وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حرّيّة الصّحافة التّونسيّة مهدّدة في ظلّ حكم قيس سعيّد

يبحث هذا المقال في الاتجاه المقلق لحرية الصحافة المعرضة لخطر كبير في تونس في ظل الحكم الاستبدادي للرئيس قيس سعيّد.

حرّيّة الصّحافة التّونسيّة
متظاهرون تونسيون يشاركون في مسيرة ضد الرئيس قيس سعيّد، في العاصمة تونس، في 10 ديسمبر 2022. فتحي بلعيد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

في خريف 2019، كان فوز قيس سعيّد في الانتخابات ساحقًا، ومنذ تلك اللّحظة تبنّى سياسة دكتاتوريّة اشتدّت حدّتها، وقيّد الحرّيّات.

وبحسب تقرير مقلق صدر عن منظّمة العفو الدّوليّة في تشرين الثّاني 2021، يستغلّ رئيس الجمهوريّة، سعيّد، المحاكم العسكريّة التّونسيّة بانتظام. فقد كان يستخدم سلطته على النّظام القضائيّ العسكريّ، كقائد أعلى للقوّات المسلّحة ومشرف على كلّ الهياكل العسكريّة، لمعاقبة المعارضين من ضمنهم النّاشطين السّياسيّين والصّحافيّين.

فلمخالفات مثل انتقاد الجيش أو التّحريض على العصيان بين الجنود، يمكن أن يُعاقَب الجانحون بالسّجن مدّة أقصاها ثلاث سنوات، بحسب قانون القضاء العسكريّ.

منذ قرار سعيّد في تمّوز باقتراح دستور جديد يزيد من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، والحرّيّات تتآكل باطّراد تحت إدارته.

ويقلق الخبراء والصّحافيّون من تحوّل تونس السّريع إلى دولة دكتاتوريّة، حُدَّت فيها الحرّيّات بإجراءات قمعيّة عشوائيّة.

اشتكت العديد من المنظّمات المستقلّة والصّحفيّين من لجوء الشّرطة إلى استخدام القوّة أثناء المظاهرات في مطلع 2022. وتعاني الآن شخصيّات إعلاميّة مؤثّرة من هذه الإجراءات القمعيّة الصّادرة بحقّها.

ما الّذي يحدث؟

شهدت تونس منذ 2011، تحوّلًا جذريًّا في مشهدها الإعلامي، وفي 2014 وُضِع دستور جديد – نُظِر إليه كركن أساسيّ من أركان التّغيير نحو الدّيمقراطيّة ما بعد الثّورة – يضمن حقوق كلّ المواطنين التّونسيّين، من ضمنها حرّيّة التّعبير، ولقد دعمت قوانين ومراسيم متعاقبة هذه الحقوق.

لكن منذ أن أدّى سعيّد اليمين الدّستوريّة في تشرين الأوّل 2019، وُضِع التزامه بحرّيّة الصّحافة موضع الشّكّ. وفيما وعد التّونسيّين بدعم حقوقهم وحرّيّاتهم، منع القصر الجمهوريّ الصّحافيّين من حضور المؤتمرات الصّحفيّة على الرّغم من الاحتجاجات.

كتب “مراسلون بلا حدود” (RSF) في مؤشّر حرّيّة الصّحافة في تونس لعام 2022 “أصبح ترهيب الصّحفيّين أمرًا طبيعيًّا”، إذ يُواجَه المراسلون بالعنف في الشّوارع أثناء المظاهرات، فيما يستمرّ قمع المعارضة.

وفي أحدث عمليّة اعتقال، اللّيلة الواقعة في 23 شباط ، اقتحمت الشّرطة منزل المعارض والنّاقد الأبرز للرّئيس قيس سعيّد، جوهر بن مبارك، وهو قائد حركة “مواطنون ضدّ الانقلاب”. وبحسب قناة الجزيرة، صرّحت المحاميّة دليلة مصدّق وهي أخت بن مبارك، أنّ الضّبّاط اعتقلوا أباها أيضًا فترة وجيزة.

لقد كان بن مبارك أساسًا، حليفًا للرّئيس في حملته الانتخابيّة النّاجحة عام 2019، لكنّه سرعان ما أصبح أحد أكثر نقّاده إلحاحًا.

وفي شباط، اعتُقِلت شخصيّات ذات صلة بحركة النّهضة وحلفائها بصورة جماعيّة. ومن بين المعتقلين نذكر ناشطين سياسيّين، وقاضيين، ومدير المحطّة الإذاعيّة الخاصّة الغنيّة عن التّعريف، كما أضيف إليهم رجل أعمال ذات نفوذ.

