وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصفقة الأميركيّة الإيرانيّة: تقاطعات في مصالح الدولتين

بمجرّد عقد الصفقة الأميركيّة الإيرانيّة، كان بإمكان طهران التحضير فورًا لزيادة إنتاجها من النفط، تمامًا كما أعلنت فعلًا خلال شهر أغسطس/آب 2023.

لصفقة الأميركيّة الإيرانيّة
امرأة إيرانية تمشي أمام علم إيراني مرسوم على جدار في أحد شوارع طهران في 10 أبريل 2023 أتا كيناري / أ ف ب

علي نور الدين

خلال شهر أيلول/سبتمبر 2023، من المفترض أن تستكمل كلّ من الولايات المتحدة الأميركيّة وإيران تنفيذ صفقة جرى التفاوض حولها على مدى عامين ونصف، وهو ما يمثّل أوّل اتفاق جدّي بين الطرفين منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018.

في ظاهر الأمر، تقتصر الصفقة المعلنة على تبادل السجناء بين البلدين، والإفراج عن بعض أموال طهران المحتجزة نتيجة العقوبات المفروضة عليها.

لكن كما كان واضحًا، نتج عن الاتفاق تداعيات وتحوّلات مهمّة في أسواق النفط العالميّة، ما يشير إلى أنّ الصفقة جاءت كنتيجة لتقاطع في المصالح الاقتصاديّة – وربما السياسيّة – الإيرانيّة والأميركيّة. لكن بعض التحليلات ذهبت إلى التصويب على استفادة الرئيس الأميركي بايدن سياسيًا من بعض النتائج الاقتصاديّة للصفقة، وخصوصًا على مستوى أسعار النفط العالميّة، قبيل الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة المقبلة.

وفي المقابل، تفاوتت ردّات فعل دول منطقة الشرق الأوسط، بحسب طريقة تأثّرها بديناميكيّات العلاقات والتجاذبات الإيرانيّة الأميركيّة. ومن المؤكد أنّ جميع دول المنطقة قرأت في هذه الصفقة منعطفًا كبيرًا، يمكن أن يمهّد للعودة إلى التفاهم الشامل حول البرنامج النووي الإيراني، بين إيران والولايات المتحدة.

وتمامًا كما حصل عند توقيع الاتفاق النووي عام 2015، قبل انسحاب الولايات المتحدة منه، إذ سيؤدّي التفاهم النووي الجديد –إن حصل- إلى إعادة خلط أوراق النزاعات والتجاذبات الإقليميّة الراهنة.

الصفقة الأميركيّة الإيرانيّة: البحثُ عن المصالح النفطيّة

ثمّة الكثير من الجوانب الغامضة في الصفقة الإيرانيّة الأميركيّة المستجدّة، خصوصًا أنها جاءت كجزء من مسار أوسع من المفاوضات السريّة التي تجري بين الدولتين، بشكل غير مباشر وبوساطة قطريّة.

والواضح حتّى اللّحظة، بحسب ما تم الإعلان عنه عبر المسؤولين في الدولتين، هو أن الصفقة ستشمل الإفراج عن خمسة سجناء أميركيين محتجزين في طهران، مقابل إفراج الولايات المتحدة عن خمسة سجناء إيرانيين محتجزين لديها. وتمهيدًا لإتمام الصفقة، فقد سمحت إيران بالفعل للسجناء الأميركيين بالانتقال من السجن إلى الإقامة الجبريّة في فنادق إيرانيّة، خلال شهر أغسطس/آب 2023، في إشارة لقرب إعادتهم إلى بلدهم.

في الجانب المالي، من المفترض أن تفضي الصفقة إلى تحرير ما تقارب قيمته الستة مليارات دولار من أموال طهران المحتجزة في كوريا الجنوبيّة، والتي جرى تقييدها بموجب العقوبات الأميركيّة في الماضي. وسيكون على طهران – بحسب الاتفاق – تحويل هذه الأموال من الوون الكوري الجنوبي، إلى الدولار الأميركي ثم اليورو، عبر المصرف المركزي السويسري، قبل إيداعها في حسابات خاصّة في البنك المركزي القطري. وبعد ذلك، سيكون بإستطاعة إيران استعمال هذه المبالغ برقابة أميركيّة، لشراء سلع غير خاضعة للعقوبات الأميركيّة على إيران.

