وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المشهد السياسي والعسكري المتقلب في دارفور

الصراع في دارفور جبل مرة
عشرات الآلاف من النازحين الجدد يفرون من قراهم بسبب الاشتباكات الجارية بين قوات الحكومة السودانية والحركات المسلحة، التي بدأت في يناير 2016 في منطقة جبل مرة. سورتوني، شمال دارفور، 23 أبريل 2016. Photo UNAMID

بعد حوالي أربعة عشرة عاماً من تفجر النزاع الدموي في إقليم دارفور بغرب السودان وسقوط مئات الآلف من الضحايا وملايين النازحين واللاجئين، تبدو الأوضاع الإنسانية في دارفور الآن كما كانت تقريباً، على الرغم من تغيّر الكثير سياسياً. وحتى مع ذلك، الأمل ضئيلٌ بعودة السلام والأمن والاستقرار للإقليم في القريب العاجل.

ففي أغسطس 2016، وقع كل من جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة ومِنِي ميناوي قائد جيش/حركة تحرير السودان الدارفوريتان على اتفاق جديد يسمى “خارطة الطريق” مع حكومة السودان بوساطة من الاتحاد الافريقي. هذا الاتفاق سبقه عشرات الاتفاقات المجهضة بين حكومة الخرطوم وحركات التمرد العديدة في السودان، إذ لا يتفائل إلا القليلون في السودان بأن هذا الاتفاق سيلاقى مصيراً أفضل من سابقاته، إلا انه قد يكون الأكثر أهمية وتأثيراً في دافور لأسباب عديدة سيوضحها هذا المقال.

المأساة الإنسانية

لا يزال الإقليم يشهد أوضاعاً إنسانية وأمنية مأساوية، بالرغم من تراجع حدة الاشتباكات المسلحة بين حركات التمرد من جهة، والقوات الحكومية والميلشيات التابعة لها من جهةٍ أخرى، وعلى الرغم أيضاً من انخفاض عدد القتلى في الاشتباكات المباشرة، بسبب تراجع قدرات الحركات على شن مثل هذه الهجمات.
تأسس الصراع في بدايته على التناقض والتنافس التقليدي بين القبائل العربية الرعوية والقبائل ذات الأصول الافريقية الزراعية المستقرة على موارد الأرض والمياه (الذي سمي محلياً حرب العرب ضد الزرقة). لكن انحياز الحكومة في الخرطوم للقبائل العربية لأسباب سياسية وتسليحها للمليشيات العربية المعروفة باسم الجنجويد، فاقم الاوضاع وجعلها واحدة من أكثر الحروب الافريقية دموية ودماراً.

وجاء في بيانٍ لمجلس الأمن الدولي، الذي صدر في يوليو 2016، مدد بموجبه مهمة البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور «يوناميد» سنةً إضافية، أن النزاع في إقليم دارفور لم يطرأ عليه أي تغيير في ظل عدم توصل الحكومة والحركات المسلحة إلى تسويةٍ سياسية، فضلاً عن استمرار الاقتتال القبلي والعمليات العسكرية بين القوات الحكومية و حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، رغم أن حدّتها خفت عما كانت عليه.

وأشار التقرير إلى استمرار عمليات النزوح في ظل أوضاع لا تساعد على عودة النازحين، وأكد استمرار العمليات العسكرية والقصف الجوي على مناطق في جبل مرة رغم إعلان الحكومة أن دارفور خالية من الحركات المسلحة بسيطرتها على آخر معاقل حركة تحرير السودان في ابريل 2016.
وأكد التقرير أن النزاعات القبلية في دارفور مسؤولة عن ثلث الوفيات في المنطقة، إضافةً لتواصل النزوح الجماعي من مناطق النزاع حيث وصل عدد النازحين إلى 2,6 مليون نازح، يقبع 1,6 مليون منهم في المخيمات في مختلف انحاء الإقليم، فضلاً عن حاجة ما لا يقل عن مليوني شخص لمساعداتٍ إنسانية، و2,7 مليون يواجهون حالة طوارئ متعلقة بالأمن الغذائي في دارفور. وأضاف التقرير أن حوالى 106 آلاف شخص تعرضوا لنزوح جديد في العام 2016، إلى جانب 300 ألف لاجئ سوداني في تشاد و50 ألف لاجئ من جنوب السودان وصلوا شرق دارفور أخيراً.

ومع ذلك، تصّر حكومة الخرطوم على أن الأوضاع الإنسانية قد تحسنت في دارفور بعد انتهاء العمليات العسكرية في جبل مرة مع عودة 800 ألف نازح في مايو 2016، فضلاً عن عودة 24 ألف نازح بعد أحداث جبل مرة. وأكدت الحكومة عزمها على استمرار عمل الفريق المشترك لاستراتيجية خروج البعثة، (Exit Strategy)، لوضع وتنفيذ خطة مغادرة «يوناميد» الإقليم بالصورة التي اتُفِق عليها “بلا مراوغة أو تسويف،” حسب السفير عمر دهب، ممثل السودان في الأمم المتحدة.

