وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

احتجاجات إيران تكشف الفجوة بين النظام وشعبه

وفقًا للمحللين، لم تعد الغالبية العظمى من الإيرانيين تعتبر نفسها ممثلة بالقيادة الحالية.

احتجاجات إيران
امرأة تنظر إلى صورة المراهقة الإيرانية، نيكا شكرمي، التي قُتلت مؤخرًا خلال الاحتجاجات التي اندلعت في إيران على وفاة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا. وكالة فرانس برس

علي نور الدين

لم تخمد حتّى اللحظة الاحتجاجات الصاخبة في مختلف المدن الإيرانيّة، التي بدأت في شهر سبتمبر/أيلول 2022، لا بل يبدو أنّ هذه الاحتجاجات تأخذُ مجراها بالتوسّع على نحوٍ يومي. وكما بات معلومًا اليوم، كانت الشرارة الأولى لهذه الاحتجاجات مقتل الشابة مهسا أميني بشكل غامض، بعد اعتقالها من قبل الشرطة الإيرانيّة، على خلفيّة عدم ارتداء الحجاب بشكل لائق.

لكن وبمعزل عن هذا السبب المباشر، كشف توسّع الاحتجاجات بهذا الشكل السريع، وما رافقه من شعارات حادّة في وجه النظام، أنّ هناك فجوة كبيرة قد توسّعت بين النظام الإيراني وشرائح واسعة من شعبه. فمن الأوساط الشبابيّة في المدن، والنساء المتضرّرات من ذكوريّة النظام، والشرائح العمّاليّة الفقيرة، وصولًا إلى الأقليّات العربيّة والكرديّة المهمّشة تاريخيًّا، باتت نسبة كبيرة من الشعب الإيراني لا ترى نفسها ممثّلة بهذا النظام.

وإذا كانت كل من هذه الفئات تملك مظلوميّتها وأولويّاتها الخاصّة، مثّلت الاحتجاجات مناسبة ليتقاطع كل هؤلاء خلف العناوين المطالبة بتغيير النظام السياسي. وعلى الرغم من وجود عوامل تاريخيّة مؤثّرة في هذا المشهد، منذ اندلاع الثورة الإسلاميّة، فثمّة تحوّلات ثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة عميقة طرأت على المجتمع الإيراني خلال العقد الأخير، بما أدّى إلى ازدياد استياء هذه الفئات إلى حد الاحتجاج الصاخب الذي حصل مؤخّرًا. وهذا ما وسّع نطاق الاحتجاجات الأخيرة، مقارنة بجميع الاحتجاجات التي شهدتها إيران سابقًا.

في المقابل، ورغم تراكم كل هذه الضغوط الشعبيّة في وجه النظام الإيراني، من المؤكد أنّ النظام مازال يملك أوراق قوّة مؤثّرة تسمح له بالصمود. وفي طليعة هذه الأوراق بنية بعض المؤسسات العسكريّة المستقلّة عن سيطرة السلطة التنفيذيّة، كالحرس الثوري والباسيج (قوّات التعبئة)، التي تتخصّص في الدفاع عن هويّة النظام الإسلاميّ.

تحوّلات سياسيّة وثقافيّة في أوساط الشباب الإيراني

تمتلك إيران قاعدة ضخمة من المواطنين المغتربين، المتحرّرين من سطوة النظام وسيطرة إعلامه. كما امتلكت تاريخيًّا المدن والجامعات الإيرانيّة تنوّعًا سياسيًّا وثقافيًّا كبيرًا، وخصوصًا على مستوى الشباب، بمعزل عن هيمنة النظام على الحياة السياسيّة.

وحتّى في العقود التي تلت الثورة الإسلاميّة وتصفية القوى السياسيّة العلمانيّة، حافظت الجامعات الإيرانيّة على حضور وازن لتيّارات فكريّة ليبراليّة ويساريّة وتقدميّة، وإن لم تتم ترجمة هذه التيّارات الفكريّة في عمل سياسي منظّم، أو محاولة صريحة لتغيير النظام.

لكن خلال العقد الماضي، ازداد حضور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيرهما في إيران، مما زاد من احتكاك الشباب الإيراني بالأفكار السياسيّة المتحرّرة والمتنوّعة، الموجودة أساسًا في الجامعات والأوساط الطلابيّة الإيرانيّة. وفي الوقت نفسه، تحوّلت هذه المواقع الإلكترونيّة إلى مصدر دائم للمعلومات، حول التطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بما يتخطّى وسائل الإعلام الرسميّة، التي كانت تمثّل في ما مضى المصدر الأساس للمعلومات. كما باتت قاعدة الاغتراب الإيراني، المعروفة بنشاطها السياسي المعارض للنظام، أكثر قدرة على الاتصال بالداخل الإيراني، والمساهمة في النقاش حول المستجدات على الساحة السياسيّة.

