عندما شنت الولايات المتحدة الأميركية حربها العاصفة على تنظيم القاعدة في أفغانستان وآماكن أخرى من العالم، على إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، والتي أعلن التنظيم مسؤليته عنها، وقعت العديد من الملفات والتسجيلات عن “القاعدة” في يد أجهزة الاستخبارات الأميركية والتي أظهرت نجاح القاعدة في استقطاب مقاتلين ومجندين ومؤيدين وعناصر فاعله في صفوفه من كل الدول العربية وحتى من خارج العالم العربي، عدا بلد عربي واحد، بقي نظيفاً وبعيداً عن هذا التنظيم، هذا البلد هو سلطنة عُمان.
التقرير الشامل الذي أصدرته “اللجنة الوطنية الأميركية التي شكلها الكونجرس الأميركي للبحث في أسباب هجمات الحادي عشر من سبتمبر،” والذي صدر في 585 صفحة والذي كشف تغلغل القاعدة في الدول العربية، هذا التقرير لم يُشر إلى اسم عُمان سوى مرة واحدة في الصفحة 75 باعتبار أن أسامة بن لادن كان يعمل، اثناء إقامتة في السودان، على إنشاء تنظيم دولي يضم أعضاءً من جميع الدول العربية بما فيها عمُان. غير أن بن لادن فشل في دخول عُمان وفي استقطاب أي من مواطنيها.
لكن الاستثناء العماني لم يكن حصراً على ” القاعدة”، فتنظيم الدولة الاسلامية “ داعش” فشل أيضاً في تجنيد أي مواطن عُماني في صفوفه، وهو التنظيم الذي يضم مقاتلين ومؤيدين من مختلف الدول العربية وغير العربية.
فما السر الذي جعل العمانيين خارج دائرة التنظيمات الارهابية كالقاعدة وداعش والتنظيمات الأخرى المتحالفة معها، خصوصاً في اليمن، الدولة المحاذية لعُمان؟ ولماذا بقيت عُمان الدولة العربية الوحيدة خارج دائرة التطرف ودائرة الصراعات المذهبية والطائفية التي تجتاح العالم العربي؟
الاباضية ومبدأ التعايش
يرى العديد من الباحثين حالة التسامح والتعايش والبعد عن التطرف لدى العمانيين إلى طبيعة المذهب الديني الذي يعتنقه غالبيتهم، وهو المذهب الاباضي، الذي يُنظر إليه بوصفه “أرثوذوكسية إسلامية” لطبيعته الحذره وتحذيره منتسبيه حيال التشدد في الرأي والتطرف في الموقف.
نشأ المذهب الاباضي في القرن الأول الهجري في البصرة بالعراق على يد علماء وفقهاء وزعماء سياسين من أصول عمانية كعبدالله بن وهب الراسبي، وجابر بن زيد، وعبدالله بن أباض وغيرهم. ويعد جابر بن زيد الأب الروحي للاباضية وأحد ابرز مؤسسي الاعتدال في الاسلام عبر نشره ثقافة التسامح والتعايش والتجديد بين اتباعه.
وإذا كانت جذور التسامح التي يعرف بها المجتمع العماني تعود إلى المذهب الاباضي، فإن العمانيين ليسوا جميعهم من أتباع المذهب الاباضي، فهناك السُنّة، المالكية الشافعية، وهناك الشيعة.
هنا يعود السؤال مجدداً؛ كيف نجح العمانيون في تجنب التطرف الديني والمذهبي الذي يضرب، دون هوادة، معظم المجتمعات العربية.
التعليم الحديث أفضل طريقة لمحاربة التطرف
يعيد الكاتب الأميركي ” نيكولاس كريستوف” في مقال له الأمر إلى السياسات التحديثية التي انتهجها السلطان قابوس بن سعيد بعد توليه زمام الأمور في هذا البلد العربي الخليجي عام 1970، والذي كان الأكثر فقراً وبؤساً وعزلة في العالم العربي. وعلى وجه الخصوص “التعليم الحديث” الذي لا يتضمن نصوصاً تحض على التطرف وكراهية الآخر. فهذه البلاد التي لم يكن بها سوى مدرستين قبل عام 1970، كان التعليم المدني الحديث هو الأولوية لسياسات السلطان قابوس، وفي حين كانت المرأة محرومة تماماً من دخول المدارس، فُتحت الأبواب لها مع العهد الجديد. وبحسب نيكولاس كريستوف في مقالته هذه فإن “افضل طريقة لمحاربة التطرف هي جعل التعليم متاحاً للجميع.”
