وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العراق: صراع وجود يقترب من فصله الأخير

العراق: صراع وجود
صورة تم التقاطها يوم ١٩ أغسطس ٢٠٢٢ لمناصري مقتدى الصدر وهم يؤدون صلاة الجمعة أمام بناء البرلمان في المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية بغداد، وذلك أثناء مواصلتهم الاحتجاج على ترشيح الكتلة الشيعية المنافسة لتسمية رئيس الوزراء المقبل. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

حسين علي الزعبي

“الاحتقان الشيعي الشيعي بلغ ذروته. وقد تندلع الحرب الأهلية في العراق جراء أي أحداث عنف فردية”، هذا ما نبه إليه وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري مؤخراً. هذا التصريح تزامن مع إشارة وسائل إعلام إلى تحذير وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بشأن إدخال إيران فرق تابعة للحرس الثوري إلى البلاد ضمن مخطط لاغتيال مقتدى الصدر.

ووصل الاستقطاب الحاد داخل البيت الشيعي، الحاكم الفعلي للبلاد، إلى فصله ما قبل الأخير. ويبدو أن الفصل الأخير سيكون مواجهة عسكرية بين القطبين الرئيسيين، وهما التيار الصدري والإطار التنسيقي. ويتزعم مقتدى الصدر التيار الصدري، وهو الشخصية الأكثر قدرة على تحريك العدد الأكبر من الشارع الشيعي. أما الإطار التنسيقي فيضم القوى السياسية الشيعية الرئيسية باستثناء التيار. وأبرزها هذه القوى ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، وائتلاف الفتح، الواجهة السياسية لميليشيات فيلق بدر، وكتلة صادقون، الذراع السياسي لميليشيات عصائب أهل الحق. كما يضم الإطار قوى سياسية وفصائل مسلحة أخرى أبرزها كتائب حزب الله. ولا تخفي معظم قوى الإطار ولاسيما المسلحة منها الولاء لإيران، بل منها من يجاهر بالقول إنه مكلف “شرعا” من الولي الفقيه، المرشد الإيراني علي خامنئي.

الخلاف غير المسبوق بين الطرفين بدأ منسوب سخونته عندما أعلن الصدر عقب فوزه بالانتخابات النيابية عزمه تشكيل حكومة أغلبية سياسية من خلال التحالف مع القوى السنية الكردية الفائزة. ورفض الصدر التحالف مع القوى الشيعية التي حكمت البلاد منذ سقوط 2003 باعتبارها أخفقت في إدارة البلاد وراكمت الفساد وجعلت العراق تابعا لإيران. وللمفارقة، فقد كان التيار الصدري كان جزءا فاعلا من هذه الحكومات “التوافقية المحاصصاتية”، وهو ما لم ينكره الصدر. لكن هذا الأخير رأى في تحالف خارج المحاصصة الطائفية بداية للإصلاح في البلاد؛ إصلاحٌ ينهي تقليد الحكومة التوافقية التي تشارك فيها جميع القوى وهذا ما يفقد الانتخابات قيمتها الحقيقية ويلغي مبدأ المعارضة، مثلما يعطل مفهوم المحاسبة.

وهذه الأخيرة واحدة من الأسباب الرئيسة للأزمة، إذ تعهد الصدر بمحاسبة المسؤولين عن الفساد بمن فيهم من كانوا ضمن تياره. وهذا يعني محاسبة قيادات الإطار أيضا باعتبارهم كانوا يحكمون البلاد. كما تعهد الصدر بفتح ملفات منها محاسبة المسؤولين عن سقوط ثلاث محافظات عراقية من بينها الموصل خلال أيام قليلة بيد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وهذا الملف يتعلق بشكل مباشر بنوري المالكي الذي كان رئيسا للوزراء وقائدا عاما للجيش في تلك الآونة.

الصدر أيضا دعا إلى ضبط السلاح ودمج الفصائل في الجيش. وهذا يعني سحب أدوات القوة والتخلص من حالة فرض الأمر الواقع بما يخدم شرائح سياسية معينة. وفي الوقت الذي تؤدي فيه هذه الفصائل مهمات خارجية بإشراف إيراني، فإنها تعتبر نفسها جزءاً من “محور المقاومة”. وفي هذا السياق، جاءت مشاركتها في القتال إلى جانب النظام السوري حليف طهران. وبالتالي، فإن فقدان الفصائل لسلاحها يعني خسارة إيران لذراعها العسكري في العراق الذي يشكل جسرا للعبور إلى المنطقة كلها. وهذا ما يجعل الصراع بين الطرفين “صراع وجود”؛ صراعٌ كشفت عنه التسريبات المنسوبة لنوري المالكي، وفيها يشير، إن صحت هذه التسريبات، إلى علاقته بالحرس الثوري وإمكانية الإطاحة بالصدر وتنفيذ انقلاب عسكري بواسطة الميليشيات.

