جوزيف سيجل
في الحادي والعشرين من أكتوبر 2021، نظم مئات الآلاف من السودانيين مسيرات في مدن عدة لدعم الحكم المدني، وذلك في أعقاب مظاهرات مدعومة من جماعات متمردة وبعض الأحزاب السياسية المؤيدة لعودة الحكم العسكري. وتتزامن هذه المسيرات مع الذكرى السنوية لثورة أكتوبر من عام 1964 التي أطاحت بالحكومة العسكرية وبدأت معها حقبة ديمقراطية برلمانية استمرت في البلاد لفترة. في هذا المقال، يسلط جوزيف سيجل الضوء على الأزمة التي تمر بها البلاد في انتقالها من الحكم الاستبدادي ويبحث الأسباب والخلفيات المرتبطة بالحدث.
إلى أي مدى تسيطر الحكومة المدنية الجديدة على البلاد؟
يمكن القول بأن السودان ما يزال في انتظار تشكيل حكومة مدنية. فقد تشكلت حكومة انتقالية بموجب الإعلان الدستوري عام 2019 بعد المظاهرات التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير صاحب الفترة الرئاسية الطويلة. وتكونت الحكومة الانتقالية من مجلس وزراء مدني (بقيادة رئيس الوزراء)، ومجلس السيادة (بقيادة الجيش)، ومجلس تشريعي لم يتشكل بعد. وحتى هذه اللحظة، يعمل مجلس السيادة ومجلس الوزراء بشكل مشترك باعتبارهما الحكومة الانتقالية.
ويتولى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وحكومته ظاهرياً مسؤولية إدارة الحكومة بشكلٍ يومي. ومع ذلك، فإن هيكلية الحكومة الانتقالية تقيّد على الدوام ما تبذله هذه الحكومة ورئيسها من جهود.
ورغم أن الإعلان الدستوري ينص على صلاحيات محدودة لرئيس مجلس السيادة، إلا أن الفريق عبد الفتاح البرهان يتصرف باعتباره رئيس الدولة؛ فهو يقطن القصر الرئاسي، ويستقبل الزوار الأجانب، ويتخذ قرارات تشكل سياسة السودان الداخلية والخارجية، وتقوض القيادة المدنية في بعض الأحيان.
ومؤخراً دعا البرهان إلى حل الحكومة المدنية، وتم سحب البساط من تحت اللجنة المدنية التي تحقق في الانتهاكات التي جرت في عهد نظام البشير. كما وردت أنباء عن فرض حظر السفر على الأعضاء المدنيين في اللجنة، والحكومة، ومجلس السيادة.
ويرى الكثيرون هذه الخطوات بمثابة محاولة لعرقلة العملية الانتقالية التي سيجري بموجبها تسليم رئاسة مجلس السيادة لقائد مدني في عام 2022، لتتوج العملية الانتقالية بعد ذلك باختيار حكومة ديمقراطية منتخبة.
كما تسلط هذه التحركات الضوء على عدم الالتزام الواضح من الجيش بعملية الانتقال الديمقراطي. فالحكومات العسكرية قد حكمت السودان منذ استقلاله عام 1956 باستثناء 10 سنوات فقط، وهو ما يجعل التخلي عن الحكم أمراً معقداً وصعباً.
ما هي التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية وماذا حققت من إنجازات؟
حققت حكومة تقاسم السلطة بعض الإنجازات اللافتة رغم القيود المفروضة عليها. وتشمل قائمة الإنجازات التفاوض على اتفاق للسلام مع العديد من الجماعات المسلحة المعارضة التي ناهضت قمع نظام البشير حتى صار السودان لأول مرة منذ 30 عاماً بعيداً عن خطر النزاع الأهلي.
كما حظرت الحكومة الانتقالية حزب المؤتمر الوطني الحاكم خلال رئاسة البشير. وكان الحزب الإسلامي قد توغل خلال فترة حكمه الممتدة لثلاث عقود في جميع وزارات الحكومة تقريباً بما في ذلك الجيش. وأدى ذلك إلى إدارة ضارة رجّحت مصالح الحزب على مصالح الدولة، وتحكم المتشددين بالحزب. وكانت النتيجة فسادا عميقا، وظلما، وانعدام الكفاءة.
وفتح التحول الديمقراطي في السودان الباب أمام موجة كبيرة من النوايا الحسنة الدولية، فقد رفعت الولايات المتحدة اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وما يترتب على ذلك من عقوبات. وتعهد المانحون الدوليون بتقديم مساعدة بقيمة 2 مليار دولار أمريكي. ووافق نادي باريس على إعادة هيكلة ديون بقيمة 23.5 مليار دولار.
لكن العديد من العقبات واجهت القادة المدنيين الذين افتقروا إلى الخبرة نتيجة استبعادهم من الحكومات الوطنية لفترة طويلة، وهو التحدي المتجذر في كل التحولات الديمقراطية تقريباً. وإلى جانب ذلك، فإن المدنيون ورثوا مؤسسات مشلولة. كما أدى ضعف التجانس بين القادة المدنيين والعسكريين إلى أزمة ثقة عميقة بينهما فصار التغيير بطيئاً ومعلقاً.
