دخل الخلاف المستعصي بين المغرب والجزائر مرحلة جديدة من مراحل التنافس التقليدي على خلفية النزاع حول دبلوماسية الغاز مع احتمال تصعيده إلى مواجهة عسكرية.
خالد محمود
دخل الخلاف المستعصي بين المغرب والجزائر مرحلةً جديدةً من مراحل التنافس التقليدي بين البلدين على خلفية النزاع الدائر حول دبلوماسية الغاز. وثمة مخاوف من أن تأخذ المواجهة التي بدأت على مستوى الدبلوماسية وقوافل التجارة وأنابيب الغاز، أشكالا أخرى.
مؤخرا، برزت على السطح معارك علنية بين الطرفين حول تصدير الغاز النيجيري إلى أوروبا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. وجاء بروز الخلاف بعدما نجح المغرب في إبرام مذكرة تفاهم مع نيجيريا بخصوص نقل الغاز إليها عبر عدّة دولٍ إفريقية. وكان هذا الاتفاق على حساب الجزائر التي كانت تطمح إلى تمرير هذا الخط على أراضيها للحصول على فوائد اقتصادية وسياسية، سيّما وأن الجزائر تعتبر المصدّر الإفريقي الأول والسابع عالمياً للغاز الطبيعي.
العاهل المغربي محمد السادس وصف الاتفاق بالمشروع الذي يعمل “من أجل السلام والاندماج الاقتصادي الإفريقي والتنمية المشتركة”. وأضاف: “هذا المشروع من أجل الحاضر والأجيال القادمة. نريده مشروعا إستراتيجيا لفائدة منطقة غرب إفريقيا كلها التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 440 مليون نسمة”.
وفي تعبير عن طموح سياسي إقليمي، قال العاهل المغربي: “بالنظر إلى البُعد القارّي لأنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، فإنّنا نعتبره أيضًا مشروعًا مهيكلًا يربط بين إفريقيا وأوروبا”.
ويأتي المشروع في سياقٍ جيوسياسي يطغى عليه طلب دولي قوي على الغاز والنفط وارتفاع في الأسعار بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وتسعى دول عدة، خصوصا في أوروبا، إلى تقليل اعتمادها على روسيا.
ويبلغ طول مشروع أنبوب غاز نيجيريا – المغرب 6000 كيلومتراً. كما أنه يمر عبر 13 دولة إفريقية على طول ساحل المحيط الأطلسي. ويفترض أن يمدّ الأنبوب دولاً غير ساحلية هي النيجر وبوركينا فاسو ومالي، وبما يكفل أيضاً نقل ما يزيد عن 5000 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى المغرب.
المشروع المعلن نهاية العام 2016 يأتي على خلفية خصومة إقليمية متزايدة بين المغرب والجزائر. وبلغت الأزمة بين البلدين الجارين ذروتها مع قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما في أغسطس 2021 بقرار من الجزائر. كما قطعت الجزائر الغاز عن المغرب وأغلقت مؤخرا أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي الذي يضخ الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر المغرب.
وفي يوليو 2022، وقّع وزراء الطاقة الجزائري والنيجيري والنيجري مذكّرة تفاهم لتنفيذ مشروع منافس ضخم لضخ الغاز عبر الصحراء يزيد طوله عن أربعة آلاف كيلومتر. وتهدف الاتفاقية لإيصال الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر.
توتراتٌ حدودية
تخلص دراسة عن تاريخ مشكل الحدود بين الجزائر والمغرب إلى أنها حدودٌ موروثة عن الاستعمار وتعرقل تنمية البلدين في جميع المجالات.
وتدعو الدراسة إلى التعامل معها على أنها “قضية متجاوز عنها” والاقتداء بالغرب خاصة الدول الأوروبية التي طوت صفحة النزاعات القديمة وعملت على تشكيل الاتحاد الأوروبي.
بيد أنّ توترات الحدود، وإن كانت متباعدة، تعتبر مؤشراً لا يمكن تجاهله على أن هناك دوائر تسعى لإشعال صراع عسكري من جديد بين الجانبين.