وكان تدخل مجلس الامن التابع الأمم المتحدة بتكوين لجنة خاصة لدرافور وإصدار اول قرار دولي حوله عام 2005 لفرض عقوباتٍ على السودان، تحولاً حاسماً انتهى بإنشاء البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لعمليات السلام في دارفور يوليو 2007، بعد تبنيه القرار 1769 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهو القرار الذي اعتمدت عليه الإدارة الأمريكية في عقوباتها ضد حكومة السودان ايضاً.

تتكون “يوناميد” حالياً من 15,845 من القوات العسكرية، و1,583 من أفراد الشرطة، و13 من وحدات الشرطة المؤلفة مما يصل إلى 140 فرداً لكلٍ منها (ما مجموعه 4,200 فرد) في دارفور. تتمثل مهمة القوات بحماية المدنيين ولكن أيضاً تتولى اليوناميد بالشراكة مع السلطات السودانية المساهمة في تحقيق الأمن لتقديم المساعدة الإنسانية ورصد التحقق من تنفيذ الاتفاقات والمساعدة في تحقيق العملية السياسية الشاملة والمساهمة في تعزيز حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون.

تراجع حركات التمرد

أهم ما لم يُشر إليه هذا التقرير الصادر عن مجلس الامن التابع للأمم المتحدة صراحةً لكن أكدته ضمناً، هو أن حركتي العدل والمساواة و حركة/ جيش تحرير السودان لم يعد لديهما وجود عسكري في الإقليم، بل أنّ الحكومة السودانية ذهبت إلى حدّ إعلان دارفور منطقةً خالية من التمرد. ومع ذلك، تلقت حركة العدل والمساواة ضربةً عسكرية قاصمة من قوات الدعم السريع التابعة للحكومة في ابريل 2015 في منطقة قوز دنقو، جنوبي دارفور، فيما كانت تحاول العبور بنخبة قواتها من دولة جنوب السودان إلى شماله. تبعثرت بعدها قواها العسكرية واستسلمت او انضمت للحكومة أو الجماعات الصغيرة المنشقة عن الحركة.
وعلاوة على ذلك، فقد تعرضت حركة/ جيش تحرير السودان بدورها لسلسة من الضربات والانقسامات، وبالتالي لم يبقى لها وجودٌ عسكري فاعل في دارفور. ونتيجة لذلك، لم تبقى قوة عسكرية ذات شأن في دارفور سوى قوة محدودة تتبع حركة العدل والمساواة الرافضة لأى تفاهمٍ مع الحكومة. ترتكز هذه القوة في المناطق الوعرة من جبل مرة وتقاوم بشدة، إلا أنها محرومة من أي إمداداتٍ عسكرية وسندٍ خارج المنطقة، ولن يطول بها المقام في ظل الظروف الراهنة.

دور الأطراف الخارجية

من الواضح ان عوامل إقليمية ودولية هي التي أدت لانحسار التمرد العسكري أكثر من القدرات القتالية للجيش الحكومي. إذ أنّ تفاقم الصراعات والحروب في دولة جنوب السودان، بعد الاستقلال عام 2011، قد حرمت الحركات الدارفورية من ظهير قوي، إضافةً إلى أن تورط بعض أقسام حركات التمرد في الصراعات في جنوب السودان وليبيا بهذه الدرجة أو تلك، أضعف موقفها.

وعلاوة على ذلك، رفعت حكومة تشاد المجاورة في عام 2013 يدها تماماً عن دعم حركات دارفور بالرغم من الصلات الإثنية القوية التي تربط الرئيس التشادي ادريس دبي بقبيلة الزغاوة، التي تشكل عصب الحركتين في دارفور. لكن العامل الاكثر أهمية في أزمة دارفور هو أن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الأوربي، قد عدّلت سياساتها تجاه الحكومة السودانية لأسباب تتعلق بأولوياتها في منطقة افريقيا جنوب الصحراء.

وفي ظل تمدد القاعدة وداعش وبوكو حرام في مالي والنيجر ونيجريا وليبيا وجنوب الجزائر ومناطق أخرى في شمالي حزام السافانا الافريقي، يصبح انتشار الفوضى وتفكك الدولة المركزية في السودان خطراً داهماً على جهود محاربة الإرهاب الامريكية- الأوربية. ويبدو ذلك فائق الأهمية، في وقتٍ تتعاون فيه الحكومة السودانية مع الامريكان إلى أقصى حد.

كما أن الاتحاد الأوربي يرى في الحكومة السودانية حليفاً مهماً في جهود مكافحة تدفق موجات اللاجئين الافارقة إلى أوروبا، حيث أن قسماً مهماً من اللاجئين الافارقة يعبرون الأراضي السودانية إلى ليبيا ومصر ثم يتجهون من هناك إلى أوروبا عبر دروبٍ شتى. وفي ضوء ذلك، بدأ منذ عدة أشهر تعاونٌ سوداني أوروبي في هذا المجال، تلقت الحكومة السودانية بموجبه مساعداتٍ اقتصادية من أوروبا. وعلى هذه الخلفية، لم يعد أمام قادة متمردي دارفور، الذين تمتعوا بسندٍ محلي ودولي قوي لوقتٍ طويل، إلا أن يقبلوا بصفقةٍ ما مع حكومة الخرطوم تضمن لهم حيزاً في كعكة اقتسام السلطة والثروة، كما تسمى في الأدب السياسي الدارج في السودان.