لكل هذه الأسباب، كان هناك جيل جديد من الشباب الإيراني الذي تخلّص من القيود الرسميّة المفروضة على وسائل الإعلام التقليديّة، ليكوّن تصوّراته الخاصّة بالنسبة للنظام والسياسة والشأن العام. أمّا أهم ما في الأمر، فهو أنّ هذا الجيل كان قادرًا على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لترجمة كل هذه التصوّرات في تنظيم الاحتجاجات والدعوة إليها، بمعزل عن الضوابط التي اعتاد النظام على فرضها ضد أي عمل سياسي منظّم. وهذا تحديدًا ما حصل في موجات الاحتجاجات العديدة التي جرت طوال العقد الماضي.

مع الإشارة إلى هذا الجيل الشاب بالتحديد لم يكن قد عرف سابقًا أي حكومة غير حكومات الجمهوريّة الإسلاميّة، ولا مرشدًا أعلى غير الخامنئي. أمّا النخبة التي تهيمن على النظام الحاكم، فتتكوّن بأغلبها من كبار السن الذين أسسوا نظام ما بعد الثورة الإسلاميّة. ومع غياب الأحزاب المنظّمة والتنظيمات الفاعلة، والقادرة على تشكيل أطر العمل السياسي، تراكم لدى هذه الفئة الشعور بالتهميش والإقصاء، والذي توازى مع الشعور بالغبن الناتج عن الظروف الاقتصاديّة وارتفاع معدلات البطالة في أوساط الشباب.

وبذلك تنامى ما يصفه الإيرانيون بالفجوة بين الأجيال، والتي تمثّلت في تمرّد الشباب على قيم النظام القائم، ورفض الأسس التي قامت عليها جمهوريّة ما بعد الثورة الإسلاميّة. هذا الجيل، الذي يستخدم 80% منه الإنترنت، قد لا يتبنّى الثقافة الغربيّة كما هي، لكنّه بات على قناعة أن الجمهوريّة الإسلاميّة القائمة لم تعد تنسجم مع قيم الحريّة والعدالة الاجتماعيّة التي يتبنّاها. وبهذا، لم تكن هذه التحوّلات سياسيّة فقط، بل باتت تعبّر عن تحوّلات اجتماعيّة وثقافيّة جذريّة بالدرجة الأولى.

النظام الإيراني وحقوق النساء

لم تقتصر أزمة النساء في ظل النظام الإيراني الحالي على مسألة فرض الحجاب في الأماكن العامّة، بل شملت مسائل تمس بنوعيّة حياة المرأة الإيرانيّة وصحّتها وحقوقها المدنيّة. فالإحصاءات الأخيرة، تقدّر ارتفاع نسبة النساء في الجامعات الإيرانيّة إلى حدود ال63%، وهو ما عكس طموح النساء للقيام بأدوارٍ اجتماعية واقتصادية فاعلة، ومتكافئة مع الرجل. ومع ذلك، مازالت قوانين النظام الإيراني وممارساته عاجزة عن تلبية هذه الطموحات، أو حتّى تأمين الحد الأدنى من مطالب معظم النساء الإيرانيّات.

فمنذ حصول الثورة الإسلاميّة عام 1979، عانت النساء الإيرانيّات من الإجحاف بحقوقهن في الكثير من القوانين التي استحدثها النظام الجديد، ومنها تلك التي خفّضت سن الزواج للفتيات إلى حدود ال13 سنة، بدل 18 سنة كما كان الحال في قوانين ما قبل الثورة. كما فقدت المرأة الحق في العمل في القضاء، أو طلب الطلاق أو حضانة الأطفال، أو تقييد الزوج بالنسبة إلى عدد الزوجات.

وفوق كل ذلك، واظب البرلمان الإيراني مؤخرًا على تمرير قوانين جديدة تزيد من الإجحاف اللاحق بحق النساء، كحال قانون “تجديد شباب السكان ودعم الأسرة”، الذي تم إقراره في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. فبحسب هذا القانون، تم حظر جميع وسائل التعقيم ومنع الحمل في نظام الرعاية الصحيّة العامّة المجاني، كما تم تقييد الحصول على المعلومات الأساسيّة المرتبطة بالصحّة الإنجابيّة والجنسيّة. وأعطى القانون جهاز المخابرات صلاحيّات واسعة، تتيح مراقبة تقديم المشورة الطبيّة للنساء، في كل ما يخص المسائل المتعلّقة بالإنجاب والجنس.

