وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

كردستان العراق: إقليم مستقل أم مجموعة شركات تابعة لتركيا؟

كردستان العراق
صورة تم التقاطها يوم ٢٠ مارس لامرأة وهي تحمل بيدها مشعلاً وترتدي ملابس احتفالية قبل إنارة مشعل وذلك أثناء احتفال أكراد العراق بعيد النوروز شمال مدينة السليمانية الموجودة في إقليم كردستان الذي يحظى بالحكم الذاتي في العراق. المصدر: Shwan MOHAMMED/ AFP.

علي العجيل

أنتج الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 واقعاً جديداً في علاقة تركيا بأكراد العراق، وقلل من نسبة التوتر الذي كان يحكم العلاقة السابقة بين الجانبين.

فتركيا التي عُرِفت دائماً بمحاربتها وعدائها لكل ما هو كردي، تستقبل رئيس إقليمهم الذي لطالما وصفته بالزعيم العشائري فحسب استقبالاً ضخماً، وتفرش له السجاد الأحمر كلما زار تركيا. أما حركة التجارة التركية وعدد زيارات الأفراد في سبيل العلاج أو التجارة أو السياحة تجاه كردستان العراق ففي تزايد مستمر على مدار الساعة.

هذه المعادلة الجديدة تشير إلى أن تركيا باتت تعرف جيداً بأن الأكراد صاروا يشكلون رقماً صعباً ومهماً في صناعة المشهد السياسي العراقي.

صراع مرير

رغم تغيّر المعادلات السابقة وانتقال العلاقة التي اتسمت بالتوتر والقلق والعداء طيلة العقود الماضية بين الجانبين إلى مرحلة جديدة تقوم على المصالح المشتركة والتعاون، إلّا أن ثمة خوف رهيب يعتري أي كردي إزاء تركيا التقليدية.

ولعل سبب كل هذه المخاوف تلك التجربة التاريخية التي عاشها الأكراد منذ قرن تقريباً، والتي بدأت مع تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923. فهذا الأخير سحق العديد من الثورات والحركات الكردية، مثل ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 التي اندلعت احتجاجاً على إعلان أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية وإنكاره للحقوق القومية الكردية التي وعد بها. وبعد قمع هذه الثورة وإعدام معظم قادتها ومنهم الشيخ سعيد، واصل أتاتورك سيره وفقاً لهذه المنهجية حتى نهاية عهده.

أما بالنسبة لأكراد العراق، فإنه إضافة إلى هذا الكم الهائل من الخوف ثمة مخاوف إضافية ارتبطت بالسياسة التركية التقليدية تجاه إقليم كردستان. وتصر تركيا على عدم الاعتراف بالإقليم إلى يومنا هذا وتنكر من خلال إعلامها ومراسلاتها وتصريحات مسؤوليها مصطلح كردستان، مفضلةً استخدام اسم “إقليم شمال العراق” عند الإشارة إليه. كما أنها تتخذ من حزب العمال الكردستاني كذريعة للتوغل العسكري في الإقليم، وبناء المزيد من القواعد العسكرية، وقصف الكثير من النقاط المدنية فيه بشكل مستمر.

وكان هذا الحزب، الذي نشأ في بدايته بأيديولوجية ماركسية لينينية، قد شنّ صراعاً مسلحاً ضد الحكومة التركية منذ عام 1984. ولقي أكثر من 40 ألف شخصاً حتفهم منذ اندلاع الصراع الذي وصل إلى ذروته أواسط تسعينيات القرن الماضي بين الطرفين.

وبقي الأمر كذلك حتى أعلن عبد الله أوجلان زعيم الحزب المحتجز لدى تركيا منذ عام 1999وقف إطلاق النار في عام 2013، داعياً حزبه إلى ترك السلاح وبدء مرحلة جديدة تقوم على الحراك السلمي وحسب.

هذا الاتفاق انهار في عام 2015، بعد شن تركيا لهجوم بري في 17 يونيو أطلق عليه اسم “عملية مخلب النمر”، حيث تقدمت القوات التركية لمسافة 40 كيلومتراً داخل العراق وأقامت هناك أكثر من 30 قاعدة مؤقتة لها.

سقوط الخطوط الحمر

لطالما كانت نظرة القوميين الأتراك إلى الأكراد على أنهم “أتراك صعدوا إلى الجبال ونسوا هويتهم القومية هناك” وأنهم مجرد عشائر وقبائل متمردة تبحث عن إقامة دولة كردية في المنطقة ومستعدين للتحالف مع أعداء تركيا، وأن الحديث عن قيام دولة “كردستان” يعني الحديث رسمياً عن نهاية تركيا.

وعندما غزت القوات الأمريكية العراق، وضعت تركيا مجموعة كبيرة من الخطوط الحمر التي لن تسمح أبداً بتجاوزها، مثل عدم السماح بدخول القوات الكردية (البيشمركة) إلى مدينتي كركوك والموصل والسيطرة عليهما.

