محمد برغيس
لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في المغرب إلا لتشير إلى عزم العاهل المغربي محمد السادس معاودة الإمساك بزمام الأمور بقبضةٍ من حديد. فالانتخابات التي جرت في التاسع من سبتمبر 2021 كانت بمثابة صفعة على وجه التيار الإسلامي وعلى رأسه حزب العدالة والتنمية، سيّما وأن هذا الأخير لم يحصل سوى على 12 من أصل 392 مقعداً في البرلمان.
الخسارة المدوية التي حلّت بحزب العدالة والتنمية لم تكن سوى تحصيل حاصل للوضع السياسي الراهن الذي يعيشه المغرب. فالحزب الذي تولى قيادة الحكومة منذ صعود ثورات “الربيع العربي“، كان بمثابة الورقة التي لعبها الملك لامتصاص حراك الشارع المغربي في أعقاب حركة “20 فبراير”. كما أنّ الحزب وقع في أخطاءٍ متعددة دفعت الشارع للتصويت لغيره من الأحزاب، لدرجة أن رئيس الحزب سعد الدين العثماني لم يتمكن من الفوز بمعقد في البرلمان.
ملكية دستورية؟
بعد سيرورة طويلة من تمييع العمل السياسي، عرف المغرب منذ بزوغ الاستقلال بوادر بناء أول تجربة ديمقراطية، سرعان ما تم اجهاضها بإقالة حكومة عبد الله ابراهيم التقدمية. وأعقب العاهل المغربي الحسن الثاني تلك الحقبة بحملات لقمع الحركات السياسية، لا سيّما حركات اليسار الجديد والحركات الاتحادية في بداية السبعينات.
في تلك المرحلة، استعاد الملك السيطرة على زمام المبادرة ليقود حملة لاجتثاث أي فعل سياسي حقيقي، وذلك بإقصاء أي وجهة نظر تخالف توجهاته. ومع ذلك، فقد حرص الحسن الثاني على إعطاء صورة مغايرة عن العملية السياسية وهو ما تأتّى عبر تأسيس الأحزاب الإدارية التي افتقدت لأي مشروعية سياسية ولم تقدّم أي مشروع مجتمعي. واقتصر دور هذه الأحزاب على تثبيت الطاعة والولاء للقصر “المعروف محلياً بالمخزن” والتشويش على الكتلة الناخبة، وتكريس ثقافة الريع والزبونية. وبمرور الوقت، تنامت هذه الثقافة وتعزّزت مع انتكاس حكومة التناوب بقيادة الراحل عبد الرحمن اليوسفي.
وتميزت العشرية الأخيرة بالالتفاف على مطالب حركة 20 فبراير التي طالبت بملكية برلمانية وإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وبعد مناورة المخزن بإقرار دستور 2011. حينذاك، بدأت محاولات الملك محمد السادس الالتفاف على الطابع الفردي لنظام الحكم، مستنداً في ذلك على طبيعة الحياة السياسية المغربية التي اعتمدت حينها على تغليب النزعة التحكمية للدولة. ورغم تقديم دستور المغرب الجديد للمملكة على أنها ملكية دستورية، إلا أن الملكية احتفظت بالوضع نفسه الذي كان تتمتع به في الدساتير السابقة، إذ استمرت المؤسسة الملكية حاكمة وحاضرة بقوة في المجال السياسي. وفي هذا الإطار، حافظ الملك على أهم الاختصاصات، بالرغم من إقرار مبادئ وقواعد جديدة لتعزيز السلطة التشريعية ودور رئيس الحكومة.
صلاحيات محدودة
احتفظ الملك برئاسة المجلس الوزاري الذي يتولى التوجيهات الاستراتيجية لسياسة الدولة ومشاريع القوانين التنظيمية ومشروع قانون العفو العام ومشاريع متعلقة بالمجال العسكري. كما احتفظ بحق حل غرفتي البرلمان، بالتزامن مع البقاء على رأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية والأمن. في المقابل، فقد تمتعت الحكومة بدور هامشي، على الرغم من تعيين رئيس الحكومة من الأغلبية الفائزة في انتخابات 2011. واقتصرت صلاحيات حكومة حزب العدالة والتنمية حينذاك على القضايا المرتبطة بالسياسات العمومية القطاعية وتداول المشاريع ومراسم القوانين قبل عرضها على المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك.