في مقابل طروحات التيار، فقد اعتبر قادة الإطار التنسيقي أن التيار وكذا السنة والأكراد كانوا جميعا شركاء في حالة الفشل التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين. ورفع الإطار شعار “حماية المكون الأكبر، المكون الشيعي”، في محاولة منه لاستقطاب الشارع، لاسيما بعد تشكيل الصدر التحالف الثلاثي “التيار الصدري، وتحالف السيادة (سنة)، والحزب الديمقراطي الكردستاني”. إلا أن هذه المحاولة لم تنجح، إذ بدا الشارع بالعموم مرحبا بما طرحه الصدر. كما لجأ، وفق اتهامات الصدر نفسه، إلى استهداف مناطق في كردستان وفي ومحافظة الأنبار (سنية) بالصواريخ. واستهدف الإطار مقرات الأحزاب الكردية ومقرات تحالف السيادة في بغداد في محاولة للضغط من أجل تفكيك التحالف الثلاثي.

الإطار، الذي أخفق في تجييش الشارع وتفتيت التحالف، نجح في إحداث ثلث معطل داخل البرلمان. ومنع هذا الثلث التحالف الثلاثي من تشكيل الحكومة لأنه كان بحاجة لأكثر من ثلثي أعضاء البرلمان لتحقيق نصاب عقد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية ليكلّف الرئيس المنتخب الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة. وجاء ذلك بعد جدل قانوني حسمته المحكمة الاتحادية التي اتهمت بمحاباة الإطار.
الصدر الذي فاز بالانتخابات (74 نائبا) وجد نفسه عاجزا على تشكيل الحكومة. وفقد فوزه في الانتخابات مفعوله، الأمر الذي دفعه للطلب من أعضاء كتلته الانسحاب من البرلمان ومنح الإطار مهلة 40 يوما لتشكيل الحكومة، وذلك بعد أن تم تعويض النواب المنسحبين بآخرين كان جميعهم من قوى الإطار.

اضطر الإطار بهدف تشكيل الحكومة للعودة إلى أعداء الأمس، الكرد والسنة. لكن هؤلاء ابقوا على تحالفهم مع الصدر وطلبوا من الإطار التفاهم أولا مع الصدر. وبعد انتهاء المهلة، نزل أنصار الصدر إلى الشارع وسيطروا على البرلمان، مطالبين بحله وإجراء انتخابات نيابية مبكرة. الإطار لم يرفض طرح الصدر، لكنه اشترط انعقاد البرلمان وتشكيل حكومة وتعديل قانون الانتخابات وتغيير مفوضية الانتخابات، وهذا ما رفضه الصدر. وبدأت بعد ذلك حرب المظاهرات بين الطرفين واستعراض القوة في الشارع. ومعها، بدت المخاوف الفعلية من حدوث احتكاك قد يشعل نار الحرب. كما بدأت الدعوات للحوار وكانت البداية من مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الذي دعا لعقد طاولة حوار مستديرة إلا أن الأطراف السياسية لم تستجب لها.

العراق: صراع وجود
صورة تم التقاطها يوم ١٥ أغسطس ٢٠٢٢ لمناصري الإطار التنسيقي العراقي أثناء احتشادهم لاعتصام على أحد الجسور التي تقود إلى المنطقة الخضراء ذات الطبيعة الأمنية العالية في العاصمة العراقية بغداد. واحتشد مناهضو رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر اعتصامهم بعد حوالي أسبوعين من اقتحام مناصري الصدر للبرلمان وبدء احتجاج مفتوح داخل مبنى البرلمان وبعد خارجه. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE / AFP.

التصعيد الإعلامي بين الطرفين والتغريدات شديدة اللهجة سيطرت على المشهد. وزاد من مخاوف الانزلاق إلى ما لا يحمد عقباه، لاسيما بعد أن دعا الصدر لمظاهرات مليونية في كل مدن وقرى العراق وحدد يوم السبت 20 يوليو 2022 موعدا لها. بالمقابل، بدأ الإطار بحشد جمهوره للتظاهر، الأمر الذي دفع الصدر لتأجيل موعد المظاهرة حتى إشعار آخر. وقال الصدر في بيان: “إن كنتم تراهنون على حرب أهلية، فأنا أراهن على الحفاظ على السلم الأهلي. وإن الدم العراقي غال بل أغلى من كل شيء.. أعلن تأجيل موعد تظاهرة يوم السبت إلى إشعار آخر لكي أفشل مخططاتكم الخبيثة ولكي لا أغدّي فسادكم بدماء العراقيين ولكي لا تبقى قيادات الفساد تعيث في الأرض فساداً”.

