في 7 أغسطس عام 2018، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على تويتر أن “العقوبات الإيرانية فُرضت رسمياً… وفي نوفمبر، سيتم تشديدها إلى مستوى جديد. أي جهة تتعامل تجارياً مع إيران لن يكون بإمكانها التعامل تجارياً مع الولايات المتحدة.” كان هذا متوقعاً منذ أن سحب ترمب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في 8 مايو 2018. بيد أن إيران تراهن على المجتمع الدولي للوقوف ضد العقوبات الأمريكية ودعم إيران. وعليه، رد وزير الشؤون الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، على ترمب بأن “العالم قد سئم وتعب من تفرّد الولايات المتحدة… لن يتبع العالم إملاءات تويتر المتهورة. اسأل فحسب الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والعشرات من شركائنا التجاريين الآخرين.”
بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، تم تشجيع إيران من قبل أطراف أخرى في الصفقة بالمحافظة على التزامها للحصول على الأرباح الاقتصادية المتوقعة يوم التوقيع. وبالفعل، هذا ما حصل. ومع ذلك، ما توقعته إيران في المقابل هو أن يمنح المجتمع الدولي اقتصادها شريان حياة في ظل الوضع العصيب الناجم عن العقوبات الأمريكية المتجددة. وعلى الرغم من ذلك، أبدى العديد من المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، شكوكهم حول مواجهة الاتحاد الأوروبي والأطراف الأخرى في خطة العمل الشاملة المشتركة لواشنطن وإبقاء الصفقة على قيد الحياة. ومع ذلك، أعلنت طهران مراراً وتكراراً أنها ستلتزم بخطة العمل الشاملة المشتركة طالما أن الصفقة تخدم مصالحها الوطنية.
وفي الوقت الراهن، تضامنت مجموعة 4+1 (مجموعة 5+1 دون الولايات المتحدة) لمقاومة الضغوطات الأمريكية وواصلت إصرارها على إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة. غير أن رد الفعل المستغرب جاء من قِبل جارة إيران وصديقتها، العراق، إذ قال رئيس الوزراء، حيدر العبادي، في 7 أغسطس أن “حكومته لا تتعاطف مع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، لكنها ستلتزم بها لحماية مصالحها.” بعبارةٍ أخرى، على الرغم من اعتبار العقوبات “خطأ استراتيجي” من طرف الولايات المتحدة، إلا أنه أعلن أن حكومته ستلتزم بسياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه إيران. وبعد ستة أيام، في 13 أغسطس، سحب العبادي أول تصريح له في ظل موجةٍ من الانتقادات وقال إن “حكومته ستحترم فقط الحظر المفروض على التعاملات بالدولار في الصفقات مع إيران.” أي بمعنى أن العراق لن يستخدم الدولار في تعاملاته مع إيران بسبب العواقب المحتملة على اقتصادها. ولكن لماذا سارع العبادي إلى الإعلان عنها في المقام الأول؟ ولماذا سحب تصريحاته مرةً أخرى؟ هناك ثلاثة احتمالات ترتبط جميعها بالانتخابات العراقية ومستقبل رئاسة الوزراء:
الجانب الشخصي: عندما أجرى العراق انتخاباته البرلمانية المتنازع عليها في 12 مايو 2018، كان العبادي يأمل في الحصول على أغلبيةٍ في البرلمان تضمن له ولاية ثانية كرئيسٍ للوزراء، إلا أن ائتلافه حل في المرتبة الثالثة، خلف ائتلاف سائرون بقيادة مقتدى الصدر وتحالف فتح بقيادة هادي العامري على التوالي، حيث دعمت إيران تحالف فتح وتحالف دولة القانون للمالكي. لذا على الصعيد الشخصي، خسر العبادي أمام الموالين لإيران، باستثناء الصدر. فهو يعلم تماماً أن إصرار إيران على المالكي – الذي فاز في انتخابات عام 2014 – ما أفسح المجال لرئاسة العبادي في المقام الأول، وهو يعرف اليوم أن إيران تدعم خصومه وأن هذا الدعم حرمه من انتصاراتٍ انتخابية. لذا يحاول رفع التكلفة على إيران لتفكر طهران مرتين قبل الانتقال إلى مرشحٍ آخر. بعبارةٍ أخرى، حتى وإن لم ينجح في الاحتفاظ بمنصبه، ستكون خسارته باهظة الثمن لإيران.