في المقابل، تفرض طبيعة النظام الانتخابي بالمغرب على الحزب الفائز البحث عن توافقات سياسية وهو ما يخول للحزب الفائز بتنازلات عدة من أجل توافق حكومي مع باقي الاحزاب الاخرى. وبطبيعة الحال، فإن هذا النظام الانتخابي ساهم في تكريس قدرة القصر على التحكم بالخريطة السياسية الانتخابية.
وأدى تراكم هذه الأمور إلى تشكيل قناعات لدى المغاربة بأن حكومة حزب العدالة والتنمية تفتقد لأي صلاحيات فعلية ولا تستجيب لتطلعاتهم، وهو ما تأكد من خلال عمليات الحراك التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، لا سيّما في منطقتي الريف وجرادة. كما يمكن إضافة مطالب حركات المهمشين والمعطلين إلى الجوانب التي تشير إلى عدم تمتع المؤسسات الحكومية بأي صلاحيات وأن صاحب السلطة الفعلي هو القصر.
حكومة جديدة بوظيفة محددة
الانتخابات الأخيرة بالمغرب كشفت أننا انتقلنا من الفساد الذي يقدم خدمات للمخزن من أجل حماية مصالحه إلى الفساد الذي أصبحت له اليد الاولى في تقرير السياسات واتجاه الأمور. ويمكن القول إن المخزن قام باستدراج حزب العدالة والتنمية وتم تحميله كل الاختلالات وهو ما ألحق به هزيمة فادحة.
من جهةٍ أخرى، فإن السياق الدولي والاقليمي الراهن ساهم في صعود حزب التجمع الوطني للأحرار. ولا يشير صعود هذا الحزب إلى كونه حزب يمتلك مرجعية ورؤية، بل إنه لا يعدو عن كونه آلية وظيفية لاحتواء أعيان الانتخابات وتكنوقراط ومقاولين كبار. ويشير صعود الحزب إلى استعادة الدولة للريادة عبر هندسة انتخابية ساهمت فيها بشكلٍ أكبر نخبٌ محسوبة على الإعلام والفن والرياضة والثقافة.
من هذه الزاوية، فقد تم استدراج حزب العدالة والتنمية إلى مواجهة مع الطبقة الوسطى التي اعتبرها خزانه الانتخابي. كما أن الطريقة التي أدار فيها الإسلاميون بنى ومداخيل المدن الكبرى أظهرتهم بمظهر غير القادر على تحقيق ما يصبو له الشعب المغربي من تطلعات.
لا يعدو تعيين رئيس الحكومة الجديد عزيز أخنوش عن كونه خطوة متسقة مع تطلعات القصر لمرحلة جديدة. أخنوش الذي تم وصفه بالمنقذ والبديل وبرجل المرحلة سيسهّل على القصر تمرير مشاريع القوانين بسهولة في البرلمان. ويمكن القول إن رهان التجمع الوطني للأحرار وباقي الأغلبية المشاركة في الحكومة الجديدة يقتصر على تفعيل تصورها التنموي. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن ممارسة العمل السياسي ترتبط بتقديرات وتكتيكات مرحلة معينة وليست واقعا مطلقا. لكن الثابت في المعادلة السياسية المغربية هو أن المساحة المتروكة للأحزاب السياسية صغيرة وحجم المناورة فيها أيضاً صغير.
الملك هو الملك
وسط هذه التصوّرات، يمكن القول إن الملك يبقى العنصر الثابت في الحياة السياسية المغربية، فسلطة العاهل المغربي لا تقتصر على الجانب السياسي فقط، بل أيضاً على الجانب الديني، سيّما وأنه “أمير المؤمنين” وسليل الرسول محمد (ص). هذا الجانب منح الملك بعداً إضافياً مكّنه من إدارة التعامل مع الأحزاب الإسلامية المغربية في حقبة “الربيع العربي” وتوجيه صفعة لهذه الأحزاب في نهاية المطاف.
من جهةٍ أخرى، ينظر إلى وصول أخنوش لرئاسة الحكومة المغربية على أنه تزاوج بين المال السياسي والسلطة. كما أن تولي أخنوش لمنصبه الجديد لا يبتعد كثيراً عن دائرة الخلافات المزمنة مع الجارة الجزائر وتطلّع القصر للتمتع بقبضة محكمة على المشهد السياسي المغربي.