من جانبه يقدم الكاتب السعودي وائل القاسم مثالاً مهماً على الاستثناء العماني وقدرة هذا البلد على البقاء خارج دائرة التطرف والارهاب. هذا المثال يتعلق بما شاهده الكاتب داخل المساجد العمانية، إذ أن أتباع جميع المذاهب يصلّون معا في مساجد مشتركة، وأتباع كل مذهب يصلي على طريقته، على خلاف ما يحصل في بلدان عربية كثيرة حيث أن مساجد السُنة لا يُصّلي فيها سوى السُنة، ومساجد الشيعة لا يُصلّي فيها سوى الشيعة.
ويرى الكاتب السعودي أن “الأجمل هو تبني جهات تربوية عمانية فكرة التعايش والتسامح لتعليم الأطفال التعايش والمحبة والتسامح والسلام.” وفي هذا السياق، أنتجت عُمان فيلم كرتون بعنوان ” كلنا أخوة” يعلم الاطفال في سن مبكرة مفهوم التعايش والتسامح وتقبل الآخر المختلف.
وإذا كان التعليم المدني الحديث الذي بدأ قبل خمس وأربعين عاما، وفق خطط حكومية ذكية ومدروسة، هو مفتاح التميز والنجاح العماني في نبذ التطرف ونشر ثقافة التفاهم والحوار مع الآخر المختلف في الدين أو في المذهب أو في العرق، وجعل عمان تخلو تماماً من الارهاب والتطرف، في مؤشر الارهاب العالمي للعام الماضي 2015 ، فإن هناك خاصية أخرى تُميز عُمان عن مثيلاتها من الدول العربية، خصوصاً في منطقة الخليج.
مجتمع متعدد الأعراق والثقافات
المجتمع العماني مُركّب من أعراق مختلفة، ولغات مختلفة، وثقافات مختلفة، لكنها متعايشة معاً منذ مئات السنين. هذا التعايش القديم مع الآخر المختلف في العرق واللغة والثقافة، مكّن صُناع السياسات التعليمية والتنموية اليوم من خلق بيئة قابلة للتعايش، دون نزعات إقصائية رافضة للآخر. في عمُان يعيش العمانيون من ذوي الأصول العربية مع العمانين من ذوي الأصول الهندية مع أمثالهم من ذوي الأصول الأفريقية مع مواطنيهم من ذوي الأصول الأفريقية. وفي عُمان تتعايش اللغة العربية جنباً إلى جنب مع اللغة السواحيلية واللغة الفارسية واللغة البلوشية والأوردية والكمزارية والشحرية، وفي عُمان تتعايش الفنون ذات الأصول المختلفة، العربية والأفريقية والهندية وغيرها. هذه التركيبة المختلفة والمتميزة هي التي جعلت من هذا البلد العربي الذي يقع في أقصى شرق الجزيرة العربية، مختلفاً ومتميزاً في مقارباته السياسية والثقافية مع مكوناته المحلية ومع المكونات الثقافية (الدينية والمذهبية) العالمية.
التسامح في الداخل والدبلوماسية في الخارج
ميّز التعايش الذي تتمتع به مختلف شرائح المجتمع العُماني وروح التسامح التي تتجلى في المذهب الأباضي، السياسة الخارجية لعُمان. ونتيجةً لذلك، ساهم هذا في جعل عُمان بلداً محايداً تتقرب منه الأطراف المتنازعة في المنطقة للوساطة والتوصل إلى تفاهماتٍ (سلمية). فهناك العديد من الأمثلة على هذه الجهود الدبلوماسية العُمانية لنزع فتيل التوتر.
فعلى سبيل المثال، عندما اندلعت الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، رفضت عُمان الوقوف في صف العراق في وجه إيران واتخذت موقفاً محايداً خلافاً لمعظم دول المنطقة. ومع قرب نهاية الحرب، استضافت السلطنة محادثاتٍ سرية بين حكومتي طهران وبغداد، التي بلغت ذروتها في وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب التي استمرت ثمانية أعوام. وبعد انتهاء الحرب، توسطت عُمان أيضاً على الصعيد الدبلوماسي بين الرياض وطهران.