لكن بعيدًا عن البنود المعلنة من الاتفاق، شملت الصفقة بعض الترتيبات “غير الرسميّة”، كما أشارت إليها وكالة “بلومبيرغ” نقلًا عن مسؤولين أميركيين تابعوا ملف التفاوض. وأبرز هذه الترتيبات، ارتبطت بتخفيف القيود المفروضة على مبيعات النفط الإيراني في الأسواق الدوليّة، وهو ما رفع حجم هذه المبيعات إلى أعلى مستوى لها منذ خمس سنوات، أي منذ أن فرضت الولايات المتحدة الحظر على هذه المبيعات النفطيّة بعد انسحابها من الاتفاق النووي.

وبمجرّد بدء الولايات المتحدة بتنفيذ هذا الجانب من الترتيبات “غير الرسميّة”، في أغسطس/آب 2023، ظهرت سريعًا تداعيات الصفقة على إنتاج النفط الإيراني. ففي أواخر ذلك الشهر بدأت طهران بالاستعداد لرفع إنتاجها النفطي إلى حدود ال3.4 مليون برميل يوميًا، مع إمكانيّة رفع هذا الإنتاج إلى 3.6 مليون برميل يوميًا قبل نهاية العام 2023.

وبهذا الشكل، ستكون إيران قد تمكّنت من زيادة إنتاجها النفطي بنسبة 44%، مقارنة بمتوسّط الإنتاج اليومي خلال العام 2022، الذي لم يتجاوز حدود ال2.5 مليون برميل فقط.

على هذا النحو، يتضح أنّ الجزء الأهم من التفاهمات الأميركيّة الإيرانيّة يرتبط بالمسائل المتعلّقة بالنفط، الأكثر تأثيرًا على مصالح البلدين الاقتصاديّة والاستراتيجيّة، وهو ما تفادى المسؤولون الإيرانيون والأميركيّون الحديث عنه عند إبرام الاتفاق. مع الإشارة إلى أنّ رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي ساهم بجهود الوساطة بين الطرفين، تحدّث بصراحة عن أثر الاتفاق على مستوى “ضمان تدفّق الإمدادات النفطيّة”، ومساهمة هذا العامل بتحقيق “الاعتدال في أسعار النفط وانخفاضها”، دون تقديم المزيد من الإيضاحات حول هذا الجانب من الصفقة.

تقاطعات في المصالح الإيرانيّة الأميركيّة

لا يمكن قراءة الصفقة المستجدة، ومنها الجانب المتعلّق بأسواق النفط، بعيدًا عن مصالح الدولتين الراهنة، والتقاطعات التي حصلت مؤخرًا بين مصالحهما. فإدارة الرئيس بايدن نظرت منذ البداية بريبة وقلق من قرارات خفض الإنتاج المتتالية، التي اتخذها تحالف “أوبيك+”، بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة وروسيا.

وكما هو معلوم، ساهمت هذه القرارات طوال العام 2023 بدفع أسعار النفط العالميّة صعودًا، ما يمثّل تحديًا كبيرًا للدول الصناعيّة الكبرى، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركيّة. ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذا التعارض في المصالح الأميركيّة والسعوديّة مثّل أحد الأسباب التي أدّت إلى الفتور في علاقة ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان بإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.

وبالنسبة إلى بايدن بوجهٍ خاص، فإنّ ارتفاع أسعار النفط يمثّل أحد أبرز العوامل التي تسهم في زيادة معدّلات التضخّم في الأسواق الأميركيّة، وهو ما يهدد بدوره شعبيّة الإدارة الأميركيّة الحاليّة على أعتاب الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة المقبلة. أمّا الأهم، فهو أنّ هذه الضغوط التضخميّة باتت تمثّل أحد الأسباب التي تسهم في خفض معدلات النمو الاقتصادي، كما تمثّل السبب الرئيس الذي يفرض على الاحتياطي الفيدرالي رفع معدلات الفائدة واعتماد سياسات نقديّة انكماشيّة، ما يزيد من حاجة بايدن للتعامل مع هذه المشكلة بأي طريقة ممكنة.

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم مصلحة إدارة الرئيس بايدن بعقد الصفقة الأخيرة مع طهران. فتخفيف القيود المفروضة على إنتاج النفط الإيراني من شأنه أن يزيد من إمدادات النفط في الأسواق الدوليّة، وهو ما سيسهم في إبطال مفعول قرارات خفض الإنتاج التي اتخذها تحالف “أوبيك”، ولو بشكل جزئي. مع العلم أن إيران لم تخضع لضوابط خفض الإنتاج التي تمَّ الاتفاق عليها في تحالف “أوبيك+”، لكونها تنتج النفط عند مستويات تقل عن الكوتا المخصّصة لها، بفعل العقوبات المفروضة عليها.

ولذلك، وبمجرّد عقد الصفقة الأميركيّة الإيرانيّة، كان بإمكان طهران التحضير فورًا لزيادة إنتاجها من النفط، تمامًا كما أعلنت فعلًا خلال شهر أغسطس/آب 2023.