من المستهدَفون؟

صرّحت هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) في أحدث تقاريرها، أنّ في الحادي عشر من شباط اعتُقِل خيام التركي وعبد الحميد الجلاصي بموجب قانون مكافحة الإرهاب الّذي لا يوفّر حماية كافية ضدّ سوء معاملة الأسرى، واستُجوِبوا حول تواصلهم مع جهات أجنبيّة.

وبعد يومين، اعتُقِل وزير العدل السّابق، نور الدّين البحيري، التّابع لحزب النّهضة بالتّهمة المزعومة “السّعي لتغيير طبيعة الدّولة”.

أمّا في اليوم نفسه، فأوقفت السّلطات مدير المحطّة الإذاعيّة المشهورة موزاييك أف أم (Mosaïque FM)، نور الدّين بوطار، بتهمة الإثراء غير المشروع.

يُظَنّ أنّ احتجاز بوطار هو نتيجة النّبرة التّحريضيّة الّتي تبنّاها البثّ الإذاعيّ اليوميّ “عرض الظّهيرة” (Midi Show). وبحسب مصدق، محاميّة بوطار، استجوبته الشّرطة عن محتوى موزاييك التّحريريّ وتوظيفه للإعلاميّين.

في الثّالث عشر من شباط، أوقفت السّلطات التّونسيّة لزهر العكرمي، المتمرّس في مجال القانون والحراك الشّعبيّ والدّولة، وهو يواجه الآن تهمة التّواطؤ ضدّ الأمن الوطنيّ والدّوليّ، كما يُزعَم.

وشهد الخامس عشر من شباط اعتقال النّائب السّابق ورئيس أحد نوادي كرة القدم، وليد جلّاد، بتهمة تبييض الأموال والثّراء غير المشروع. وصرّح مبروك كرشيد، محامي جلّاد، أنّ فرقة مكافحة الإرهاب استجوبته بخصوص أعماله السّياسيّة وارتباطه بمن ينتقدون سعيّد.

اعتُقل أيضًا عصام الشابي وشيماء عيسى، وهم من قادة المعارضة المشهورين، في 22 شباط. وبحسب رويترز (Reuters)، اعتقلت الشّرطة عصام الشابي، قائد الحزب الجمهوريّ، أثناء تسوّقه مع زوجته، واعتقلت شيماء عيسى، شخصيّة محوريّة في انتفاضة 2011، بعد أن توّقت عناصرها سيّارتها.

موقف خطر

أصدر سعيّد عقب الاعتقالات مقطع فيديو هاجم فيه الائتلاف المعارض التّابع لجبهة الإنقاذ الوطنيّ، والّذي يتضمّن بن مبارك وعيسى. وأسماه “حملة مدفوعة الأجر” مشيرًا إلى أنّ “تونس تريد التّخلّص من هؤلاء المجرمين.”

اعتُبِرت تونس في ما مضى بعد ثورة 2011، السّبّاقة في حرّيّات الإعلام، غير أنّ هذا البلد الشّمال إفريقيّ تراجع أكثر من 20 مرتبة في مؤشّر حرّيّة الصّحافة “مراسلون بلا حدود” (RSF) منذ ذلك الحين، ولقد أصبح الآن في المرتبة 94 من أصل 180 بلدًا.

قال خالد دراريني، ممثّل منظّمة “مراسلون بلا حدود” في شمال إفريقيا، لوكالة “صوت أميركا” الإعلاميّة VAO News إنّ “معاملة الإعلام التّونسيّ تتدهور يومًا بعد يوم”.

وقالت الصّحفيّة المستقلّة، وجدان بوعبداللّه، لفناك إنّ منذ استلام سعيّد السّلطة في تمّوز أصبحت حدود حرّيّات الإعلام مبهمة أكثر فأكثر.

إذ “عندما كان بن علي في السّلطة، كانت الموضوعات الّتي تثير الجدل والمواضع حيث تطبّق الرّقابة واضحة. أمّا الآن، مع رئيس يصوّر نفسه على أنّه ديمقراطيّ، ويتصرّف باستبداد أكثر ممّن سبقوه، فأصبح ما هو مقبول مُغشّى، ووجهات نظره حيال الحرّيّات مبهمة.”

فالطّاغية، زين العابدين بن علي، الّذي حكم تونس سابقًا إلى أن أسقطته ثورة 2011، فرض الرّقابة على الإنترنت، ومنع المنظّمات الإعلاميّة المستقلّة من العمل، بالحدّ من إمكانيّة الحصول على التّراخيص. ولقد نظرت المحاكم الجنائيّة في قضايا متعلّقة بالصّحفيّين.

