وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التغيرات الديمقراطية في تونس (2011 – 2014)

إقرار الدستور الجديد / Photo HH

بدأت ثورة الياسمين في 17 ديسمبر 2010، عندما أضرم محمد بو عزيزي النار بنفسه في سيدي بوسعيد وانتهت في 14 يناير 2011، يوم هرب الرئيس زين العابدين بن علي (مولود في عام 1936) إلى المملكة العربية السعودية. في ذلك اليوم، استعاد الناس فجأةً صوتهم ووجدوا مكاناً عاماً للتعبير عنه. سمعت محطات التلفزة وإذاعات الراديو شكاوى جميع الناس، وتحولت الأماكن العامة إلى نسخة واسعة النطاق من “ركن المتحدثين” في حديقة “هايد بارك”. نُقلت السلطة التنفيذية من رئيس البلاد إلى رئيس الوزراء وأصبح المجتمع المدني ناشطاً ومؤثراً جداً، بينما بات الجيش أكثر ظهوراً والشرطة أقل تعجرفاً.

الفترة الانتقالية الأولى (2011)

لا يزال تسلسل الأحداث الدقيق غير واضح، لا سيما خلال الشهر الأول. تم الإعلان عن إسقاط بن علي على لسان محمد الغنوشي (مولود في عام 1941)، وهو رئيس الوزراء الذي أعلن نفسه المسؤول عن إدارة البلد خلال المرحلة الانتقالية. كان الغنوشي رئيس الوزراء منذ عام 2002 (حكومة الغنوشي  الأولى). هو لم يكن معروفاً من الناس لكنه كان يتمتع بسمعة جيدة وقد نُسب معظم الازدهار الاقتصادي الذي شهدته تونس في عهد بن علي إلى سياساته. ثم أصبح رئيس البرلمان فؤاد المبزع
(مولود في عام 1933) الرئيس الرسمي للجمهورية. كان الرجلان زعيمَين في حزب “التجمع الدستوري الديمقراطي” الذي كان ينتمي إليه بن علي.

شهد شهر كانون الثاني اشتباكات مسلحة غامضة في
أنحاء البلد بين الجيش من جهة و”الميليشيات” التي اتكلت على مساعدة “القناصة” من جهة أخرى. هل كانت تلك القوى تابعة لِبن علي أم الأمن الرئاسي؟  أو ربما المرتزقة الذين أرسلهم بن علي أو الرئيس الليبي معمر القذافي
(قُتل في عام 2011) لمجابهة الثورة؟ لا يزال السؤال عالقاً لكن قُتل العشرات (من مدنيين ورجال شرطة وعسكريين) خلال الأسابيع التي تلت النصر الرسمي لثورة الياسمين.

قدم الغنوشي حكومته في 17 يناير 2011(حكومة الغنوشي الثانية)، وكانت تشمل الخصوم التاريخيين للنظام الذي كان يخدمه. لكن بقيت وزارات أساسية (مثل حقائب الشؤون الخارجية والداخلية والدفاع) بيد “التجمع الدستوري الديمقراطي”، ما أثار سخط الرأي
العام. بدأت حركة القصبة الأولى في تلك المرحلة، وحصل اعتصام أمام مكتب رئيس الوزراء إلى حين إسقاط “التجمع الدستوري الديمقراطي”. لعب “الاتحاد العام التونسي للشغل” دوراً في تنظيم الحركة. أعلن الغنوشي عن حكومة
جديدة في 27 كانون الثاني/يناير (حكومة الغنوشي الثالثة).

راشد الغنوشي (مولود في عام 1941) هو زعيم حزب “النهضة” الإسلامي وهو ليس قريب رئيس الوزراء، وقد عاد إلى تونس بعد ثلاثة أيام، غداة تمضية عقدين في المنفى. فرحّب به مئات الناس، وقد تفاجأ الكثيرون بذلك لأن حركته كانت تُعتبر مندثرة.

حُلّ البرلمان الذي كان قائماً في عهد بن علي في بداية شهر فبراير، وتم التصويت على نشوء مجلس جديد (“الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”). لكن كان “التجمع الدستوري الديمقراطي” لا يزال شرعياً، ولم يتم تحديد أي موعد للانتخابات. بدأت حركة القصبة الثانية في تلك الفترة: احتل عشرات الآلاف الشوارع، بقيادة “الاتحاد العام التونسي للشغل” وحزب “النهضة” واليسار المتطرف، فدعوا إلى استقالة الغنوشي وحل “التجمع الدستوري الديمقراطي” وانتخاب جمعية تأسيسية مسؤولة عن صياغة دستور جديد. استقال الغنوشي في 27
فبراير 2011 وتم استبداله بالباجي قائد السبسي (مولود في عام 1926).