من ناحيتها، ترى إيران في الصفقة الأخيرة نافذة يمكن من خلالها زيادة الإيرادات النفطيّة، التي تحتاجها البلاد بشكل كبير للتعامل مع التحديات النقديّة والاقتصاديّة الداهمة. كما تحتاج إيران إلى زيادة قدرتها على بيع نفطها في الأسواق العالميّة، قبل ضخ المزيد من الاستثمارات في قطاع استخراج وتكرير النفط والغاز، وقبل السعي إلى زيادة قدرتها الإنتاجيّة البتروليّة.

وتمامًا كحال الإدارة الأميركيّة، يبدو النظام الإيراني منهمكًا بالتعامل مع المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة، على أعتاب الانتخابات البرلمانيّة الإيرانيّة المفترض إتمامها عام 2024، والتي ستمثّل استفتاءً على مشروعيّة النظام الإيراني بعد الاحتجاجات الأخيرة.

ردود الفعل الإقليميّة

في ردود الفعل الإقليميّة، كان الموقف القطري الأكثر ترحيبًا بالتطورات الأخيرة، خصوصًا أن الصفقة مثّلت إنجازًا لوساطة الدبلوماسيّة القطريّة، الباحثة عن دور إقليمي فاعل. وفي هذا السياق، جاء الدور القطري متناغمًا مع مصالح الدولة الخليجيّة، التي تمتلك علاقات اقتصاديّة وسياسيّة ممتازة مع الطرفين، فيما تسعى الدوحة إلى تذليل العوائق والعقوبات، التي يمكن أن تؤخّر تطوير مشاريعها وحقولها البتروليّة المشتركة مع طهران.

في المقابل، قدّم مكتب رئاسة الحكومة الإسرائيليّة الموقف الإقليمي الأكثر تشنّجًا ورفضًا للصفقة، عبر اعتبارها “خدمة للإرهاب الذي ترعاه إيران”. فبالنسبة لإسرائيل، ستسمح هذه الصفقة بزيادة الموارد الماليّة التي يستفيد منها النظام الإيراني، دون أن يقدّم أي تنازل على مستوى دعمه للمنظمات الموالية له في لبنان وسوريا والعراق.

بل وعلى العكس تمامًا، تعتبر إسرائيل أن إيران ستتمكّن من تقديم المزيد من الدعم المالي لهذه المنظمات، المناوئة لإسرائيل، بمجرّد زيادة الإنتاج النفطي الإيراني. وهكذا، عادت إسرائيل لتكرر معارضتها لأي تسوية غربيّة مع إيران، تمامًا كما فعلت عند إبرام الاتفاق النووي عام 2015.

أمّا مواقف سائر الدول الخليجيّة، فجاءت مرتبكة وغامضة. إذ أنّ هذه الدول تدرك جيدًا أن تخفيف مثل هذه القيود عن إنتاج إيران النفطي سيسهم حتمًّا في تقويض جهودها، على مستوى الحد من إنتاج النفط العالمي. كما تدرك أن أيّ تسوية إيرانيّة أميركيّة يمكن أن تأتي على حساب المصالح الخليجيّة، في منطقة الشرق الأوسط.

لكن وبخلاف ما جرى عند عقد الاتفاق النووي عام 2015، لم تعد المملكة العربيّة السعوديّة أو غيرها من دول الخليج قادرة على معارضة التسويات الإيرانيّة الغربيّة بشكل صريح، بحجّة خطر النفوذ الإيراني، بعدما تسابقت الدول الخليجيّة نفسها إلى عقد المصالحات والتسويات مع طهران خلال الأعوام الماضية.

في النتيجة، من المفترض أن يتبيّن خلال النصف الثاني من العام 2023 أفق التفاهمات الإيرانيّة والأميركيّة، ومدى قدرتها على التمهيد لعودة الاتفاق النووي الشامل. كما سيكون بالإمكان تتبّع أثر المفاوضات بين الطرفين على سائر الملفّات الإقليميّة العالقة، ومنها تلك المتعلّقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والنزاع في سوريا والعراق.

لكن في الوقت عينيه، من المرجّح أن تسهم التسويات الأميركيّة الإيرانيّة في إضعاف الموقف التفاوضي الذي تنطلق منه دول الخليج في علاقتها مع طهران. فتخفيف القيود الأميركيّة المفروضة على النظام الإيراني، ستقلّل من حاجة طهران إلى تقديم تنازلات كبيرة، في سبيل استعادة علاقاتها الإيجابيّة مع دول الجوار.

user placeholder
written by
Kawthar Metwalli
المزيد Kawthar Metwalli articles