يبدو أن تشكيل حكومةٍ جديدة في العراق واستقرار البلاد مستقبلاً بات موضع شكٍ مرةً أخرى، حيث اجتاحت احتجاجاتٌ جماهيرية في يوليو 2018، ضد الفساد المستشري وشح الخدمات العامة، جنوب البلاد وخارجها، مما أدى إلى شن حملةٍ أمنية عنيفة ومقتل متظاهرين.
فالإضطرابات مبنيةٌ على عوامل جيوسياسة أكبر: فقد اندلعت أولى الاحتجاجات في البصرة، المركز الرئيسي لصناعة النفط، بعد توقف إيران عن تزويد المنطقة بالكهرباء، مدعيةً أنها لا زالت تنتظر دفع فواتير مستحقة بقيمة 1,5 مليار دولار. وقالت بعض المصادر السياسية والمحللين لقناة الجزيرة إنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة قد ضغطت على المسؤولين العراقيين لعدم الدفع، في إطار تصاعد الصراع على القوة مع إيران تحت قيادة الرئيس دونالد ترمب. ويشمل ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015 وإعادة فرض عقوباتٍ قاسية على إيران.
إلا أن الاحتجاجات تخطت مجرد مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وتخطت حدود البصرة، لتشمل العاصمة بغداد، موجهةً الغضب الشعبي نحو مجموعةٍ واسعة من المظالم ضد السلطات الحكومية وغير الحكومية.
وبحلول 21 يوليو، قُتل 11 شخصاً على الأقل على يد قوات الأمن وجنود الميليشيات والمهاجمين غير المعروفين في المظاهرات. وقد سارع المسؤولون الحكوميون إلى التعهد بتحسين الخدمات العامة على أمل كبح جماح الاحتجاجات، في حين تعرضوا لانتقاداتٍ بسبب رد الفعل الأمني العنيف. وأفاد المحتجون بأن قوات الأمن لجأت مراراً إلى استخدام الرصاص الحي لتفريق المظاهرات، مما أدى إلى جرح وقتل المتظاهرين السلميين.
وفي أحد مقاطع الفيديو التي حصل عليها مركز الشرق الأوسط لإعداد التقارير والتحليل، يتساءل رجلٌ يبكي على أحد المتظاهرين الذين قتلوا بقوله “أين كان الجيش عندما هاجمنا [داعش]؟ لمَ لم يحاربهم الجيش؟ لم يقوموا بحمايتنا، إلا أنهم اليوم يقتلوننا لأننا نطالب بحقوقنا الأساسية بسلمية.”
فيما أعربت منظمة العفو الدولية عن مخاوفها من أن الحكومة العراقية تتعمد قطع الاتصال بالإنترنت لمنع المتظاهرين من مشاركة لقطاتٍ للقوة المفرطة التي تستخدمها قوات الأمن. وقالت المجموعة المعنية بحقوق الإنسان إنها تلقت تقارير عن استخدام قوات الأمن للغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية ضد المتظاهرين السلميين في البصرة.
كما تلقت المجموعة تقريراً عن اثنين من المتظاهرين في بغداد الذين تم جرهم إلى سيارةٍ ما معصبي الأعين من قبل رجالٍ مسلحين يرتدون ملابس مدنية، إذ تم نقل المتظاهرين إلى مكانٍ مجهول حيث زُعم أنهم تعرضوا للضرب والصعق بالمسدسات الكهربائية واستجوبوا حول أولئك الذين نظموا الاحتجاجات وطرحت عليهم أسئلةٌ عما إذا كانوا ينتمون إلى جماعاتٍ متطرفة. ثم أُجبروا بعد ذلك على توقيع أوراقٍ دون إبلاغهم بمحتواها، ثم أُفرج عنهم. من جانبهم، أضرم المحتجون النار في مكاتب الأحزاب السياسية في جميع أنحاء الجنوب واقتحموا المباني الحكومية ومطار النجف.