كان قائد السبسي (مؤسس حركة “نداء تونس” ورئيسها الراهن) وزيراً في حكومات عدة في عهد بورقيبة ورئيس البرلمان في السنوات الأولى من حكم بن علي. كان أيضاً مسؤولاً رفيع المستوى في “التجمع الدستوري الديمقراطي”. لكنه كان بعيداً عن الأضواء منذ سنوات حين وقعت الثورة. عندما تم تعيينه، قرر حل “التجمع الدستوري الديمقراطي” ومجلس الشورى، وتعليق الدستور، وتأسيس هيئة انتخابية مستقلة، وتحديد موعد انتخاب جمعية تأسيسية. كما أنه وقّع على اتفاق “النهضة” القانوني في مارس 2011.

اضطرت الحكومة الجديدة إلى التعامل مع الأزمة الليبية، فحافظت على روابطها مع القذافي وخصومه المسلحين في آن، وواجهت في الوقت نفسه تدفق مليون لاجئ ومشكلة تهريب الأسلحة. نجح قائد السبسي في احتواء الغضب الجزائري والسعودي والإماراتي، فقد كانت تلك البلدان الثرية والنافذة تخشى ثورة الياسمين وزيادة قوة الإسلاميين. تمكن الباجي قائد السبسي أيضاً من تهدئة “الاتحاد العام التونسي للشغل” وكل من شارك في اعتصامات القصبة، ما ساهم في تقليص هامش الإضرابات والاحتجاجات.

لكن بدأت موجة التطرف المرتبطة بالربيع العربي في شهر مايو، حين قُتل عقيد وجنوده بالقرب من الحدود الجزائرية. بعد فترة قصيرة، تعرضت صالة سينما للتخريب لأنها عرضت فيلماً اعتُبر مسيئاً للإسلام، وكان الدافع نفسه وراء اعتداء آخر وقع في وقت لاحق من تلك السنة ضد مقر قناة “نسمة” بعد أن بثت فيلم “برسبوليس”. اعتبر بعض المراقبين أن هذه الموجة من أعمال العنف تنذر بصراع مرتقب بين المدافعين عن تونس الإسلامية وكل من يدعم دولة علمانية.

حصلت انتخابات الهيئة التأسيسية في مطلق الأحوال وسط جو سلمي في 23 أكتوبر 2011. كانت أول انتخابات حرة وعادلة في تاريخ البلد. صوّت حزب “النهضة”، الذي يشكّل كتلة الأغلبية في الجمعية الجديدة (مع 41% من الأصوات)، لصالح مصطفى بن جعفر (مولود في عام 1940) من حزب “التكتل” الديمقراطي الاجتماعي في منصب رئيس “الجمعية التأسيسية الوطنية”، وحليفه الآخر منصف مرزوقي (مولود في عام 1945) من حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” كرئيس للجمهورية. حصل انتقال السلطة من مرزوقي إلى فؤاد المبزع (مولود في عام 1933) في 13 ديسمبر 2011.

الفترة الانتقالية الثانية (2012-2013)

ثم قام حزب “النهضة”، باعتباره ممثل السلطة الجديدة في البلد، بتعيين أمينه العام حمدي الجبالي (مولود في عام 1949) في منصب رئيس الوزراء في 24 كانون الأول/ديسمبر 2011. كانت حكومته عبارة عن تحالف بين “النهضة” وحزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” اليساري الوسطي العلماني وحزب “التكتل”، وقد شملت حوالى خمسين وزيراً (معظمهم من حزب “النهضة”). اعتبر البعض أن زيادة عدد الوزراء في حكومة الجبالي هي طريقة لمكافأة مقاتلي حزبه، لكن ظن آخرون أنها حيلة يستعملها حزب “النهضة” لفهم طريقة عمل الدولة من الداخل، ما يسمح له بسيطرة أفضل على الحكومة مستقبلاً.

تشاجر رئيس الوزراء الجبالي والرئيس مرزوقي في مناسبات عدة،عندما قررت الحكومة تسليم آخر رئيس وزراء في عهد القذافي، البغدادي علي المحمودي (مولود في عام 1945) الذي كان تحت الإقامة الجبرية في تونس في منتصف عام 2012، إلى السلطات الليبية، بما يخالف أوامر الرئيس مرزوقي.

