وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصفقات الإقليميّة تهدد امتيازات الأكراد في سوريا والعراق

امتيازات الأكراد
أكراد سوريون يتظاهرون في ضواحي محافظة الحسكة شمال شرق سوريا في 23 أكتوبر / تشرين الأول 2022 ، ضد الهجمات التركية القاتلة في المناطق الشمالية الشرقية من البلاد. ديليل سليمان / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

تختلف المصادر في تقدير عدد أكراد منطقة الشرق الأوسط، إذ تتفاوت التقديرات ما بين 25 و35 مليون نسمة، يتوزّعون بشكل رئيسي على تركيا وإيران والعراق وسوريا. استقرّ هؤلاء في المنطقة منذ آلاف السنين، وتوزّعوا على مساحة جغرافيّة كبيرة ومتصلة، إلا أن تقسيم المنطقة بعد الحرب العالميّة الأولى لم يلحظ لهم دولة تجسّد طموحاتهم القوميّة.

ولهذا السبب، اتسمت علاقة الأكراد بأنظمة دول الشرق الأوسط التي احتضنتهم بالتوتّر الدائم، لخشية الأنظمة السياسيّة من النزعات الاستقلاليّة للحركات الكرديّة، وتعاونها العابر للحدود في سبيل تحقيق حلم الدولة الكرديّة. ببساطة، كانت إشكاليّة المسألة الكرديّة طوق الأكراد إلى ممارسة حق تقرير المصير، في مقابل إصرار دول المنطقة على وحدتها بحسب التقسيمات الراهنة.

مكاسب مهددة

ورغم كل هذه التحديات، تمكّن الأكراد من تحقيق بعض المكاسب النسبيّة خلال العقد الماضي. في سوريا، تمكّنت قوّات سوريا الديمقراطيّة –ذات الغالبيّة الكرديّة- من فرض حكم ذاتي في مناطق شاسعة من شمال شرقي البلاد، بالتفاهم والتنسيق مع النظام السوري، بعد أن ساهم الأكراد في تحرير هذه المناطق من قوّات تنظيم داعش.

أمّا في العراق، تمكّن الأكراد في لعب دور أساسي في تحرير مناطق عراقيّة شاسعة من سيطرة التنظيم، ما كرّس الخصوصيّة والحكم الذاتي الذي تمتّع إقليم كردستان العراق منذ زمن. ولم يغيّر من هذا الواقع انتزاع الحكومة المركزيّة العراقيّة لبعض المناطق التي حررها الأكراد من تنظيم داعش، كمدينة كركوك مثلاً.

ومع ذلك، يبدو أن الأكراد بدأوا يستشعرون القلق من تسويات إقليميّة عدّة، يمكن أن تأتي على حسابهم في جميع الدول التي يتواجدون فيها، بما يمكن أن يفضي إلى خسارة الامتيازات التي تمكنوا من مراكمتها خلال الفترة الماضية. فتمهيد تركيا لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري بات يرفع احتمالات حصول تسوية بين الطرفين، على حساب قوّات سوريا الديمقراطيّة وهيمتنها في منطقة شمال شرقي سوريا. وتزايد النفوذ الإيراني في العراق، بات يفتح المجال لعمليّات عسكريّة إيرانيّة تستهدف مواقع داخل إقليم كردستان في العراق، دون أي تدخّل دفاعي من جانب الحكومة المركزيّة العراقيّة.

مخاطر تطبيع العلاقة التركيّة السوريّة على أكراد سوريا

لم يخفِ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان منذ الصيف الماضي سعيه الدؤوب لشن عمليّة عسكريّة رابعة، داخل الأراضي السوريّة. أمّا الهدف، فهو توسيع نطاق الحزام الأمني التي تفرضه تركيا داخل سوريا، بهدف إبعاد قوّات سوريا الديموقراطيّة عن حدود بلاده قدر الإمكان، وتضييق الخناق على سيطرتها داخل سوريا.