فقد اندلعت الاضطرابات والقمع في 8 يوليو، عندما تجمعت الحشود في البصرة للاحتجاج على فشل الحكومة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه النظيفة، إذ تسبب النقص المزمن في الكهرباء في معاناةٍ كبيرة لا سيما خلال أشهر الصيف، عندما تصل درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية.
ومن القضايا الأخرى أيضاً ارتفاع معدلات البطالة، إذ تعدّ هذه مشكلةً تبعث على الاستياء على وجه الخصوص في مدينة البصرة، حيث تعرض قطاع النفط المربح لانتقاداتٍ بسبب منحه غالبية وظائفه للعمال الأجانب. ويقال إن هذا القطاع يمثل 89% من ميزانية الدولة و99% من إيرادات التصدير في البلاد، بيد أنه لا يغطي سوى ما نسبته 1% من الوظائف.
وعليه، وضعت لجنةٌ تمثل المتظاهرين قائمةً بالمطالب في مؤتمرٍ صحفي أقيم في البصرة في 16 يوليو، وذلك بحسب موقع روداو الإخباري الكردي. وشملت المطالب الآتي: وضع خطةٍ لحل مشكلة نقص المياه والكهرباء بجدولٍ زمني واضح؛ وتسريح العمال الأجانب وتوظيف سكان البصرة في حقول النفط؛ وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية؛ وإقالة العديد من المدراء المحليين المسؤولين عن الأمن والخدمات في البصرة؛ فضلاً عن عددٍ من الشروط المتعلقة بالشفافية وتخصيص البترودولار.
وبالتالي، شن رئيس الوزراء حيدر العبادي حملة علاقاتٍ عامة، معلناً عن خططٍ لتحسين الخدمات العامة والظروف الاقتصادية في جميع أنحاء البلاد، ولا سيما في البصرة، حيث قال مجلس الوزراء إنه سيوفر 10 آلاف فرصة عمل. كما حاول العبادي لفت الانتباه إلى دور حكومته في القتال الناجح ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وقال في بيانٍ صدر عن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء: “اننا صمدنا وخرجنا منتصرين على الارهاب وننطلق للبناء وتوفير الخدمات والبناء والاعمار ويجب ان نتعاون جميعناً من حكومة اتحادية ومحلية وعشائر ومواطنين ومؤسسات ومنظمات لنقدم خدمة، فالتحارب والصراع لن يقدم تلك الخدمة للمواطن.”
وفي بيانٍ منفصل، قال رئيس الوزراء “إننا لم نقاتل عصابة داعش التي احتلت مدننا وهددت كل العراق الا من اجل دفع الضرر عن شعبنا وتوفير حياة آمنة مستقرة وخدمات لائقة لجميع العراقيين.”
وفي غضون ذلك، أيد رجل الدين مقتدى الصدر، الذي ظفر ائتلافه السياسي بانتصارٍ مفاجىء في الإنتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر مايو الماضي، مطالب المحتجين. فقد دعا عبر تويتر إلى تعليق محادثات تشكيل الحكومة إلى حين إتمام تلبية “مطالب المتظاهرين الحقة” وتشكيل “خلية عملٍ” جادة مع الحكومة بالتنسيق مع المتظاهرين من أجل تنفيذها. بالمثل، حث آية الله العظمى علي السيستاني السلطات على معالجة مظالم المحتجين، بينما دعا المحتجين إلى الحفاظ على سليمة المظاهرات.
ولم تستهدف الاحتجاجات الأحزاب السياسية فحسب، بل أيضاً إيران والميليشيات المرتبطة بها، التي تتمتع بنفوذٍ كبير في العراق. فقد قتل أحد المتظاهرين في البصرة بالرصاص على يد حارس أمنٍ خارج مكتب منظمة بدر، وهي جماعة شبه عسكرية قوية مدعومة من إيران.