تزايدت المطالب الاجتماعية خلال عهد الجبالي تزامناً مع ارتفاع أسعار السلع، ورفع السلفيون الذين يحظون بحماية “النهضة” صوتهم، وتحديداً تحت راية “أنصار الشريعة”. لكن كانت حركة التمرد التي انطلقت في جبال الشعانبي، على الحدود الجزائرية، هي الأكثر خطورة، فقد بدأ السلفيون المجاهدون المشبوهون يزرعون القنابل ويقتلون الجنود هناك. كانت الحركة موجودة في عهد بن علي، لكن كان المقاتلون يتعرضون للسحق المنهجي حينها وبقيت عملياتهم محدودة ونادراً ما يسمع بها الناس (باستثناء تفجير الكنيس في عام 2004 ومعارك سليمان في عام 2007). أراد الأصوليون تغيير المجتمع ككل واستئصال العادات الغربية ومظاهر العصرنة والعلمانية. لكنهم كانوا يشنون فعلياً حرباً ضد وطنهم.

نشأت “رابطة حماية الثورة” (تحالف بين الإسلاميين والشباب العاطلين عن العمل وأعضاء العصابات وغيرهم) في عام 2012. هذه الجماعة العنيفة مقرّبة من حزبَي “النهضة” و”المؤتمر من أجل الجمهورية” وقد تورطت في اعتداءات عدة ضد “الاتحاد العام التونسي للشغل” والمعارضة (بما في ذلك عملية قتل لطفي نقض من حركة “نداء تونس” والاعتداء على مقر “الاتحاد العام التونسي للشغل”) ومنظمات المجتمع المدني وجماعات أخرى.

كانت العلاقات بين الجزائر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة متوترة في عهد النظام الجديد. قرر الحكام أيضاً وضع حد لعلاقات البلد مع نظام البعث السوري، وحصل أول مؤتمر لأصدقاء سوريا في تونس في شباط/فبراير 2012.

أسس قائد السبسي حزباً سياسياً علمانياً حمل اسم “نداء تونس” في شهر يونيو من السنة نفسها. كان حزب “نداء تونس” سيصبح قريباً الخصم الأساسي لحزب “النهضة”، لا سيما بعد التحالف، في ديسمبر 2012، مع الحزب “الجمهوري” الليبرالي اليساري الوسطي و”المسار” ضمن “الاتحاد من أجل تونس”. اجتمع 12 حزباً من الأحزاب اليسارية والعربية القومية المتطرفة تحت راية “الجبهة الشعبية” في آب/أغسطس 2012.

في سبتمبر 2012، تعرضت السفارة الأميركية والمدرسة الأميركية في تونس للهجوم على يد “أنصار الشريعة”، تحت تأثير اعتداءات بنغازي. كانت تلك الأحداث أشبه بجرس إنذار بالنسبة إلى حزب “النهضة” في ما يخص خطر السلفيين.

انطلق حوار وطني بين الأحزاب المتخاصمة في عام 2012، في محاولةٍ لتخفيف حدّة الانقسام السياسي. كان الحوار بقيادة رئاسة الجمهورية و”الاتحاد العام التونسي للشغل” بالتناوب. في 6 شباط/فبراير 2013، تعرض زعيم المعارضة شكري بلعيد لإطلاق نار وقُتل أمام منزله. فنزل مئات الآلاف إلى الشوارع ودعوا حزب “النهضة” إلى الاستقالة وانسحب نواب المعارضة من “الجمعية التأسيسية الوطنية”. في 19 فبراير 2013، استقال الجبالي وسلّم السلطة إلى وزير الداخلية علي العريّض (مولود في عام 1955)، وهو القيادي الثالث في حزب “النهضة”.

تألف نصف حكومة العريّض من أعضاء حزب النهضة وشمل النصف الآخر وزراء تكنوقراط. ذهبت الوزارات الأساسية إلى التكنوقراط وتعهد رئيس الوزراء الجديد بمحاربة الإرهاب. لكن أدى تعديل المناصب الوزارية أيضاً إلى إقالة عبد الكريم الزبيدي (مولود في عام 1950)، وهو وزير الدفاع الذي تولى منصبه منذ نشوء حكومة الغنوشي الثانية. كان الزبيدي وزيراً في عهد بن علي وقد حافظ على علاقات حسنة مع الجنرال رشيد عمار (مولود في عام 1947 أو 1948)، رئيس أركان القوات المسلحة. تقاعد الجنرال عمار بعد أربعة أشهر، ما سبّب تغييراً كبيراً في أوساط الضباط الرفيعي المستوى في الجيش والشرطة. ينسب بعض المحللين هذا التغيير إلى الأحداث التي وقعت في مصر (في صيف 2013)، ويتحدث مسؤولون كثيرون عن محاولة انقلاب فاشلة (لكن لم يحصل أي تحقيق بهذا الموضوع بعد). زادت شكوك المعارضة بأهداف حزب “النهضة” بعد هذا التغيير.