وبينما استهدف النظام الإيراني زيادة معدلات الإنجاب بالقوّة، من خلال هذا النوع من القوانين، والنساء الإيرانيّات كُنَ يَريْن في هذه المقاربات تهديدًا مباشر لصحّتهم، وحقوقهم البديهيّة في الرعاية الصحيّة الإنجابيّة اللائقة.

أمّا الأسوأ بالنسبة للنساء الإيرانيّات، فكان تهميش تمثيلهن في مراكز القرار السياسي نفسه، وفي سوق العمل والنشاط الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، ورغم أن النساء يمثلن اليوم أكثر من نصف حملة الشهادات الجامعيّة، مازالت حصّتهن من سوق العمل لا تتجاوز ال17%. وقد حرصت السلطات الإيرانيّة طوال العقود الثلاثة الماضية على التضييق على الناشطات الحقوقيّات، اللواتي سعين إلى ترويج المساواة بين الجنسين في القوانين والممارسات.

فئات مهمّشة أخرى

فوق كل ذلك، كانت فئات أخرى من الشعب الإيراني تفقد الثقة بالنظام القائم، ومنهم شرائح العمّال ومحدودي الدخل. فهذه الفئة بالتحديد، تضرّرت مؤخرًا بفعل انهيار شبكات الحماية الاجتماعيّة الفاعلة، التي يفترض أن تؤمّنها الدولة، وتدنّي قيمة أجورهم بفعل معدلات التضخّم المرتفعة التي شهدتها إيران خلال السنوات الماضية. ولهذا السبب، كان من الواضح التحاق عمال قطاعات مصافي النفط وصناعة السيّارات وحديد البناء والأجهزة المنزليّة بالاحتجاجات الأخيرة، حاملين شعارات سياسيّة قاسية في وجه النظام، بما يتخطّى المطالب المعيشيّة التي يحملونها في العادة.

ويمكن القول أن تطوّر خطاب المظاهرات المطلبيّة العماليّة، ليلامس المسائل السياسيّة والموقف من النظام الإسلامي نفسه، يعكس شعور العمّال الإيرانيين بأن معاناتهم لم تعد تتصل فقط ببعض العوامل الاقتصاديّة الظرفيّة، بل بطبيعة النموذج السياسي الذي يحكم البلاد. فتركيز النظام على الإنفاق العسكري، وتمويل نشاط الحرس الثوري ومؤسساته، على حساب الأولويّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بات بالنسبة إلى الفئات العمّاليّة سببًا من أسباب خسارة مكتسباتهم وتردّي ظروفهم المعيشيّة. وهذا ما يفسّر طبيعة الشعارات السياسيّة التي حملتها الاحتجاجات العماليّة.

وأخيرًا، وكما هو معروف، يتراوح عدد أكراد إيران ما بين 8 و11 مليون نسمة، فيما يتراوح عدد العرب فيها ما بين 3 و5 ملايين نسمة، كما يقطن إيران نحو 3 ملايين شخص من السكّان البلّوش. وهذه الفئات، تعاني تاريخيًّا من التهميش المتعمّد بحقها، وخصوصًا في ما يتعلّق بالخدمات العامّة والظروف الاقتصاديّة المتردية في مناطقها، مقارنة بمناطق وسط البلاد. كما حُرمت هذه الفئات في الوقت نفسه من حقوقها الثقافيّة البديهيّة، ما زاد من شعورها بالإقصاء عن الحياة العامّة.

وبسبب ذلك، كانت الأمور مهيئة –ولأسباب تاريخيّة- لانضمام الأقليّات العرقيّة للاحتجاجات الأخيرة في وجه النظام، وبشعارات سياسيّة حادّة وصلت إلى حد المطالبة بإسقاط المرشد الأعلى للجمهوريّة الإسلاميّة. كما زاد من حدّة ردة الفعل الكرديّة على هذه الأحداث انتماء الشابّة مهسا أميني نفسها للأقليّة الكرديّة.

أوراق النظام المتبقية

أبرز أوراق ضغط النظام المتبقية هي تنظيماته الأمنيّة والعسكريّة، وخصوصًا تلك التي تخضع لسيطرة الحرس الثوري الإيراني. فهذا التنظيم، يقدّر عدد قوّاته بنحو 125 ألف عسكري، لا يخضعون لأوامر أو محاسبة أي من مؤسسات السلطة التنفيذيّة، بل يتلقون أوامرهم مباشرة من المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي.