مخاوف عسكرية
يتخوف البعض من وقوع مواجهة مباشرة بين القوات الجزائرية والمغربية في أي وقت من الأوقات. وترصد العديد من التقارير زيادة الجزائر ميزانيتها الدفاعية لعام 2023 بأكثر من الضعف، مقارنة مع عام 2022. وللعلم، فإن الميزانية الدفاعية للجزائر للعام الجاري ستزيد عن 22 مليار دولار أمريكي، على نحو يضع موازنة وزارة الدفاع الوطني في المركز الأول في بنود الميزانية العامة للدولة.
وتأتي هذه الزيادة غير المسبوقة على الإنفاق العسكري في سياق التوترات الكلاسيكية بين الجزائر والمغرب. ومن المعروف أن السبب الرئيسي للتوتر بين البلدين هو الخلافات العميقة بينهما حول إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه. يضاف إلى ذلك التقارب العسكري والأمني بين المملكة المغربية وإسرائيل.
وتعد الجزائر من أهم حلفاء موسكو العسكريين في القارة الأفريقية، كما أنها من أكبر مستوردي السلاح الروسي في المنطقة. وكانت وزارة دفاع الجزائر نفت تقارير إعلامية تحدثت مؤخرا عن إجراء قواتها المسلحة مناورات مشتركة مع نظيرتها الروسية، قرب الحدود المغربية. لكن القوات البحرية الجزائرية والروسية أجرت تمارين مشتركة في أكتوبر 2022، بالبحر المتوسط لمدة 4 أيام.
ويعتبر النزاع الجزائري المغربي من أطول النزاعات التي عرفتها المنطقة الإفريقية أو العربية. وما زال هذا النزاع متواصلاً على مدى العقود الستة الماضية. وهو أمرٌ دفع البعض إلى القول إن العلاقات المغربية الجزائرية هي في الأصل مجرد سجال عبر التاريخ.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، أنفق الجزائر والمغرب ما يقدر بحوالي 140 مليار دولار على التسلّح، بواقع 99.97 مليار دولار للجزائر و39.59 مليار دولار للمغرب.
ورغم تأكيدها أنها ليست طرفًا في النزاع، فإن الجزائر تدعم بسخاء جبهة البوليساريو. وهي تستضيف في مخيّمات تندوف مقر الجبهة.
زعامة إقليمية
هناك من ينظر إلى قضية الصحراء الغربية باعتبارها ذريعة يستند إليها البلدان لتبرير تناحرهما المستمر. بيد أن السبب الحقيقي للصراع الرغبة في السيطرة الإقليمية.
ويقول محللون إن الجزائر وجدت فرصة لتصفية حسابات قديمة ومتجددة مع المغرب، في إطار المنافسة على الزعامة في المغرب العربي.
وبينما سيظل التنافس على احتلال موقع الدولة المركزية في المنطقة المغاربية، التفسير الموضوعي للتنافس المحموم على التسلح لدى الطرفين، فإنّ انفجار الصراع بينهما ليس مستبعدًا.
انعدام الثقة لدى الطرفين حيال بعضهما البعض تحول بمرور الزمن لعقيدة سياسية وعسكرية راسخة. ومع ذلك، ينبغي أن يمثل كابوس المواجهة العسكرية جرس إنذارٍ للنخب السياسية والعسكرية.
ولا ينحصر الأمر بالمغرب والجزائر، ذلك أنّ اشتعال الصراع، ناهيك عن بقائه، علامةٌ على أن النظام الإقليمي العربي يعاني الكثير من المشاكل الخطيرة التي تهدد بانفجاره بين لحظة وأخرى.
ويبرز هنا تحذير من احتمال نشوب مواجهة ذات طابع غير كلاسيكي. وقد تأخذ هذه المواجهة أشكالاً متنوعة من الحروب الهجينة، على غرار الهجمات الإلكترونية، والعمليات الاستخباراتية في مناطق حسّاسة أو توجيه الضربات المحدودة في المناطق الموجعة.
ولحسن الحظ، فإنّ انسداد العلاقات الجزائرية المغربية على خلفية ملفي الحدود البرية المغلقة منذ عام 1994، وقضية إقليم الصحراء، لا زال يواجه ما يمكن اعتباره مقاومة شعبية خجولة.
