المقدمة
كانت للإرث الاستعماري مساوئ ومحاسن، فقد خلّف الحكم الفرنسي وراءه بنية تحتية من 15 ألف كيلومتر من الطرق، و1600 كيلومتر من السكك الحديدية و35 ألف هكتار من الأراضي الزراعية المروية. كما بلغت صادرات الفوسفات 4 ملايين طن سنويًا. لكنه خلف كذلك نسبة أمية بلغت 89% من المغاربة (وبلغت النسبة بين النساء 98%). وكان أغلب المغاربة يمتلكون أقل من أربعة هكتارات من الأراضي غير المروية.
ولم يكن للمغرب جيش نظامي. فعيّن محمد الخامس الأمير الحسن أول قائد للجيش. وقد دمج الجيشين الفرنسي والإسباني الاستعماريين وعيّن محمد أوفقير رئيسًا للأركان. وكان أوفقير قد شارك في تحرير فرنسا وكان مقربًا من المقيمين العامين الفرنسيين المتعاقبين على المغرب بعد الحرب. أما محمد بن مزيان، أحد قادة فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، فقد أصبح أحد القادة البارزين في الجيش وهو الوحيد الذي وصل إلى رتبة ماريشال. لكن الأمير نحى جانبًا جيش التحرير الذي كان الريف قلبه النابض والذي خاض معارك ضد الجيوش الإسبانية والفرنسية في أقصى الجنوب.
عهد محمد الخامس (1956-1960)
هيمن حزب الاستقلال، أكبر الأحزاب المغربية، على الحكومة وطالب بملكية دستورية. وكان مواليًا لمحمد الخامس، الذي نبذ لقب السلطنة وسمّى نفسه ملكًا، لكنه رفض أن يكون ملكًا في الظل. ودعا الحزب إلى “المغرب الكبير” الذي يضم الصحراء الإسبانية وموريتانيا وجنوب الجزائر. وتألف الحزب من تحالف بين نقابيين عماليين يساريين بقيادة المهدي بن بركة وقوميين محافظين. ودُشن حزب الاستقلال من جديد بعد الاستقلال. وفي عام 1957، أسس قادة جيش التحرير، ومن بينهم المحجوبي أحرضان، الحركة الشعبية في الريف بين الأمازيغ.
كان الريف قلب جيش التحرير النابض، وقد رفض قائده وضع قواته تحت قيادة حزب الاستقلال. وفي أكتوبر 1958، عمّت انتفاضة في وسط الريف تركزت في قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها محمد بن عبد الكريم الخطابي وقادها أحد أقربائه. واستعان الحسن ولي العهد وقتها بعشرين ألف مقاتل لقمع الانتفاضة وإنزال عقاب جماعي وحشي على المنطقة.
وفي عام 1959، حدث انشقاق في حزب الاستقلال وشكّل المهدي بن بركة من الجناح اليساري في الحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ووجد الملك مصلحة في تفتت الحركة الوطنية. ورغم أن المغرب لم يتحول إلى دولة الحزب الواحد، فإنه لم يصبح دولة ديمقراطية ليبرالية أيضًا. وتمثّل مصدر تهديد النظام في القوميين العرب الذين يعادون الملكيات وإسرائيل والولايات المتحدة، أي ضد كل ما يستحسنه النظام الحاكم. وتفاوض الأمير الحسن عام 1959 مع الولايات المتحدة لسحب قواعدها العسكرية، الأمر الذي خفف الانتقادات الموجهة إليه. وتولى عام 1960 وزارة الدفاع ومنصب نائب رئيس الوزراء، ثم خلف والده في الحكم في فبراير 1961.
عهد الحسن الثاني (1961-1999)
أشرف الحسن الثاني على مشروع الدستور المغربي وأول انتخابات تشريعية. كما تلاعب بالأحزاب السياسية، وحكم الريف من خلال قادة ريفيين، وأدار الجيش بنفسه. وقد برر تصرفاته تحت راية دينية إذ اعتبر نفسه أمير المؤمنين. ونجحت هذه السياسة في إبقائه في الحكم أربعين عامًا تقريبًا.