ويتمتّع الحرس الثوري بمكانة خاصّة داخل النظام الإيراني، إذ يمتلك مؤسسات تجاريّة واقتصاديّة في قطاعات النفط والغاز والمقاولات وغيرها، ويدير أنشطة تجاريّة تدر عليه أرباح خاصّة، فيما يسخّر كل هذه الإمكانات لحماية النظام وطابعه الإسلامي. مع الإشارة إلى أنّ تنظيم الحرس الثوري قوّض في السابق محاولات تحرير الاقتصاد الإيراني، بفعل هيمتنه داخل قطاعات اقتصاديّة إيرانيّة أساسيّة.

كما يتبع للحرس الثوري تنظيمات الباسيج، التي تتكوّن من خمسين ألف قاعدة ومكتب، موزّعة على جميع المدن والقرى الإيرانيّة. وهذه التنظيمات، تهدف إلى حشد الإيرانيين الراغبين بالتطوّع ضمن إطار شبه عسكري، مقابل إمتيازات ماليّة ومكافآت وسطوة داخل المجتمع الإيراني. وكحال الحرس الثوري، يستفيد الباسيج من هيمنته على قطاعات اقتصاديّة عديدة، وموارد عامّة وازنة، بالإضافة إلى بعض القوانين التي تعطيه امتيازات خاصّة، كالحصول على نسبة ثابتة من مقاعد الجامعات الإيرانيّة أو عمّال المصانع.

محاولة استيعاب

و نتيجة لكل هذه التطوّرات، بدا أنّ النظام الإيراني أدرك حجم الضغوط الشعبيّة التي تواجهه، والتي باتت تهدد سيطرته على المجتمع. وهذا ما أدّى إلى محاولة بعض رموز النظام استيعاب الحركة الاحتجاجيّة، كما فعل النائب العام الإيراني محمد جعفر منتظري، الذي صرّح يوم 5 ديسمبر/كانون الأوّل 2022 بأن البرلمان الإيراني والقضاء يراجعان قانون الحجاب الإجباري في البلاد. كما أشار منتظري إلى أنّ شرطة الأخلاق تم حلّها مبدئيًّا، من قبل الجهات التي أطلقتها، في إشارة إلى وزارة الداخليّة التي ترعى عمل هذه القوّات الأمنيّة.

في الشارع الإيراني، تم تفسير كلام منتظري على أنّه محاولة للوصول إلى حل وسطي، يراعي الظروف الداهمة التي طرأت بعد الاحتجاجات، والتي أدّت إلى التمرّد على قانون الحجاب الإجباري كأمر واقع. إلا أنّ هذا الكلام لم يحمل أي ضمانات تؤكّد الاتجاه نحو إلغاء القانون نهائيًّا، خصوصًا أن منتظري نفسه أكّد في التصريح عينه أنّ ظاهرة عدم رعاية الحجاب “أزعجت الجميع”. ولذلك، يخشى البعض أن تكون النتيجة توجه القضاء والبرلمان إلى اعتماد أساليب أكثر مرونة على المدى القصير، في ما يخص إجراءات فرض قانون الحجاب الإجباري، قبل العودة إلى فرضه بالشكل نفسه بعد انتهاء الاحتجاجات.

وفي جميع الحالات، أصبح من المؤكد أن مطالب الشارع الإيراني المنتفض باتت أبعد وأكبر من مسألة إلغاء قانون فرض الحجاب. إذ أنّ إلغاء فرض الحجاب، وإن مثّل مكسبًا مهمًّا للمتظاهرين، لن يقدّم الإجابة على جميع مطالب المحتجّين، التي شملت –كما ذكرنا سابقًا- مروحة واسعة من القضايا، التي تُعنى بفئات متنوّعة من الشرائح الاجتماعيّة. وحتّى في ما يخص حقوق النساء، لن يؤدّي إلغاء فرض الحجاب وحده إلى إنهاء سائر أشكال التمييز بحق المرأة في القوانين الإيرانيّة، التي تؤثّر على الكثير من المسائل التي تتخطى موضوع اللباس.

أمام هذا الواقع، باتت إيران تعيش شرخًا قاسيًا ما بين مجتمعها، وقوّة النظام الخشنة، أي مؤسسات الحرس الثوري والباسيج. فبفعل عقودٍ من التراكمات، انفجرت الاحتجاجات لتشمل النقابات العماليّة والجامعات والنساء ومناطق الأقليّات العرقيّة، وليرتفع سقف الخطاب السياسي مطالبًا بتغييرات جذريّة في بنية النظام نفسه.

ولكن في الوقت الراهن، من المؤكد أنّ هناك شبكات واسعة من المصالح داخل النظام، التي ستحول دون إجراء أي تغييرات سياسيّة وازنة من هذا النوع. وفي طليعة تلك المصالح تبرز حسابات المسيطرين على خيرات الاقتصاد الإيراني، من خلال مؤسسات الجمهوريّة الإسلاميّة غير التقليديّة، كالحرس الثوري أو الباسيج.