ويرى بوبي غوش، وهو صحفيٌّ أمريكي وكاتب مقالات رأي في موقع بلومبرغ، أن معضلة واشنطن في المغرب العربي ستستمر في حال لم تعد الإدارة الأمريكية إلى سياسة الحياد المدروس فيما يتعلق بالصحراء الغربية.
وفي هذا السياق يقول أنور بوخرص، الباحث غير المقيم في برنامج الشرق الأوسط الخاص بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: “منذ منتصف السبعينيات، ظلّ المغرب والجزائر محصورين في عالمٍ خاسر. وتسبب التنافس الشديد بين البلدين في عرقلة التقدم في العديد من القضايا الشائكة”.
ربما يتعين على الجزائر والمغرب دفن الأحقاد بينهما، فاختلاف منظومتيهما السياسية والاقتصادية، لا يمكن أن يقوض بأي حال الفرص الكبرى التي قد تنشأ عن التعاون بينهما. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا التعاون سيتيح الفرصة أمام البلدين لتأسيس مصالح اقتصادية ولمستقبلٍ جامع بالمنطقة المغاربية.
استغلال حالة التنافس بين الدولتين وتوظيف بعض القضايا العالقة بينهما لامتصاص الأزمات الداخلية سيستمر على الأرجح بوتيرة اعتيادية.
وقد يكون الرهان هنا صحيحا بعض الشيء على مطالبة الطرفين بكبح المدفوعات العسكرية وإعطاء اهتمام أكبر للمقاربات الدبلوماسية ولو كانت طويلة المدى.
بعض المغاربة يطالبون الجزائر بأن ترفع يدها عن جبهة البوليساريو، باعتبارها صانعة الانفصاليين وكلّ المشاكل الاخرى. في المقابل، يعتبر الجزائريون ملف الصحراء الغربية “قضية تصفية استعمار يقع حلّها على عاتق منظمة الأمم المتحدة” وأن الجزائر ليست طرفاً في النزاع بين الرباط والبوليساريو.
ثمة قناعة بأنه في ظل التنافس التاريخي حول من يقود أيّ وحدةٍ مغاربيةٍ محتملة، لا يمكن التقليل من دلالة الحاجز النفسي والسياسي بين النخب العسكرية والأمنية في البلدين. فهذا الحاجز يقلص من فرص العودة إلى الانفراج والتوافقات الممكنة.
فشل الوساطات
هناك العديد من المفارقات التاريخية التي تدل على عمق نزاع الصحراء بين الجزائر والمغرب. ومن الأمثلة على ذلك المحاولة المكوكية التي أجراها في السابق الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لمنع تطور نزاعٍ حدودي بين البلدين. هذه المحاولة استمرت ثلاثة أسابيع من الزمن ولم تفلح في حلحلة الإشكال بين الجانبين.
وتُروى قصصٌ عن واقعة أسر مبارك أثناء تزويد الجيش المصري خدمات الدعم لنظيره الجزائري في حرب الرمال. ومع ذلك، فقد برهن تحقيق أنّ مبارك لم يكن ضمن أربعة طيارين مصريين أسرتهم القوات المغربية في تلك الحرب.
الكلام عن “تضحيات مبارك” لم يمنع الجزائر لاحقا مرتين على الأقل من رفض علني لعرضه الوساطة لحل مشكلة الصحراء الغربية.
وتشير تقارير برفض عسكري من الجزائر لثلاث وساطات عربية على الأقل مؤخرا من أجل المصالحة مع المغرب، باعتبارها خصما إستراتيجيا.
في المحصلة، فإنّ لعبة القط والفأر بين المغرب والجزائر تضيّع فرضاً تاريخيةً على الطرفين في ظلّ تفضيلهما التنافس بدلا من التعاون.
وباتجاه محاولة الاستفادة من أزمة طاقة أوروبية متوقعة، يركض الطرفان في اتجاه مغاير يعكس احتدام الخلاف في ظل انعدام أي وساطة عربية أو إقليمية لحسمه.