مع ذلك، عاد أعضاء المعارضة إلى الجمعية وتجدد الحوار الوطني. لكن بدأت حركة التمرد الجهادية تتكثف وقُتل النائب المعارِض والقائد اليساري محمد براهمي رمياً بالرصاص في 25 تموز/يوليو 2013. غداة اغتياله، وقع اعتداء دموي ضد الجيش في جبال الشعانبي.

نزل مئات الآلاف إلى الشوارع مجدداً، ودعوا حزب “النهضة” إلى الاستقالة وطالبوا بِحلّ الجمعية التأسيسية. بدأ اعتصام أمام “الجمعية التأسيسية الوطنية” وانضم إليه نواب معارضون كانوا قد استقالوا من مناصبهم. تم تعليق الحوار الوطني مجدداً ووسّع حزب “الاتحاد من أجل تونس” تواصله ليشمل “جبهة الإنقاذ”، بما في ذلك “الجبهة الشعبية” (حركة بلعيد وبراهمي).

مع تصاعد الوضع، علّق مصطفى بن جعفر الجمعية التأسيسية. وصُنفت جماعة “أنصار الشريعة” كمنظمة إرهابية رسمياً. سرعان ما بدأت المفاوضات ورحّب الجميع بالوساطة الخارجية. نشطت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والجزائر على وجه التحديد. تجدد الحوار الوطني في الخريف وتم الاتفاق على استقالة حزب “النهضة” فور التصويت على الدستور. أُعيد فتح “الجمعية التأسيسية الوطنية” وقام النواب بتسريع عملهم وصوتوا أخيراً على الدستور في 26 كانون الثاني/يناير 2014.

صوتت غالبية النواب على الدستور. كان مناخ الابتهاج والسلام الذي تلا ذلك الحدث كفيلاً بجعل المواجهة بين الأصوليين والعلمانيين جزءاً من الماضي، في المرحلة الراهنة على الأقل.

الفترة الانتقالية الثالثة (عام 2014)

يُعتبر تاريخ 26 كانون الثاني 2014 الآن أول يوم من جمهورية تونس الثانية. يتمتع هذا البلد بواحد من أكثر الدساتير تطوراً في العالم العربي، ويبدو أنه يسير على الطريق الصحيح نحو الديمقراطية. صحيح أن الجمعية التأسيسية تضم غالبية من الأعضاء الإسلاميين، لكنّ النص الذي كتبوه لم يذكر الشريعة الإسلامية، بل أشار في مناسبات متعددة إلى الحريات الاجتماعية بقدر الدستور العلماني لعام 1959، كما شمل بنداً يمنع توجيه تهم بالتكفير الديني، حتى أنه ذكر حرية الضمير، ما يُلمِح ضمنياً إلى الإلحاد.

تولى مهدي جمعة (مولود في عام 1962)، الذي كان وزير الصناعة في حكومة العريّض وكان مقرباً من حزب “التكتل” لكنه معروف باستقلاليته، مهمة تشكيل حكومة جديدة، وقد طرحها أمام “الجمعية التأسيسية الوطنية” في 29/1/2014. تألف فريقه من عدد من المسؤولين التكنوقراط فضلاً عن بعض فلول النظام القديم وغيرهم من الأعضاء المقرّبين من حزب “النهضة” (احتفظ وزير الداخلية في حكومة العريّض مثلاً بحقيبته).

تقضي مهام هذه الحكومة بتنظيم الانتخابات المقبلة وتقليص المخاوف الاقتصادية والأمنية لدى الناس. حصد جمعة الدعم من نخبة البلد أكثر مما فعلت الحكومات السابقة. ويبدو أنه يلقى قبولاً جيداً على الساحة الدولية. أصبح الجزائريون والسعوديون والإماراتيون أقل عدائية حين اتضح أن حزب “النهضة” يتجه إلى الاستقالة. زار وزير الخارجية الأميركي جون كيري تونس في شهر شباط/فبراير، فسلّم جمعة دعوة إلى البيت الأبيض من باراك أوباما (مولود في عام 1961)، ثم حذا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (مولود في عام 1950) حذوه بعد شهر.