كما واجه التحالف المدني، الذي يضم خلفيات متباينة، انقسامات واتهامات بحجة عدم تمثيله مصالح جميع المناطق السودانية المهمشة.
واستغل الجيش هذه الانقسامات في دعواته لحلّ الحكومة المدنية. فعلى سبيل المثال، بارك الجيش الاحتجاجات الأخيرة ضد الحكومة المدنية. وتشير التقارير إلى سفر المتظاهرين إلى الخرطوم في عشرات الحافلات وأن الجيش لم يبذل مجهوداً لعرقلة حركتهم على عكس الاحتجاجات الأخرى.
وقد يبدو ذلك محاولة من بعض قادة الجيش لترسيخ الانطباع بالغضب الشعبي على الحكومة المدنية. فبالإضافة إلى تقارير تتحدث عن انتشار الجريمة، ومنع وصول السلع من ميناء بورتسودان، فإن هذه الاحتجاجات توفر ذريعة للجيش لعرقلة العملية الانتقالية.
علاوة على ذلك، تتعقد العملية الانتقالية بالتنافس داخل قطاع الأمن، لا سيما بين القوات المسلحة بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو. فوجود فصائل أمنية مسلحة متعددة ولها قيادات منفصلة هو بمثابة برميل بارود يهدد العملية الانتقالية.
كما تلعب القوى الخارجية الطموحة في المنطقة دوراً في تأجيج الانقسامات في السودان. وتشمل هذه القوى قطر، والولايات المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والسعودية، وروسيا. ويود كلّ طرف منها لأسباب سياسية وجيوسياسية متفاوتة أن يحتفظ الجيش بالحكم في السودان.
ومما فاقم الشعور بالأزمة هو محاولة الانقلاب المزعومة في 21 سبتمبر الماضي التي قام بها عناصر من الجيش (يُقال إنهم موالون للبشير) وما أُشيع عن محاولات انقلابية أخرى.
وفضلاً عمّا يحيط بالعملية الانتقالية من مؤامرة سياسية، يواجه السودان تحديات اقتصادية عميقة بسبب سنوات من سوء الإدارة. فرغم تحقق بعض درجات الاستقرار خلال الشهور الماضية، إلا أن الاقتصاد انكمش بشكل حاد منذ عام 2015. وما تزال فرص العمل قليلة ويندر توفر السلع اليومية. وبلغ التضخم 400%،. ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين الوطني ستة أضعاف ليصل إلى 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2025.
وقد كانت هذه المصاعب الاقتصادية من بين الأسباب التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام البشير.
ماذا يحمل المستقبل للسودان؟
ما يزال الوضع في السودان شديد التقلب بين مسارات متعددة ومتباينة، ورهن حسابات القادة العسكريين والمدنيين المعنيين، واستجابات القوى الخارجية الرئيسية. ويبدو أن أربعة سيناريوهات رئيسية هي الأقرب للحالة السودانية.
السيناريو الأول هو أن يحل الفريق البرهان المجلس السيادي من طرف واحد على أن يتولى بنفسه جميع السلطات الحكومية. وسيبرر البرهان هذه الخطوة بحجة “الأمن القومي” وضرورة الاستجابة إلى “إرادة الشعب” التي تطالب بقدر أكبر من الاستقرار.
السيناريو الثاني أن تنقلب الفصائل الإسلامية والموالية للبشير في الجيش على البرهان فتزيحه وتعطل العملية الانتقالية. وقد يحاولون إطلاق حملة قمعية لفرض النظام ضد أي معارضة بينما يعيدون الهياكل السلطوية لنظام البشير إلى مواقعها.
وسيؤدي أي سوء تقدير في هذين السيناريوهين – أو استفزاز الفصائل الأمنية المتنافسة – إلى السيناريو الثالث، وهو خروج القتال بين الفصائل المسلحة عن السيطرة. ومع احتمال تدخل قوى الخليج المتنافسة ستكون الخسائر عظيمة. ومن المرجح أن يؤدي هذا السيناريو إلى صراع طويل الأمد كما هو الحال في اليمن.
السيناريو الرابع الأكثر استقراراً هو متابعة عملية الانتقال الديمقراطي وتنصيب قائد مدني لمجلس السيادة. وهو ما سيلاقي ترحيباً من المواطنين ويقلّل التوتر الاجتماعي. ويوفر هذا السيناريو أفضل الاحتمالات لتدفق الاستثمار المالي الدولي بشكل المستدام، وإصلاح الاقتصاد، وتوفير الخدمات بكفاءة للمواطنين.
وعليه، فإن السودان يواجه لحظة عصيبة في العملية الانتقالية. فقد وصل الصراع بين الفرقاء المتنافسين على مستقبل البلاد إلى ذروته. وأدت الرؤى المتنافسة إلى تعليق تطلعات ملايين السودانيين إلى الديمقراطية في انتظار الغد. وما يزال المسار السلمي ممكناً حتى هذه اللحظة، لكنه يتطلب تعزيز بناء الثقة بين القادة المدنيين والعسكريين، ودبلوماسية دولية نشطة لتحديد بوصلة الطريق أمام الانتقال الديمقراطي السوداني.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://theconversation.com/au في 23 أكتوبر 2021