الجانب القومي: بالرغم من معرفته السابقة بأنه ليس ضمن خيارات إيران لرئاسة الوزراء، إلا أن العبادي يعتمد على المشاعر الوطنية المتنامية في العراق. فقد كانت أعمال الشغب الأخيرة في البصرة، التي شهدت في نهاية المطاف إضرام المحتجين النار بالقنصلية الإيرانية، جزءاً من هذه المشاعر- رغم أن أسبابها الجذرية تبدو أعمق من ذلك. فقد باتت هذه الاتجاهات السياسية للمجتمع العراقي، لأول مرة منذ عام 2003 ، تتكشف بطريقةٍ مناهضة لإيران. ففي حين يتهم الإيرانيون السعودية وغيرها من الدول بالتحريض على إشعال الخلافات بين “الدولتين الشقيقتين،” إلا أن السياسيين العراقيين يرون قيمة في النأي بالبلاد عن إيران. فقد كان مقتدى الصدر أحد الأمثلة على ذلك، يليه عمار الحكيم، الذي انسحب من المجلس الإسلامي الأعلى، الأكثر ميلاً لإيران، وأسس هيئة جديدة حملت اسم تيار الحكمة الوطني.
وبالتالي، بعد أن شهد العبادي نجاح حملاتهم الإنتخابية، لجأ اليوم إلى الموقف القومي البعيد عن إيران ليحشد الدعم له بين العراقيين للظفر بولايةٍ أخرى كرئيسٍ للوزراء.
الجانب الأمريكي: بينما يفقد العبادي إمكانية الحصول على دعم إيراني لولايةٍ ثانية، فقد بات يحتاج اليوم إلى مؤيدٍ خارجي للتنافس مع المرشحين والتحالفات المدعومة من إيران. ولضمان دعم الولايات المتحدة، لم يفوّت يوماً واحداً ليعلن دعمه للسياسة الأمريكية المناهضة لإيران خلال فترة ولايته الثانية.
إلا أن السؤال المطروح هو لماذا سحب العبادي موقفه الأول. قد يكون السبب في ذلك تزايد الانتقادات والضغط على العبادي داخل العراق، حتى من شخصياتٍ مثل الصدر والحكيم، الذين ينظر إليهم على أنهم رؤساء قومية العراق الجديدة. ولربما كان ذلك أيضاً نتيجة إعادة تقييمٍ لحاجة العراق إلى مواصلة تعاونه الاقتصادي والتجاري مع طهران. وبما أن العراق يستورد معظم احتياجاته من الغذاء والكهرباء والوقود ومواد البناء والسيارات وما إلى ذلك من إيران، ستكون بغداد في وضعٍ صعب إذا ما أرادت الالتزام الكامل بمجموعة العقوبات الجديدة.
على الرغم من أن العبادي محقٌ في أحد الجوانب، حيث أنه من دون الالتزام بالعقوبات الأمريكية قد تتعرض مصالح العراق للخطر، إلا أنه لم تكن هناك حاجةٌ للإسراع في الإعلان عن مثل هذه السياسة. في الواقع، بدأت حكومته في تنفيذ أجزاء من العقوبات، بما في ذلك حظر المعاملات بالدولار بين البنوك العراقية والإيرانية والمؤسسات المالية ووقف استيراد السيارات الإيرانية، دون الإعلان عن ذلك. فقد شكلت هذه خطواتٍ كبيرة بالنسبة للبلدين، ذلك أن العراق تحت حكم المالكي كان من بين المصادر الرئيسية لدخول العملات الصعبة إلى إيران، وبخاصة خلال فترة “عقوبات أوباما التي سببت شللاً للبلاد،” ومن جهةٍ أخرى، كان العراق أحد أهم المستوردين لصناعة السيارات في إيران. فقد اتخذت حكومة العبادي هذه الاجراءات دون الإعلان عن ذلك وإثارة غضب إيران. وبالإضافة إلى ذلك، لا يزال العبادي رئيس الوزراء مؤقتاً، ولا يتوقع منه أحد – بما في ذلك إيران والولايات المتحدة- توضيح موقفه من مثل هذه المسألة. لهذا السبب لا يمكن تفسير إعلان العبادي إلا فيما يتعلق بالترشح لرئاسة الوزراء وفي ضوء أمل العبادي في الحصول على الدعم الأمريكي.