في الوقت الذي رأى المراقبون في تأجيل المظاهرة فرصةً للتهدئة. كما أنه منح هادي العامري، أحد قادة الإطار التنسيقي، مزيدا من الوقت لإكمال جولاته المكوكية إلى إقليم كردستان لإجراء مباحثات مع مسعود البارزاني، حليف الصدر على أمل الوصول إلى حل.

وعقب إعلان الصدر تأجيل المظاهرات بساعات، خرجت ميليشيات كتائب حزب الله العراقي الموالية لإيران ببيان تصعيدي هددت فيه بالنزول إلى الميدان. وجاء في البيان: “لمقتضيات المصلحة العامة، وحتى لا تنزلق الأمور إلى ما يريد العدو وعملاؤه، ولِوَأدِ الفتنة التي قد تعصف بالعراق وأهله، فتاوى علمائنا الأعلام التي أكدت وأوجبت قطع الطرق على البغاة أيّاً كان ما يدّعون، وإلى أي فريق ينتمون، فإننا في كتائب حزب الله سنتخذ قرارات ميدانية تهدف إلى حماية السلم المجتمعي، عملا بالتكليف لدفع الشر عن شعبنا العزيز”.

البيان، وفي مفارقة، أكد في الوقت نفسه على: “احترام السلطة القضائيّة، والاحتكام إلى الدستور وتقديم مبدأ الصلح، والحلول السلمية، بديلاً عن التصعيد بالتهديد والوعيد”.

وفي هذا السياق، قال الباحث في الشأن السياسي العراقي يحيى الكبيسي في حوار تلفزيوني: “نحن أمام مسارين لا يمكن إلا أن يؤديا إلى الإصطدام. لهذا، لا بدّ من اتفاق سياسي، فالدستور لم يعد قادرا على إنتاج حل. ولايمكن الإعتماد على القوة لإنتاج حل، لأن هناك نوعٌ من التكافؤ ليس على مستوى الشارع وإنما على مستوى السلاح. وهذا هو مكمن الخطورة. لذلك، لا بدّ من البحث عن رؤية أخرى خارج الإطار الدستوري وكذلك خارج الإنقلاب على النظام السياسي عبر الشارع”.

الكبيسي يخلص إلى أن الحل: “يكمن في أن يتم اتفاق سياسي يتضمن حزمة كاملة من الإجراءات تؤدي في النهاية إلى حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة”. وأضاف الكبيسي: “الدستور لا معنى له في العراق، الصفقات هي الحاكمة. وعندما يتوصل الإطار إلى صفقة ناجحة سينسى الدستور. من السذاجة أن يستقوي أي طرف على آخر بسياقات سواء كانت هذه السياقات النص الدستوري أو الشارع، لأن من سيحسم الأمر هو السلاح”.

إلا أن الباحث السياسي عبد الواحد المياحي يستبعد، في حديثه لـ “فنك” المواجهة العسكرية بين الطرفين، معيدا الكرة إلى إيران التي يرى أنها لن تسمح للصدر بإتمام مشروعه. كما أن طهران، بحسب المياحي، لن تسمح للصدر بالانزلاق إلى مواجهة عسكرية، وإن حدث ذلك سيكون خاسرا حتى لو اضطرت لاغتياله.

ويقول المياحي لـ “فنك”: “إيران لن تقبل، ما دامت قادرة، بأن يتحول العراق حتى لمجرد محايد. هي تريده تابعا لها، وهي إلى الآن تملك الأدوات لتحقيق هذه التبعية، وإلا كيف يمكن لنا أن نقرأ تصريحات أحد قادة الإطار وقائد ميليشيا العصائب قيس الخزعلي حين أعلن الإطار ترشيحه لمحمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة”. وفي هذا الإطار، قال الخزعلي: “الإخوة في الجمهورية الإسلامية راضون عن السيد محمد شياع السوداني”.

ويرى المياحي أنه: “إذا أخفقت إيران في تسوية الأمور وفق مصالحها في العراق، فإن القوى الدولية ستسعى لمنع الانزلاق إلى الفوضى، في هذه المرحلة على الأقل. وبما أن العراق مصدر رئيسي للبترول، فإن حدوث الفوضى يعني أن السوق العالمي سيتأثر، وهو أصلا متاثر بالحرب في أوكرانيا. كما أن الميليشيات التي سبق وهددت دول الخليج بالطائرات المسيرة، يمكن أن تحول التهديدات إلى أفعالٍ من شأنها كذلك أن تؤثر على مصادر الطاقة، لاسيما الغاز”.

ولا يستبعد المياحي أن يكون إعلان الصدر تأجيل المظاهرات إلى إشعار آخر استجابة لضغوط إيرانية ودولية. كما أنه لا يستبعد أن يكون قبول الإطار التنسيقي بدعوة الكاظمي لاجتماع الطاولة المستديرة بشكل مفاجئ في السياق نفسه أيضا. فيما لم يصدر عن التيار الصدري أي موقف بهذا الشأن حتى ساعة إعداد هذه المادة.