وفي السياق العربي، خالفت عُمان غالبية الدول العربية عندما قامت مصر بتوقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل في عام 1979، حيث عزلت وقاطعت غالبية الدول مصر، إلا أنّ عُمان رفضت ذلك. وفي وقتٍ لاحق، كانت عُمان حلقة الوصل بين مصر ومختلف الدول العربية الأخرى في محاولة لاستعادة العلاقات الطبيعية بين الدول العربية.
وبالمثل، عندما غزا صدام حسين الكويت في أغسطس 1991، لم تقطع عُمان علاقاتها الدبلوماسية مع العراق، وظلت منفتحة للمحادثات التي لربما ساهمت في إنهاء الأزمة وتجنب حربٍ محتومة. وعندما قررت المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى إقحام نفسها مباشرة في الصراع في اليمن عام 2015 وتشكيل تحالفٍ عسكري المعروف باسم عملية عاصفة حاسمة، لوضع حدٍ لنفوذ جماعة الحوثي أنصار الله المدعومة من قِبل إيران، رفضت عُمان المشاركة وبدلاً من ذلك، أطلقت مبادرة لحل الصراع في اليمن.
وفيما يتعلق بالصراع في سورية، تحاول عُمان التدخل من أجل تقريب وجهات النظر المختلفة قدر المستطاع لوضع حدٍ للصراع الدموي المستمر منذ خمس سنوات. وعلى الساحة الدولية، كان لعُمان دوراً ناجحاً في الوساطة الأبرز في تقريب وجهات النظر بين الغرب وإيران بشأن برنامجها النووي، الذي بلغ ذروته في توقيع القوى العالمية (5+1) الاتفاق النووي في فيينا في 14 يوليو 2015.
محاولات “الاسلام السياسي”
وإذا كانت صورة عُمان على هذا القدرمن النقاء فيما يتعلق بعلاقتها بتنظيمات إرهابية كـ”لقاعدة” و”داعش،” وإذا كانت صورة التعايش بين المذاهب ومكونات المجتمع العماني على هذا القدر من التماسك والتعايش السلمي، فإن هذا البلد لم يخلو من محاولات جماعات ما يوصف بالاسلام السياسي من زعزعة الاستقرار والعمل على اقتحام المجال السياسي عبر تنظيمات سرية تهدف إلى قلب نظام الحكم.
ففي العام 1994 ألقت الحكومة القبض على مجموعة من العمانيين ينتمون إلى المذهب السني، اتهموا بمحاولة قلب نظام الحكم بقوة السلاح. وبحسب تصريحات حكومية فإن “أعضاء التنظيم السري المحظور تأثروا بمنظمة عالمية لها فروع في دول عربية، وأن هذه المنظمة لها وجود في دول خليجية،” في إشارة واضحة إلى تنظيم الاخوان المسلمين وتواجده، في تلك الفترة، في السعودية.
وفي العام 2005 كشفت السلطات العمانية عن وجود تنظيم ديني مسلح، ينتمي هذه المرة، إلى المذهب الاباضي، كان يخطط لقلب نظام الحكم بقوة السلاح، كما كشفت سلطات الأمن عن مراكز تدريب على السلاح وعن مخازن أسلحة.
لقد أثار الكشف عن المحاولتين مخاوف الكثيرين من إمكانية انفراط عقد الاستقرار في هذا البلد، غير أن الوضع عاد إلى الاستقرار وتجاوزت عُمان التجربتين العابرتين. يبقى السؤال عن مدى قدرة عُمان والعمانيين البقاء خارج قوس الأزمات الذي يطوق المنطقة العربية من ليبيا إلى اليمن، والحفاظ على النموذج المميز والاستثناء الذي بات مضرب المثل.
الجواب المنظور أن سياسة النأي بالنفس التي تتبعها الحكومة العمانية عبر رفضها الانخراط في أي صراعات أو حروب، وفي حرصها على لعب دور الوسيط الذي يعمل من أجل نزع فتيل الصراعات، هذه السياسية ستُبقى هذا البلد خارج قوس الصراعات وستبقيه خارج مناخ التطرف والتشدد الديني والطائفي.