بعقد صفقة مع واشنطن، لتبادل السجناء، والإفراج عن جزء من الأموال الإيرانيّة المحتجزة بفعل العقوبات. وكان من المفترض أن يسعى عبد اللهيان إلى استكمال التفاوض في سبيل إعادة إحياء الاتفاق النووي، في حال فوز الرئيس الأميركي جو بايدن بولاية جديدة خلال الانتخابات المقبلة.

وهكذا، من المتوقّع أن يترك غياب عبد اللهيان أثره على بعض الملفّات الإقليميّة التي تتعامل معها إيران، وخصوصًا تلك التي تتصل بعلاقات إيران مع الدول والميليشيات العربيّة في منطقة الشرق الأوسط. وسيكون على النظام الإيراني خلال الفترة المقبلة إيجاد شخصيّة تملك مهارات وعلاقات عبد اللهيان، وخبرته في التعامل مع ملفات المنطقة العربيّة.

كما خسر معسكر المحافظين، جرّاء الحادث، حضور محمد علي آل هاشم، الذي شغل قبل وفاته منصب إمام صلاة الجمعة في مسجد تبريز، كما عمل كممثّل شخصي لخامنئي في محافظة أذربيجان الشرقيّة. وقبل شغل هذا المنصب، لعب آل هاشم أدوارًا ثقافيّة وسياسيّة مهمّة. حيث ترأّس سابقًا منظمة الوعي السياسي في الجيش الإيراني، وكان عضوًا في المجلس المركزي لمجمع رجال الدين المجاهدين في طهران، كما عمل في مكتب أذربيجان في مجلس تشخيص مصلحة النظام.

أمّا مالك رحمتي، فاتسمت أدواره بالطابع الاقتصادي، حيث تم تعيينه كرئيس لمنظمة الخصخصة الإيرانيّة العام الماضي، قبل أن يتم تعيينه هذه السنة كمحافظ لمحافظة أذربيجان الشرقيّة. وتجدر الإشارة إلى أن رحمتي كان من أوائل حكّام الولايات من جيل الشباب، الذين ولدوا بعد الثورة، كما كان أصغرهم على الإطلاق. وبهذا الشكل، خسر النظام الإيراني أحد العناصر الشابّة، التي كان يراهن عليها كنموذج للجيل الجديد المندمج في المناصب المتقدمة داخل الدولة.

التداعيات على خلافة خامنئي

يُعتبر رئيسي من أبرز الوجوده التي كانت مرشحة لخلافة خامنئي، في منصب المرشد الأعلى للجمهوريّة. بل هناك الكثير من التحليلات التي تعتقد أنّ مجلس صيانة الدستور سعى عن قصد إلى إبعاد جميع المنافسين الجديين في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة عام 2021، لتمكين رئيسي من الفوز بالرئاسة، وتحضيره لمنصب المرشد الأعلى بعد خامنئي. وبشكل عام، نظرت شريحة واسعة من المحافظين إلى رئيسي كمرشّح مثالي لمنصب المرشد الأعلى، لكونه يُزاوج ما بين الولاء المتشدّد لقيم الثورة، إلى جانب الحد الأدنى من الشعبيّة المطلوبة للحفاظ على مشروعيّة النظام.

المرشّح الثاني المطروح لهذا المنصب، والذي تم تداول إسمه على نطاق واسع، ليس سوى مجتبى خامنئي، إبن المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي. ولذلك، من المتوقّع أن يؤدّي غياب رئيسي إلى تعزيز أسهم مجتبى، الذي حمل منذ آب/أغسطس 2022 لقب “آية الله”، وهو اللقب الذي يحتاجه للوصول إلى منصب المرشد. وكان مجتبى خامنئي قد عزّز سطوته على جزء كبير من مؤسسات الحرس الثوري الإيراني منذ العام 2009، وخصوصًا جهاز الاستخبارات الذي ساهم شخصيًا بتأسيسه.

وصول مجتبى إلى المنصب بعد والده، قد ينال دعم وبركة الحرس الثوري بدون شك. لكن في هذه الحالة، ستكمن إشكالية النظام في محدوديّة شعبيّة مجتبى، مقارنة بشعبيّة رئيسي. بل وعلى عكس رئيسي تمامًا، سيُنظر إلى مجتبى، القادم من دوائر الظل الأمنيّة والمخابراتيّة، كمحظي نال المنصب بحكم الوراثة والقربى، التي مكنته من التغلغل في أجهزة الدولة.

لكن في جميع الحالات، من المبكر الجزم بمستقبل منصب المرشد بعد خامنئي. إذ مازالت التيّارات الفاعلة داخل النظام تمتلك أدواتها لخلق المرشحين وتحضيرهم لهذا المنصب، وهذا ما يفتح المجال أمام بروز أسماء جديدة خلال السنوات المقبلة. لكن في الوقت الراهن، وبغياب أي بديل حالي، سيؤدّي غياب رئيسي إلى ترك مجتبى خامنئي كمرشّح أساسي لمنصب المرشد.

أخيرًا، فتح الحادث باب الحديث عن العديد من نظريّات المؤامرة. فمنها ما ربط ما جرى بعمل عدائي أجنبي، وخصوصًا بعدما تبيّن أن المروحيّة كانت عائدة من زيارة رسميّة إلى أذربيجان، المعروفة بعمق علاقتها مع إسرائيل. وهناك من ربط الحادثة بتصفية الحسابات بين تيّارات النظام نفسه، في إشارة مبطنة إلى التنافس حول مستقبل الحكم في إيران.

إلا أن جميع هذه النظريّات ظلّت تكهّنات لا يعززها أي دليل حسّي ملموس، بعدما تمسّكت الرواية الرسميّة حتّى هذه اللحظة بفرضية الحادث العرضي، ولم يتم تقديم مؤشّرات تدفع إلى الاعتقاد بنظريّة مغايرة. ورغم أن فكرة الاغتيال المتعمّد تبقى احتمالًا قائمًا، ولو بناءً على التحليل السياسي، لا يمكن –حتى اللحظة– الاستناد إلى وقائع مؤكّدة ترجّح ذلك. ومن المعلوم أيضًا أن لإيران تاريخها الطويل مع حوادث المروحيات المتكرّرة، الناتجة عن تقادم أسطولها وتردّي خدمات الصيانة، ما يبقي رواية الحادث العرضي قابلة للتصديق.