فمن الناحية العمليّة، تعتبر تركيا قوّات سوريا الديموقراطيّة، ذات الغالبيّة الكرديّة، مجرّد امتداد لحزب العمّال الكردستاني، الذي تصنّفه الدولة التركيّة كتنظيم إرهابي محظور. وبالنسبة إلى أردوغان، تمثّل قوّات سوريا الديموقراطيّة خطرا إستراتيحيا داهما على الأمن القومي التركي، وهو ما دفعه سابقًا إلى شن عمليّات لتقليص نطاق سيطرة هذه القوّات داخل الأراضي السوريّة المتاخمة لبلاده. ولهذا السبب أيضًا، يسعى أردوغان منذ أشهر إلى الحصول على ضوء أخضر من القوى المؤثّرة إقليميًّا، للتمكّن من القيام بعمليّة عسكريّة جديدة تبعد قوّات سوريا الديموقراطيّة كليًّا عن حدوده.

في المقابل، ورغم تعاون النظام السوري مع قوّات سوريا الديموقراطي في وجه تركيا في العديد من المحطات، ورغم التنسيق الأمني بين الطرفين في بعض المناطق السوريّة، لا يكنّ النظام السوري الكثير من الود لهيمنة قوات سوريا الديموقراطية في مناطق شمال شرقي سوريا. فبالنسبة للنظام السوري، تمثّل قوّات سوريا الديموقراطية ميليشيا مسلّحة مدعومة عسكريًّا من الغرب، ما يسمح للقوى الغربيّة –وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركيّة- بالاستمرار بالتدخّل الأمني في مناطق سوريّة شاسعة.

كما يعتبر النظام السوري أنّ مناطق هيمنة قوّات سوريا الديموقراطيّة تُفترض أن تعود إلى كنف هيمنته الأمنيّة والعسكريّة المباشرة، عوضًا عن آليّات التنسيق الحاليّة بين هذه الميليشيا والجيش السوري. ولهذا السبب بالتحديد، مارس النظام –عبر حليفه الروسي- ضغوطًا شديدة على قوّات سوريا الديموقراطيّة، بهدف حلّها ودمجها مع الجيش السوري التابع للنظام. ببساطة، بالنسبة إلى نظام الأسد، لا يمكن لقوّات سوريا الديموقراطيّة أن تبقى على المدى البعيد كميليشيا مسلّحة ومسيطرة، كما هو الحال الآن.

لكل هذه الأسباب يعاني أكراد سوريا من ضغوط مزدوجة، من جانب النظام التركي من جهة، ومن جانب النظام السوري من جهة أخرى. إلا أنّ حالة العداء السابقة بين النظامين التركي والسوري، سمحت لقوات سوريا الديموقراطيّة بالمناورة بين الطرفين طوال السنوات الماضية، بهدف الحفاظ على الرقعة الجغرافيّة التي تسيطر عليها. فعلى سبيل المثال، وفي كثير من المراحل، اضطرّ النظام السوري إلى التسليم بوجود قوّات سوريا الديموقراطيّة وعقد تحالفات موضعيّة معها، للحؤول دون تقدّم القوات التركيّة في بعض المناطق السوريّة. كما اضطرّ النظام التركي إلى تأجيل عمليّات عسكريّة عديدة ضد قوّات سوريا الديموقراطيّة، لغياب التفاهم المسبق مع حليف النظام السوري، روسيا، حول هذه العمليّات.

اليوم، باتت المعادلة على وشك التغيّر، ما سيهدد إمكانيّة حفاظ الأكراد وقوّات سوريا الديموقراطيّة على مناطق نفوذهم داخل سوريا. فالاتصالات بين الجانبين السوري والتركي بدأت بتمهيد الطريق أمام تطبيع العلاقة بين الطرفين، ما سيسمح بعقد صفقة بينهما يمكن أن تفضي إلى تحقيق هدفهما المشترك، أي التخلّص من هيمنة قوّات سوريا الديموقراطيّة على شمال شرقي سوريا. مع الإشارة إلى أنّ تركيا كانت قد أعلنت أن قيام النظام السوري بالقضاء “على التهديد الإرهابي على الحدود”، أي تواجد قوّات سوريا الديموقراطيّة هناك، يمثّل أبرز مطالب تركيا قبل تطبيع علاقتها مع دمشق.

في المقابل، يبدو أنّ النظام السوري يبدي حاليًّا الكثير من الترحيب بأي مقترح يمكن أن يفضي إلى توسيع نطاق سيطرته على الحدود مع تركيا، على حساب قوّات سوريا الديموقراطيّة، بالتفاهم والتنسيق مع تركيا. إلا أنّ النظام السوري يرغب بضم بنود أخرى إلى تفاهمه مع تركيا قبل تطبيع العلاقات معها، من قبيل استعادة نظام الأسد السيطرة على المعابر الحدوديّة، التي تتحكم بها ميليشيات محليّة موالية تركيا.

مخاطر التدخّل الإيراني في العراق على الأكراد

يشكّل الأكراد ثالث أكبر المجموعات العرقيّة في إيران، بعد الفرس والأذربيجانيين، بنسبة تتراوح بين ال10% و12% من إجمالي السكّان. ولهذا السبب، يمتلك النظام الإيراني حساسيّة شديدة تجاه الحركات الانفصاليّة الكرديّة، حتّى تلك التي تعمل خارج الحدود الإيرانيّة، نظرًا لخشيته من أي عوامل يمكن أن تشجّع الأكراد الإيرانيين على المطالبة بحقّهم بتقرير المصير. مع الإشارة إلى أنّ النظام الإيراني الإسلامي خاض سنة 1979 حملة عسكريّة شرسة على محافظة كردستان الإيرانيّة، لقمع احتجاجات الأكراد هناك، ما أودى بحياة أكثر من 10 آلاف مدني كردي.

اليوم، يبدو أن النظام الإيراني يستثمر نفوذه المتنامي داخل العراق، عبر التوسّع بتدخلاته العسكريّة ضد الأكراد هناك. ففي أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، قام النظام الإيراني بقصف عنيف على مناطق كرديّة داخل العراق، مستهدفًا أحزابا ومجموعات كرديّة معارضة للنظام الإيراني، ردًّا على انتقادها قمع المظاهرات في إيران.

وفي النتيجة، أدّى هذا الاستهداف إلى مقتل 28 كرديًّا، بالإضافة إلى تدمير مراكز حزبيّة سياسيّة كرديّة في منطقة كردستان العراقيّة. وفي وقت لاحق، أعلنت وسائل الإعلام الإيرانيّة قيام الحرس الثوري الإيراني بحملات عسكريّة استهدفت “إرهابيين” موجودين في منطقة كرستان العراق، باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة.

من حيث الشكل، أعلنت وزارة الخارجيّة العراقيّة استنكارها لهذا الاستهداف، دون أن تقدم السلطات على أي خطوة أمنيّة جديّة بهدف لجم هذه العمليّات العسكريّة. وهكذا، بدا واضحًا أن توسّع النفوذ الإيراني داخل مجلس النوّاب العراقي، وفي أوساط منظمة الحشد الشعبي العراقي العسكريّة، لعب دورًا في لجم الدولة العراقيّة والحؤول دون تصدّيها للتدخّل الإيراني داخل الأراضي العراقيّة.

ولهذا السبب، بات أكراد العراق يخشون أن تمهّد كل هذه العوامل إلى تنامي العمليّات العسكريّة الإيرانيّة داخل كردستان العراق، بما يمكن أن ينتج عن صفقة مع سائر الأحزاب العراقيّة العربيّة، وهو ما سيفقد كردستان العراق خصوصيّتها التي تمتّعت بها لفترة طويلة من الزمن. كما يخشى الأكراد العراقيون اليوم أن تتمكن إيران من استخدام هذه العمليّات العسكريّة لتفرض على السلطات المحليّة في كردستان العراق بعض التنازلات السياسيّة، من قبيل التضييق على المجموعات والأحزاب الكرديّة الناشطة داخل كردستان العراق، والمناصرة للمعارضة الكرديّة داخل إيران.

طوال السنوات الماضية، مثلت كردستان العراق ومناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطيّة في سوريا آخر الأقاليم التي يتمتّع فيها الأكراد بقدر ما من الحكم الذاتي، ولو تحت سلطة حكومات مركزيّة عربيّة. وهذا الواقع، سمح للأكراد هناك بالحفاظ على خصوصيّتهم الثقافيّة والعرقيّة، عبر تعليم اللغة الكرديّة في المدارس واستعمالها في المعاملات الرسميّة، والحفاظ على التراث الكردي. إلا أنّ جميع التحولات السياسيّة المستجدة في العراق وسوريا باتت تدفع الأكراد إلى القلق والريبة، والتوجّس من فقدان الامتيازات التي تمكنوا من تحصيلها خلال العقد الماضي في هذه المناطق.