وعلى صعيدٍ متصل، لم يعد العبادي شخصيةً جديرة بالثقة لإيران بعد اليوم. فلطالما كان هدف بغداد الرئيسي منذ عام 2003 هو الحفاظ على الصداقة مع إيران والابتعاد عن الأعمال العدائية الأمريكية ضد طهران. وبالوقوف إلى جانب واشنطن ومحاولة اللعب بورقة القومية ضد طهران، خسر العبادي حظوظه مع القوى الإيرانية. لذلك، في حين بدا أن مكتب العبادي كان قد أدرج زيارةً له لطهران، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أنه لا علم له بمثل هذه الزيارة، مما يعني أنه لا أحد في طهران يرغب في مناقشة رئاسة الوزراء مع الرجل بعد تعليقاته بخصوص العقوبات الأمريكية. وبالتالي، ذكر مكتب العبادي أن جدول أعماله لا يسمح بمثل هذه الزيارة. فقد أوضحت ردود فعل إيران تماماً المنحنى الذي باتت تتخذه سياساتها.
فقد تباينت ردود الفعل الإيرانية ما بين الحاجة إلى إجبار العراق على تعويض إيران عن الحرب التي دامت ثماني سنوات (1980-1988)، وما بين تذكير العراق بمساعدة إيران لها في التعامل مع أكثر القضايا إلحاحاً في السنوات الأخيرة- تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” والانفصال الكردي- وصولاً إلى إحتياج العراق لقدرات إيران في إعادة الإعمار. ولكن من المتوقع أن يُلقي رد الفعل الرئيسي بظلاله على مستقبل رئاسة الوزراء، حيث تدل المؤشرات من طهران إلى أن إيران ستبذل قصارى جهدها لمنع العبادي من البقاء في منصبه. ويبدو أن التطورات الأخيرة في البصرة، فضلاً عن عجز العبادي احتواء الوضع، تحرك المشهد العراقي لصالح إيران. ووفقاً للعديد من المحللين، فقد العبادي فرصه في ظل هذه التطورات. وإلى جانب معاقبته، يعدّ رد الفعل الإيراني غايةً في الأهمية ذلك أنه يضع معياراً لأولئك الذين يفكرون في استغلال إيران في منافساتهم الداخلية.
وإلى جانب المنافسة المريرة على كرسي رئاسة الوزراء، تكمن حقيقةٌ أكبر حجماً: فالعراق لا يمكنه الاختيار ما بين إيران والولايات المتحدة، إذ أنه في حال فعل ذلك، ستكون خسائره أكبر بكثير من مكاسبه. ومع أخذ ردود الفعل الداخلية على تعليقات العبادي بعين الاعتبار، فإن محاباة أحد الأطراف من شأنه أن يعمق الفجوات السياسية في العراق، مما قد يؤدي بدوره إلى اضطراباتٍ اجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تساعد مثل هذه السياسة في عملية إعادة الإعمار في العراق، ذلك أن إيران تمتلك القوة لعرقلة وتدمير مثل هذا الجهود في وجه بغداد. كما سيعيد ذلك إحياء الخصومات الإقليمية إلى البلاد. لذا، فإن الانحياز إلى إيران أو الولايات المتحدة سيكون له تداعيات على السياسة الداخلية العراقية، والموقف الإقليمي والوضع الدولي. وعلى جميع المستويات الثلاث، مكاسب العراق محدودة، إلا أن خسائره ستكون جسيمة بكل تأكيد.