أمّا في المقابل، فتثير محاولات سعيّد كراهيّة الشّعب ضدّ منتقديه وارتيابه منهم. وهو يحقّق ذلك باتّهام الصّحفيّين والشّخصيّات المعارضة له بشكل عامّ، بالعمل مع جهات أجنبيّة والتّآمر ضدّ الدّولة.

وتُكمل بالقول “إنّ هجومه على رئيس موزاييك يوصل رسالة واضحة بأنّ لا أحد بأمان، فهو يريد أن تنصاع لإرادته وسائل الإعلام تمامًا كما خضعت له المؤسّسات الحكوميّة.”

وتضيف أنّ انقسام المعارضة يشكّل عائقًا آخر للحرّيّات في تونس.

شارحة ذلك: “بعض فِرَق المعارضة تجيبك بأنّها تواجه ما يكفي من المشاكل على الصّعيد السّياسيّ ولا ترغب في أن تشنّ هجومًا جديدًا في الوقت الرّاهن.”

ماذا بعد ذلك؟

بوعبداللّه شخصيّة صريحة على تويتر، تنشر المعلومات والآراء يوميًّا، نشاط لن تعتزله بحسب قولها. لكنّها تشير إلى أنّ الخوف متفشٍّ بين الصّحفيّين والنّشطاء لأنّ لا أحد يضمن حمايتهم.

على الرّغم من أنّ وسائل الإعلام الخاصّة ما زالت تنتقد سعيّد، وتستهدفه وحلفاءه في برامجها السّاخرة، توقّف التّلفزيون الرّسميّ عن استضافة سياسيّين من المعارضة إمّا بسبب الضّغوطات أو بدافع الرّقابة الذّاتيّة.

ولقد وصف العديد من الصّحفيّين بيئة العمل الرّاهنة بالعدوانيّة عند إعداد التّقارير عن قضايا سياسيّة فيها تحدٍّ لسعيّد، مثل نقص الموادّ الغذائيّة أو انتقاد سياساته.

وعلى الرّغم من آليّات التّخويف الّتي اعتمدها رئيس الجمهوريّة ودفعت العديد من الأصوات إلى الرّقابة الذّاتيّة، قال المحلّل السّياسيّ محمّد ضياء الهمامي لفناك، أنّ التّونسيّين ما زالوا ملتزمين بالتّمتّع بحرّيّاتهم.

“حقّ حرّيّة التّعبير والصّحافة الحرّة مهدّدَين من دون شكّ. ومع ذلك، ما زال العديد من الأشخاص محافظين على هذه الحرّيّات بانتقاد رئيس الجمهوريّة علنًا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وتوبيخه على أعماله.”

ويضيف أنّ إذا توقّف الشّعب عن تفحّص الدّولة، سيسود الخوف أكثر.

إذ “للحفاظ على حرّيّة التّعبير، على النّاس أن يطبّقوها ويحافظون عليها كمعيار اجتماعيّ، مثل اعتبار انتقاد رئيس الجمهوريّة أمرًا طبيعيًّا دائمًا.”

مستقبل متقلّب

في ما يتعلّق بتوقيت الاعتقالات، يشكّ الهمامي بقدرة سعيّد على التّخطيط الاستراتيجيّ، ويحكم على تصرّفاته بـ”اللّاعقلانيّة” و”المتقلّبة”.

ويقول المحلّل أنّ الخطأ الأساسيّ في أعماله هو أنّ “مهاجمة كلّ أعضاء المعارضة يخلق حسًّا بالهويّة المشتركة، وبالتّالي يحفّزهم للعمل معًا.”

وبحسب الهمامي، قد يكون رئيس الجمهوريّة يوظّف “نظريّة المجنون” الّتي تتعمّد التّصرّفات غير المنتظمة لترسيخ الخوف في صفوف المعارضين من دون تحديد عدوّ واضح، فهذا يجعل توقّع الأعمال القمعيّة مستحيلًا لكن يحافظ على فعّاليّتها في إثارة الخوف وتعزيز الرّقابة الذّاتيّة.

أمّا في ما يتعلّق بإجراءاته القمعيّة المستقبليّة، فيتوقّع المحلّل أن يستهدف رئيس الجمهوريّة الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل UGTT، وهو الأبرز بين الاتّحادات العامّة التّونسيّة للتّجارة، ويضمّ أكثر من مليون عضوًا.

ولمواجهة انحدار البلد إلى نظام استبداديّ، دعى الهمام وغيره الكثيرون إلى تشكيل جبهة معارضة متّحدة، مصرِّحًا أنّ “الأولويّة الكبرى هي محاربة سعيّد وصَوْن الدّيمقراطيّة. إذ لا يمكن لنظام دكتاتوريّ أن يكفل الحرّيّات أو يسمح للنّاس بممارستها.”