نصّ الدستور الأول (18 نوفمبر 1962) على أن المغرب دولة ملكية تحكمها العائلة العلوية وملكها أمير المؤمنين. وأبقى على نظام برلماني تعددي في الواجهة، ما ساعد على تفتيت المعارضة. وقمع وزير داخلية الملك محمد أوفقير المعارضين البارزين بقسوة، وخطط لاختطاف بن بركة المنفيّ في باريس واغتياله عام 1965.
وسادت أزمة اقتصادية كبيرة. فقد استمر الملك في الاعتماد على الزراعة ذات رأس المال الضخم والموجهة للتصدير، لكن الركود أصاب إنتاج السوق المحلية. فتعثرت التنمية الريفية، وبدأ الناس منذ منتصف الستينيات بالهجرة إلى أوروبا أو الدخول في الفوضى حيث نما القطاع غير الرسمي. وبحلول السبعينيات، وصلت نسبة الدين الخارجي إلى 23% من الناتج الإجمالي المحلي، ووصلت نسبة التضخم إلى 17% في العام. لكن الفوسفات أبقى المغرب على قيد الحياة. وفي مواجهة الاحتجاجات، أصدر الحسن الدستور الثاني ليركّز المزيد من السلطة في يديه.
العلاقات الخارجية
دفعت الظروف الدولية الحكومة إلى توجهات مختلفة. فتقرّبت الحكومة في السنوات الأولى من الاستقلال من طرفي الحرب الباردة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، قطعت حكومة الاستقلال الوليدة علاقاتها مع فرنسا. وقد وفرت الولايات المتحدة مصدر دعم بديلًا، لكن المغرب مثلها مثل بقية الدول الإفريقية حديثة الاستقلال تقرّبت من الكتلة السوفيتية. وبيد أن ذلك لم يستمر طويلًا، فقد صمم النظام على إخلاء القواعد الجوية الأمريكية في النواصر القريبة من الدار البيضاء، ثم حظر الحزب الشيوعي المغربي.
وكذلك لم يكن النظام معاديًا لليهود. فرغم هجرة العديد من اليهود إلى إسرائيل، ظلّ من بقي منهم في مناصب إدارية عليا. وقوّى الملك الحسن الثاني في الستينيات علاقاته بإسرائيل سرًا مع الحفاظ على موقف المغرب من الإجماع العربي على القضية. وخلال حرب 1967، ذهبت القوات المغربية لمساعدة الدول العربية ضد إسرائيل، لكن الحرب انتهت قبل وصولها. وفي عام 1973، انضم الجيش المغربي إلى الجانب العربي مرة أخرى في حرب أكتوبر.
تهديدات في وجه النظام
عام 1971، أحبط محمد أوفقير محاولة انقلابية. ثم دبّر هو محاولة ثانية في العام التالي. ومات أوفقير في ظروف غامضة، وقضت زوجته وأطفاله 20 سنة في سجن قاسٍ في الصحراء. وخلال ما تبقى من عهده، أشرف وزير داخلية الملك إدريس البصري على القمع الممنهج. ووثق الملك علاقات النظام بالتحالف الغربي في الحرب الباردة. وطال قضية بن بركة النسيان واعتبر الحسن الثاني الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان “صديقه”. ووفرت فرنسا والولايات المتحدة للمغرب خلال السبعينيات كمية كبيرة من الأسلحة، كما خزنت الولايات المتحدة أسلحة نووية في المغرب. ومع ذلك، وقّع النظام عام 1978 أكبر صفقة تجارية عقدها الاتحاد السوفياتي حتى ذلك الوقت مع دولة نامية. وجرت بموجبها مقايضة مناطق الصيد وتوريد الفوسفات مقابل قرض بقيمة ملياري دولار.