ومن الخطوط الحمر التركية رفض ضم كركوك إلى إقليم كردستان تحت أي بند، فضلاً عن عدم السماح بتاتاً بإقامة دولة مستقلة في شمال العراق كيلا يؤدي الأمر إلى تداعيات مباشرة على وضع أكراد تركيا الذين يزيد عددهم على أكراد العراق بأضعاف. كما تتضمن قائمة الخطوط الحمر التركية الدفاع عن حقوق الأقلية التركمانية في حال تعرضها لأي اضطهاد من قبل أكراد العراق.

قائمة الخطوط التركية تطول خاصة إذا ما تعلقت بأمن تركيا القومي، وهو ما يجعل أنقرة مستعدة على الدوام لاجتياح شمال العراق في حال خرقها من قبل الأكراد.

بيد أن هذه الخطوط الحمر باتت تتساقط تباعاً بمرور الزمن، لتشهد العلاقة بين الجانبين انفراجة كبيرة في السنوات الأخيرة على وقع المصالح التجارية والسياسية المتبادلة.

الدولة “الزبون”

كردستان العراق
صورة تم التقاطها يوم ٢٣ أغسطس ٢٠١٧ لرئيس إقليم كردستان العراق الأسبق مسعود بارزاني (يمين) أثناء لقائه وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو في أربيل، عاصمة المنطقة الكردية التي تتمتع بالحكم الذاتي في شمال العراق. المصدر: SAFIN HAMED / AFP.

“إن التجارة هي مفتاح السياسة وتطوير علاقاتنا سيسمح بحل مشكلاتنا”. لعل هذا التصريح الذي صدر عن وزير الدولة التركي الأسبق لشؤون التجارة الخارجية ظافر تشالايان يعبر جيداً عن العلاقة الجديدة بين تركيا وأكراد العراق.

فاليوم، وعلى الرغم من تراجع التبادل التجاري بين الجانبين في أعقاب سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على ثلث مساحة العراق عام 2014، إلا أن العراق وإقليم كردستان عادا ليكونا واحداً من أهم الأسواق التركية.

وفي هذا السياق، أعلن السفير التركي في بغداد فاتح يلدز ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق إلى 20.66 مليار دولار في العام 2020، لافتاً إلى أن العراق يأتي في المرتبة الرابعة بين كبار مستوردي السلع التركية بعد كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.

معظم هذه الصادرات تمت عبر منفذ إبراهيم الخليل البري بقضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك بإقليم كردستان (الذي سيكون من الممكن وصفه بالدولة “الزبون” لتركيا في حال استقل).

كما يظهر الوجود التجاري التركي في الإقليم وبالذات في تلك المناطق الخاضعة لسيطرة البرزاني، بوضوحٍ أكبر مقارنة مع أي من دول الجوار. فالعلامات التجارية التركية منتشرة في كافة أرجاء الإقليم، بدءاً من مراكز التسوق ووصولاً إلى متاجر الأثاث والسلع التجارية والاستهلاكية، حتى أن سكان الشمال يفضلون البضائع التركية على غيرها من بضائع الدول الأخرى. يأتي ذلك في الوقت الذي وصل فيه عدد الشركات التركية العاملة في الإقليم إلى أكثر من 1500 شركة كبيرة وصغيرة، علماً بأن هذا الرقم في تزايد مستمر.

من ناحية أخرى، تبدو الأراضي التركية المنفذ الوحيد لنفط الإقليم نحو الخارج، عبر أنابيب النفط التي تصل بين حقول الإقليم وكركوك وميناء جيحان التركي.

عقدة “جنوب السودان”

من السهل جداً أن ينفصل إقليم كردستان عن العراق، لكن الأمر الأصعب هو إقامة دولة مستقرّة ومزدهرة.

فما ينتظر إقليم كردستان في حال الاستقلال عن العراق ليس فقط نشوب حروب بين مواطنيه العرب والأكراد وغيرهم، بل أيضاً خسارة ما يعيشه الإقليم حالياً من حالة ازدهار، خصوصاً إذا ما تخلت تركيا عن جميع صفقاتها الموقعة مع الإقليم. كما أن استقلال الإقليم سيعني فرض بغداد وأنقرة لحصار محكم عليه.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن الصراعات الداخلية التي يعيشها الأكراد ستطفو على السطح، فهذه الصراعات التي لا تزال مستمرة ومشابهة لتلك التي عاشها جنوب السودان.

ومن المعروف أنّ هناك صراعاً على النفوذ حزبي وقبلي بين حزبي مسعود البرزاني وجلال الطالباني. وهناك أيضاً صراع سياسي حزبي بين حركة التغيير والحركة الإسلامية والحزبين الرئيسيين، أيّ حزبا البرزاني والطالباني. هذه الانقسامات المستعرة منذ الآن، سوف تتصاعد أكثر بعد الانفصال، بطريقة أكبر مما كانت عليه سابقاً.

والأهم من كل هذه الأسباب، فإن إقليم كردستان العراق يعتمد في جلّ موارده على النفط المستخرج من أراضيه وبيعه عبر أنبوب للنفط يمر شمالاً عبر الأراضي التركية. فكيف يمكن لدولة مستقلة الاعتماد أساساً على أنبوب نفطي يمرّ في منطقة دولة أخرى تعاديها؟

المصادر: