علي نور الدين
يبدو أنّ العلاقات الأميركيّة السعوديّة لا تعيش أفضل أيّامها، بعدما قرر تحالف أوبيك+ الذي تقوده المملكة العربيّة السعوديّة وروسيا خفض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يوميًّا، بدءًا من نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وبهذا القرار، تجاهل تحالف أوبيك+ مناشدات الرئيس الأميركي جو بايدن المتكرّرة، التي طالب من خلالها السعوديّة بزيادة إنتاجها من النفط، لمحاولة خفض أسعار النفط العالميّة.
الخيبة التي مني بها بايدن، دفعته في خلاصة الأمر إلى توجيه إنذار قاسٍ للسعوديّة، هددها فيه بعواقب ستنتج عن دورها في دفع تحالف أوبيك+ لاتخاذ هذا القرار. أمّا كارين جون بيير، المتحدثة باسم البيت الأبيض، فاتهمت تحالف أوبيك+ بالانحياز إلى جانب روسيا بهذا القرار، ما أعطى التباين السعودي الأميركي أبعادا إستراتيجيّة، تتصل بتبعات غزو أوكرانيا وحروب الطاقة التي اندلعت على هامشها.
وفي النتيجة، وصل التصعيد الدبلوماسي إلى حد إعلان مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان أن الرئيس الأميركي جو بايدن لا ينوي لقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال قمّة مجموعة العشرين المقبلة. ليوضح سوليفان أيضًا أن بايدن يعتزم إعادة تقييم العلاقات مع السعوديّة، بعد قرار مجموعة أوبيك+ الأخير.
أمّا الرد الدبلوماسي السعودي على سوليفان فلم يقل فظاظة أو قسوة، إذ جاء على شكل تسريبات لوكالة الأنباء الألمانيّة، تفيد بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم يطلب ولا ينوي لقاء الرئيس الأميركي جو بادين أصلًا. وليكون الرد أشد وطأة، أكّدت المصادر أنّ ولي العهد السعودي سيحرص على لقاء رؤساء الصين وروسيا خلال القمّة.
ببساطة، تردّت العلاقات السعوديّة الأميركيّة، وبلغت أسوأ مراحلها منذ أزمة حظر النفط العربي عام 1973. وبدا من الواضح أن السعوديّة بدأت بالفعل بالتحوّط لتدهور إضافي في العلاقات مع الأميركيين، وهو ما دفعها لاتخاذ قرارات تعيد ترتيب علاقاتها الدوليّة، عبر محاولة بناء تفاهمات وشراكات متنوّعة بعيدًا عن الغرب والولايات المتحدة.
أولويّات الرئيس الأميركي جو بايدن
لفهم أسباب التباين الحاصل بين الطرفين، من المفترض البحث عن المصالح والأولويّات التي تحرّكهما في الوقت الراهن، وخصوصًا في ما يتصل بمسائل أسواق الطاقة الدوليّة. بالنسبة إلى الإدارة الأميركيّة، تبدو مسألة معدّل التضخّم المرتفع في سوقها المحلّي الهاجس الأساسي الذي يحرّك سياساتها الاقتصاديّة. فخلال الاثني عشر شهرًا الماضية، تجاوز هذا المعدّل حدود 8.2%، في أعلى مستوى له منذ 1981.
ومن المعلوم أن ارتفاع أسعار مصادر الطاقة، التي يقودها سعر برميل النفط في الأسواق العالميّة، يمثّل أحد العوامل التي تدفع باتجاه زيادة معدلات التضخّم، خصوصًا أن كلفة الطاقة تدخل تلقائيًّا في كلفة إنتاج وشحن مختلف السلع والخدمات. ولهذا السبب بالتحديد، باتت إدارة بايدن تنظر بعين القلق إلى أي تقلّبات يمكن أن تؤدّي إلى زيادة أسعار النفط العالميّة، ومنها قرار خفض الإنتاج الذي اتخذه تحالف أوبيك+، أي موضوع الخلاف مع السعوديّة.
إلا أنّ مسألة ضبط التضخّم وأسعار النفط العالميّة باتت تكتسب اليوم حساسيّة إضافيّة بالنسبة إلى إدارة الرئيس بايدن. فالولايات المتحدة تتجه إلى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي في 8 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، التي يفترض أن تحدد هويّة المسيطر على الكونغرس الأميركي والمجالس التشريعيّة في الولايات ومكاتب حكّام الولايات.
ولمدّة عامين، كان الكونغرس يقع تحت سيطرة الحزب الديموقراطي، وهو ما قلّص إلى حد كبير من القيود التي يمكن أن يفرضها الجمهوريّون على إدارة الرئيس بايدن (الديمقراطي) من خلال الكونغرس. إلا أنّ هذا المشهد يمكن أن ينقلب كليًّا في حال تمكّن الجمهوريّون من تحقيق سيطرة على أحد مجلسي الكونغرس، أي مجلس الشيوخ ومجلس النوّاب.
وهكذا بات ضبط معدّل التضخّم، الذي يقلق المستهلك الأميركي، أبرز أولويّات الرئيس الأميركي جو بايدن، للتمكّن من استرضاء الناخب الأميركي لمصلحة إدارته، ومن ثم كسب ود الرأي العام تجاه الحزب الديموقراطي الذي ينتمي إليه بايدن. ولذلك شكّل قرار أوبيك+، الذي يفترض أن يساهم برفع أسعار النفط بشكل إضافي، طعنة للإدارة الأميركيّة في توقيت حسّاس، وهو ما يفسّر ردّة فعلها القاسية تجاه المملكة العربيّة السعوديّة.
ولعلّ أبرز ما زاد من عمق الأزمة بين الطرفين، كان غياب الود منذ البداية، بين إدارة بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بخلاف حال العلاقة بين بن سلمان والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ولهذا السبب بالتحديد، كان من السهل بالنسبة للإدارة الأميركية وضع كل ما يجري في خانة التواطؤ السعودي ضدها، وهو ما لمّحت إليه تصريحات البيت الأبيض بالفعل.
وعلى خط آخر، تدرك الإدارة الأميركيّة أنّ أي ارتفاع في أسعار النفط العالميّة سيساهم في تعزيز واردات غريمها في الحرب الأوكرانيّة، أي نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فرغم العقوبات التي تم فرضها على روسيا، مازال النظام الروسي قادرًا على بيع نفطه الخام في الأسواق العالميّة، عبر خلق شركات وهميّة وشراء أساطيل جديدة من ناقلات النفط، لإخفاء مصدر النفط الروسي وبيعه في الأسواق. ولهذا السبب بالتحديد أشارت معظم تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركيّة إلى حجم النفع الذي سيعود على روسيا، نتيجة القرار الذي اتخذه تحالف أوبيك+.
أولويّات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان
على الضفّة الأخرى، تملك المملكة العربيّة السعوديّة أولويّات مختلفة كليًّا. فالمملكة وضعت موازنة العام 2023 بإيرادات ونفقات متوازنة، إنما مع افتراض بقاء سعر برميل النفط عند مستويات تتجاوز ال76 دولارًا. وأي انخفاض في سعر البرميل في الأسواق العالميّة، سيعني تلقائيًّا انخفاضا موازيا في إيرادات بيع النفط الخام، التي تعتمد عليها السعوديّة بشكل كبير.
قبل اتخاذ قرار تقليص الإنتاج في أوبيك+، لاحظت المملكة تراجع سعر برميل نفط خام برنت إلى مستويات لامست ال84 دولارًا للبرميل خلال شهر سبتمر/أيلول الماضي انخفاضًا من 127 دولارًا للبرميل في مارس 2022، وذلك نتيجة للضغوط الاقتصاديّة التي تهدد الطلب العالمي على النفط. ورغم ارتفاع أسعار الغاز، نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانيّة، ظلّت أسعار النفط الخام تسجّل انخفاضات متكرّرة منذ منتصف العام الحالي، بفعل تراجع حجم الاستهلاك والإنتاج العالميين.
أمّا الأخطر بالنسبة للسعوديّة، فهو توجسّها من إمكانيّة تسجيل انخفاضات أقسى في سعر برميل النفط خلال السنة المقبلة، إلى مستويات تقل ال76 دولارًا خلال العام المقبل، أي السعر المقدّر في الميزانيّة العامّة. وفي هذه الحالة، ستدخل السعوديّة في عجز مالي، ما قد يهدد مشاريع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الطموحة، والتي تم التخطيط لها على افتراض أسعار مرتفعة للنفط الخام.
لكل هذه الأسباب، بحث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن مصالح بلاده ومشاريعه الاستراتيجيّة، بعيدًا عن ضغوطات الإدارة الأميركيّة الحاليّة، التي لم تملك أساسًا علاقة مميّزة ببن سلمان. مع الإشارة إلى أنّ بايدن كان تعهّد قبل وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة بجعل السعوديّة دولة منبوذة، على خلفيّة جريمة مقتل الصحافي جمال الخاشقجي، وهو ما دفع بن سلمان إلى تقليص نطاق تجاوبه مع ضغوط الإدارة الأميركيّة المرتبطة بملف إنتاج النفط.
الطرفان يعيدان ترتيب أوراقهما
شرعت السعوديّة، بعد توتّر علاقاتها بالولايات المتحدة، بمراجعة علاقاتها الاقتصاديّة الدوليّة. وبدأت بالفعل إعادة ترتيب أوراقها، بما يخفف الاعتماد على الغرب والولايات المتحدة كشركاء استراتيجيين، وبما يسمح بفتح علاقات متنوّعة مع أطراف أخرى.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم طلب المملكة العربيّة السعوديّة الانضمام إلى منظمة “بريكس”، التي تمثّل تكتّلا اقتصاديا يضم كلًّا من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ما يمثّل بديلا عن التكتّلات والتحالفات الاقتصاديّة الغربيّة. مع الإشارة إلى أبرز أهداف منظمة “بريكس” المعلنة والرامية الى تكوين نظام عالمي متعدد الأقطاب، بما يعني تقليص هيمنة القطب الغربيّ الواحد على الاقتصاد العالمي.
وللحؤول دون أي تشريع يمكن أن يصدره الكونغرس ضد أوبيك، بدأت السعوديّة تحضّر أدوات الضغط التي تملكها في وجه الأميركيين، بداية من استثماراتها داخل الولايات المتحدة الأميركيّة نفسها. فالمسؤولون السعوديون استعدّوا بالفعل لإمكانيّة قيامهم بإطلاق موجة بيع سندات الخزانة الأميركيّة التي يملكها سعوديّون، والتي تبلغ قيمتها نحو 100 مليار دولار، وهو ما سيضرب تلقائيًّا سوق سندات الدين الأميركي.
من ناحيتها، تبحث إدارة الرئيس بايدن عن أدوات يمكن أن تواجه من خلالها تداعيات قرار أوبيك+، ومنها قرارات ضخ النفط في الأسواق، من المخزون الأميركي الاستراتيجي. إلا أنّ تأثير هذه القرارات سيبقى محصورًا بالمدى القصير، دون أن تشكّل تحوّلًا فعليًا في توازنات السوق على المدى الطويل. أمّا عامل الضغط الأقوى بيد الولايات المتحدة الأميركية في وجه السعوديّة، فسيبقى تواجدها العسكري في منطقة الخليج العربي، وإمدادات السلاح والذخائر الموجهة للسعوديّة، والتي تساهم في خلق توازن بين دول الخليج وغريمتها الإقليميّة إيران.
وعلى ما يبدو، لن ينتهي الشقاق بين الطرفين خلال المدى القصير، إذ إنّ تباين الأولويّات سيظل يدفع كل منهما باتجاه مختلف، وهو ما سيعني استمرار الضغط والضغط المضاد طوال الفترة المقبلة. إلا أنّ السؤال الأهم هنا سيتمحور حول أثر كل هذه التطوّرات على طبيعة الاصطفافات والتحالفات الإقليميّة، وقدرة السعوديّة على المضي قدمًا في تنافسها الإقليمي مع إيران، في ساحات عدّة كاليمن مثلًا.